نُشر فى موقع عين على السينما
..................................................

..................................................
"حب".. فيلم ينتمي لسينما الصورة
السبت 23 فبراير 2013 15:45:00

إسراء إمام
السينما بالأساس هى فن الصورة، وإن إنتميت يوما إلى فيلم شامل، تتضمن جمالياته تباعا فى حواره وصورته وموسيقاه فإننى أظل أكثر إنتمائا لسينما الصورة.. الصورة التى تحوى آلاف الكلمات وتمنحك الاحساس من دون صراخ، السينما التى تُبدع فى الصمت وتفترش فوقه مساحة لخطابة العيون وتذوق الألوان وتلّمس كيانات الأشياء التى تكّون الكادر فى الوقت الذى يمتلك فيه صناعها حق استخدام الحوار الذى يتبدى أمام إبداعهم فقط حبر على ورق.
فيلم "حب" من أفلام سينما الصورة، أي من الأفلام التى تتضح فيها هوية المخرج وشخصيته، من الأفلام التى تتحدث فيها مفردات المشهد ونفسية الممثل، من الأفلام التى لها خصوصيتها فلا تُشبه غيرها لتكون ضليعة فى أن تكون ذاتها وتُخلّف فيما ورائها لمسات بدائية هى اختلقتها قد يعدّها الآخرون نهج ليسيروا عليه.
سيدة مع تقدم عمرها تعانى من حالة شلل نصفى تتطور مع مرور الوقت إلى فقدان كامل للقدرة على التعايش ليفضى بها الأمر فى النهاية قعيدة الفراش من دون حراك ولا نطق قائما على رعايتها زوجها الذى تحمّل أمرها على عاتقه، محترما رغبتها فى عدم الذهاب إلى المستشفى أو دار للرعاية، إذن أنت أمام قصة عادية قد تم تداولها بشكل أو بآخر فى أكثر من فيلم والأهم معالجتها بالشكل الأكثر شيوعا المتمثل فى غواية المُشاهد انسانيا والاسهاب فى إغراقه بين فكاك دراما شاعرية خاوية فاقدة الحس رغم حرارية شاشاتها على الدوام بحق أو بدون وجه حق!
جمالية الفيلم تقوم فى الأساس على الحالة التى إختار أن يقدمها لك متجسدة بتكثيفه الواقعية المأساوية التى تحويها تركيبتنا البشرية والتى تفوق فى دراميتها مما ننسجه من دراما يفرزها الخيال. المخرج "مايكل هانيكا" قرر فى هذا الفيلم أن يعكس صورة المرآة التى ما إن وقف أمامها أبطال قصته لتجلّت ووضحت فيها صراعات كل منهم فرادا واشتباكات كل منهم بالآخر، وبالعدسة القريبة فصّل لك وجهى الرجل وإمرأته وبينهما ضعف لعين مُتلبس هيئة مرض أصاب جسد المرأة ونفض ذرات الغبار عن خبايا نفسيتين بشريتين تعاشرت لسنوات طوال دون وعى منها بأناها الكاملة.
المرأة كلما التهم جسدها المرض تشبثت بضراوة فى كبريائها ليعّولها عناء ضعفها الذى نال من روحها أكثر مما ناله مرضها، حب زوجها ورعايته لم يهبانها السلام الروحانى المطلوب كأولوية لمواقعة الحياة فإذا بها فزعة على الدوام غاضبة وغير راضية يتملكها إحساس الاهانة، وفى المقابل صبر الزوج لم يهبه حصانة كافية من شذرات نصالها الجامحة الضاربة بعرض الحائط وجوديته والكيان الملموس لاحتواءه الازمة ومحاولته التعامل معها بأخلاق الفروسية التى تليق بما يجمعهما من حب أو بالأحرى ما تجمعهما من حقيقة على مبعدة من المبالغات السينمائية الدرامية التى قد تصور نفس انسانية قادرة أمام كل هذا الضغط النفسى والعصبى أن تحافظ على هدوئها وحكمتها فى التعامل مع الأمر فى سبيل حب أفلاطونى لا حقيقة لوجوده بين مكامن أنفسنا.
كادرات واسعة فى بداية المشاهد لا تُلقى بنظرك هباءا هنا وهناك طالما لم يقتضي الظرف ذلك، تنقل فى براح الصورة.. الجامدة التي لا تشقها لقطات استعراضية بلا داعى، دوما يتوارى الشخص الآخر بوجهه عن الكاميرا إن كان الكادر يحمل شخصين ليدفع بذهنك متيقظا لما يرسمه هذا الوجه من ملامح لن تراها أنت فى هذه اللحظة أبدا.. فقط ستكون قادرا على تصورها فتبقى حالة النشاط الذهنى حليفة لك وأنت تتبع الحدث.
