التخطي إلى المحتوى الرئيسي

..عندما تتعدى الحد الفاصل بين التساؤل والمتاهةTo the wonder



نُشر فى جريدة القاهرة
...............................................................



إسراء إمام
الأبقى فى الذهن هى الأفلام التى تتعامل معه باعتباره الحالة الأجدر فى التعاطى، تبقيه متيقظا وتدفع به مُنبها لباقى الحواس وخاصة البصرية منها لتعلق الكادرات واللقطات فى الذاكرة مع الاحتفاظ بجمالياتها كاملة. وفى الأغلب تخرج مثل هذه الأفلام عن السياق المتعارف عليه سواء فى المعالجة أو فى طريقة التصوير أو طبيعة المشهد وغيرها من التباينات التى اختصت بها عدد من الأفلام الناجحة التى خلقت لذاتها شخصية مستقلة ...
"تيرانس ماليك" هنا فى فيلمه الأحدث "to the wonder" يأخذك فى رحلة خاصة جدا متأملا فيها بعض من مفاهيم الحب والحياة مجتمعان فى إطار فلسفى ذات رونق مميز، إختار أن يُمرره إليك بشكل يتجرد كلياً من أساسيات لا يخلو منها أى فيلم، "نيل"ben afflek  و"ماريانا" olga kurlenko اجتمعا على قصة حب_ قوية على ما تبدو _فى باريس وطبقا لما يفرضه طبيعة عمل "نيل" تنتقل "ماريانا" وابنتها للإقامة معه فى نيويورك ومن ثم يتسرب بعض الملل إلى العلاقة التى بدت راسخة فى البداية وفجأة تعود مريانا إلى مدينتها بعد انتهاء التأشيرة الخاصة بها، ليتورط "نيل" فى علاقة جديدة مع فتاة أخرى _"جين" Rachel mcadams_ استمرت لوقت قررت فيه ماريانا العودة ومن ثم الزواج بـ"نيل" لينتهى الأمر بينهما نهاية مؤسفة تخون فيها ماريانا نيل ...
القصة تبدو قوية لتدفع بالفيلم إلى مصاف الأفلام الخاصة بتناول أزمات العلاقات، ولكن "ماليك" أبى أن يقدمها لك مُفرغة من فلسفيات الحياة، فتجده يخاطبك بلغة شعرية أسمى من أن تعتبرها حوارا فهى أشبه إلى الرباعيات النثرية التى تأخذك إلى ما هو أبعد من الكلمات، فبالتالى تعد تعليقا من قِبل الشخصيات على ما يحدث فى داخلهم وبينهم وبين بعضهم البعض، السرد يتجسد لك فى صورة لقطات عشوائية التتابع استطاعت فى براعة أن تنقل فى أول الفيلم عنفوان العلاقة وحيويتها بينما تاهت فى المنتصف عندما تكرر استخدامها بشكل مٌلح فباتت تدور حول نفسها فى متاهة ! ...
والحقيقة أن النصف الثانى من الفيلم كله_ وخاصة آخر ربع ساعة _تكثفت فيه تلك الحالة المتاهية، فتحول السؤال إلى هاجس سمعى وبصرى لا يُقدم احساسيسا ولا أفكارا جديدة، فتراجع كل شىء وتقدم الملل ليتصدر المشهد وغرق الايقاع فى جمود حول الانتباه عن ما تبقى من رؤية قيّمة يقدمها الفيلم عن الحب مازجا اياها بمنظور اعمق تمثل فى قصة رجل الدين الذى يتشافى هو الآخر من وعكة حب ..
وقد يرمى البعض الأسباب فى حدوث مثل تلك المتاهة على افتقاد الفيلم للحوار أو للبناء التقليدى، وهذه الأسباب الأبعد التى يمكن أن نرجع لها ما عاناه النصف الثانى من الفيلم، فالخطأ لم يكمن فى الشكل الغير اعتيادى الذى لجأ اليه "ماليك" ولكن فى عدم قدرته على الابقاء عليه فى حالة جيدة حتى النهاية، فأتى الوقت الذى افتقرت فيه اللقطات قوتها التعبيرية وأخذت تلف فى التروس ذاتها ..
الحالة التمثيلية كانت فى أوجها ...Rachel macadams  و olga kurlenko حازا على نصيب الأسد، حيث احتلا المساحة الأبرز أمام الكاميرا ليترجما مشاعر شخصياتهن، بينما تضاءل الحيز الذى ناله الرجال من الكاميرا وخاصة afflek  ، فى الوقت الذى ظهر Javier bardem بوجه مشرق وطلة مؤثرة فى دور رجل الدين ..
التصوير وهو العامل الأعظم الذى نهض عليه الفيلم جاء مبهرا بشكل ملفت،  بداية من اللقطات التى ألمّت بتفاصيل وصغائر الشخصيات الشكلية وثوارتهم العاطفية الداخلية، ومرورا باللقطات التى رسمت تلك الحالمية والبراحات التى تبث قدرا من التفاؤل والأمل فى بداية الفيلم وهى الحالة التى قصدها "ماليك"  لتتملكك لترى العالم فى صورته الوردية كما يفعل الحبيبان، فضلا عن مشاهد الغضب ولقطات التصوير تحت المياه والتعامل مع المناظر الطبيعية كلا استطاع المصور Emmanuel Lubezki تجسيده بمهارة وحرفية ملفتة ...

مع مرور الوقت ستكتشف أن لقطات "ماليك" محفورة فى ذهنك، وأن روحك احتفظت بالكثير من الحالة التى سللها إليك الفيلم سواء على المستوى الفكرى أو العاطفى ولكن الصورة ستظل منقوصة فبالرغم من ألمعيتها سيظل أحد أضلاعها المحورية مفقود .
آخر كلمتين:

_ لك أن تتخيل أن ben afflek  لم يتحدث بأكثر من اربعة جمل تقريبا طوال الفيلم ! ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...