لقطات طويلة صامتة تشعر وكأنها تخترق رئتى الشخصية وتقتحم مخيلتها ونبض مزاجيتها بشكل يفوق بمراحل التعبير بالكلمات. الاحتفاظ بالكاميرا لتلحظ من بعيد حركة الشخصيات فى اوقات غيابها بداخل غرفة نوم أو مطبخ وخلافه لترى ظلالها تتحرك أو تكتفى فقط بخطوات قدميها.. فى لمسات كتلك كلها تضع يدك على شخصية ومنهجية "مايكل هانيكا" فتتعرف على بطاقته السينمائية المتفردة والتى تفسح لك مجالا لأن تبحث بعينك وترى بمُخيلتك وتسمع بإحساسك.
وأنت تشاهد "حب" تترفع نفسك عن نوعية من الابتذال باتت مشروعة منذ الأزل فى أدائية الممثل وكتابة السيناريو ورؤية الإخراج، فلا تتعثر بأى تلميحات مُبتذلة على وجه الممثل ليشير لك فى بلاهة بما يعانيه جوفه. كل شخصية تحتفظ بما يختلج فى صدرها قصرا عليها ويتبدى على وجهها بالضبط ما تريد الاجهار به أمام من يقابلها ، حتى الكابوس الذى راود الزوج فى منتصف ذروة الأزمة بعدما تسرب إليه الشعور بالتيه لم يكن أبله ساذج خرائطى فى تكوينه يدلك فى سهولة على ما تنتفض به نفسية الشخصية بل وارب لك بابا بات عليك أنت وحدك أن تنفذ منه ، وبمحاكاة كتلك إكتسب الفيلم أقوى منطق قد يُعبر عنا " أننا نحن لم نتفهم ما نُعانى لكى نروضه طواعية صورة واضحة أمام من حولنا ". ولذلك كان المشهد الذى امتدت فيه يد الزوج إلى الوسادة بكل هدوء ليخنق به زوجته فى فراشها بقلب بارد ذات صدى زلزالى.
اللقطات التى تقصدت أن تأتى بالعتمة والوحشة فى أرجاء المنزل اثر اكتشاف مرض الزوجة مباشرة جاءت لتُعلمك بأن ثمة حياة انتهت فى هذا المنزل لتبدأ أخرى لا تشبه الأولى فى شىء ، والمشهد الذى يُخرج فيه الزوج الحمامة التى تطأ بقدميها الصغيرتين باحة المنزل عندما استشرت به رائحة المرض تُعلمك هذه المرة بأنه ليس ثمة أى حياة بين هذه الجدران.
"لقد جعلتها هذه المرة تتحرر".
تلك الجملة التى كتبها الزوج فى ورقياته قاصدا بها نفس الحمامة التى زارت بيتهم من قبل، جاءت إثر مشهد طويل طارد فيه الحمامة بتعنت قاس ومن ثم أمسك بها تحت شال عريض وأنت على غير هدى بمصيرها المحتم على يديه ومن ثم تجىء هذه الجملة التى خطها بقلمه لتنبئك بكل بساطة عن معنى التحرر الذى بات يتشبث به وكأنه قارب نجاة.
النهاية رغم صمتها جاءت مفجعة من غير أى عويل أو تضليل درامى، يسمع الزوج صوت جلبة تُحدثها زوجته التى قتلها منذ أيام بالمطبخ فيخرج ليراها تخبره وهى منهمكة فى أعمالها " كدت أنتهى تقريبا .. إرتدى حذاءك لو أردت" فيلبى طائعا رغبتها فى رضا يشوبه بعض من تردد ومن ثم ترتدى هى معطفها وتملى عليه جملة أخرى تطلب منه فيها ارتداء معطفه ليخرجا سويا إلى عالما لن يعود منه الزوج.
آخر كلمتين:
* آخر لقطات ذهبت فيها الابنة لزياره الشقة وهى خاوية من أمها وأبيها جاءت ضعيفة وأخذت من وقع تأثير النهاية.
* الاستخدام القليل للموسيقى جعلك أكثر إرهافا فى الاستمتاع بكيان الصورة ومفرادتها والانصات إليها.
تعليقات
إرسال تعليق