التخطي إلى المحتوى الرئيسي

Blue jasmine..مهزلة وودى آلن

نُشر فى موقع روزاليوسف
.......................................................................................


إسراء إمام
أسوأ ما يُمكن للمُتفرج أن يفعله وهو يشاهد فيلم مقتبس، أن يُقارنه بمثيله الأصلى، وأسوأ ما قد يفعله هذا الفيلم المقتبس بالمتفرج أن لا يمنحه أية فرصة للهروب من شبح الفيلم الأساسى.
Blue jasmine
من الأفلام التى تُرغم مُشاهدها على استحضار الشريط الفيلمى الأقدم الذى قام عليه جزءا كبيرا من قصتها، وهو فيلم  a street car named desire 1951 ، وذلك لأن فيلم وودى آلن blue jasmine لا يتمتع على مستوى فعلى بأى خصوصية حقيقية، أو إضافات نافذة الأثر على الشخصيات والأحداث بالسناريو، بينما اختار أن يتماهى فى التلاعب مع الشكليات، التى برعت فى ملأ فراغات الحدث على صعيد سطحى، بعكس الفيلم الكلاسيكى العبقرى الذى سبق وأن قدم للمتفرج وجبة دسمة، بخصوص الشخصيات والعلاقات، لم يمنحه فيها مفاتيح اللغز طيّعة سهلة المنال، وإنما إكتفى بأن يجتهد فى غزل بواطن الشخصيات، وترك تصرفاتها وأحادثها وتطورات المواقف فيما بينها هى من يُفصح عن طبيعة ما تعانيه.
بمقارنة blue jasmine مع a street named desire ، فإنه لا يساوى أى شىء، ولكن تردى قيمة فيلم وودى آلن لا ترجع لكونه لم يفلح فى إخراج نفسه من هذه المقارنة التى أتت عليه، وإنما يعود على حقيقة ما يعانيه من مشاكل بشكل مستقل.
الشخصيات
شخصيتى جينجر وجاسمين على وجه الخصوص، شخصيتين لا يحملان أى قدر من الخصوصية، الخطوط العريضة لكل منهما مستمدة من الشخوص التى سبق وأن طرحها المخرج إليا كازان فى فيلمه الأشهر والأجمل، والغريب أن وودى آلن لم يحسن حتى استغلال هذه السمات التى عمل على أن يحاكيها، بينما عمد فى تناولها بشكل ساذج مفضوح نواياه، فأولا ابتذل مشاكل جاسمين النفسية وجعلها العنوان الأكبر لهذه الشخصية بشكل يعمى عن بقية مُكملات دوافعها الدرامية، فهى السيدة المتعجرفة التى تعانى طوال الوقت من تشنجات عصبية ظاهرة، وتحادث نفسها أحيانا، وتصرخ فى علو صوتها لكل من حولها بشكل كرتونى وكأنها تُلفت نظرهم ومن قبلهم المتفرج إلى كونها شبه مجنونة. فإضافة إلى أن شخصية كازان لم تكن بمثل هذه الهزلية المفتعلة، إن شخصية جاسمين جاءت خاوية الوفاض، لم تحتفظ بسمات واضحة يمكنك أن تعوّل عليها، فبرغم هذه المساحة الفضفاضة التى خصصها آلن للسرد عنها هى وزوجها فى الماضى، إلا أن العلاقة بينهما تظل لا معنى لها، لم يشعر فيها المُشاهد بقيمة هذا الرجل فى حياتها، وهو ما كان لابد وأن يٌقدمه السناريو لسببين، أولهما إتمام الخطوط الرئيسية لهذه الشخصية المنقوصة، واضفاء بعض من الثراء الدرامى عليها، وثانيهما سبب يخص البنية الدرامية للفيلم نفسه ويمكن التطرق إليه تفصيلا فيما بعد.
وشخصية جينجر هى الأخرى جاءت لتُكرر نفس المأساة، فلقد احتفظ  آلن ببعض من صفات شخصية إليا كازان، أبرزها ترددها الدائم حيال ما يبدر من تصرفات أختها، ولكن آلن هنا أراد أن يضع بعض من لمساته، فصاغ شىء من الحنق الواضح الذى تكنه لهذه الأخت التى تميل دوما لإنتقاد شكل حياتها بلا تهذيب، وما كانت نتيجة ذلك إلا مزيد من التخبط الغير مقبول فى الشخصية، التى نراها فى وقت ما تدافع عن أختها بشراسة ومن ثم تهاجمها بنفس الحماسة، تضمر لها الغيرة بقوة ومن ثم تضامن معها بشغف. ومزيد من لمسات آلن، أبدت جينجر كإمرأة خرقاء، يسيل لعابها على أية رجل، ترغب فى رجل ثرى قابلته فى حفلة ما لمجرد أن تُجارى التطلعات التى زرعتها أختها فى رأسها، وفى الوقت ذاته تعود لرجلها الرث بعدما أن يهجرها الآخر، لمُجرد أنه يحبها وأن ليس ثمة رجل غيره يقبل بها .
العلاقة بين الشخصيتين فى فيلم وودى آلن، إختارت أقصر المسافات وأقربها توقعا، فكان الحقد هو مفتاح التعقيد الوحيد الذى يجمع بينهما، فالأختين لهما ماضى طويل معا فيما يخص هذا الصدد، بداية من عُقدة جينجر التى تُفصح عنها دوما بخصوص تقديم والدتها لجاسمين عليها فى التعامل منذ الصغر، فالمُشاهد ليس بحاجة لأن يُفكر بأى شىء، فعلاقة الأختين مُضغة لا مذاق لها، لن تتحمل التأويل أو القيل والقال، ستذوب فى الفم كما ستتلاشى من الذهن بمجرد أن ينتقل المشهد إلى حدث آخر.
بقية الشصخيات لم تكن إلا واجهات كارتونية، تدعو إلى السخرية شكلا ومضمونا، بداية من عشيق جينجر البائس ومرورا بزوج جاسمين ونهاية بالرجل الذى أبدى رغبته فى الزواج منها، وخاصة هذا الأخير الذى وقع فى هواها بدون أى ترتيب أو مبررات، تدفع بالمتفرج لكى يكون جزءا ولو ضئيلا مما يحدث، وإنما النية فى الوصول إلى النتيجة المفترضة لدى وودى آلن كانت أهم من التمهيد إليها.
السيناريو
تضرب سيناريو وودى آلن حالة ملحوظة من الثرثرة، ويخيم عليه فضاء لم يُسهم إفراط آلن بالعودة لسرد الماضى فى تغطية مساحاته، تلك الحيلة التى لجأ إليها آآلن وما نال منها فيلمه سوى المزيد من الإخفاق والبرود، فهو إختار أن يسرد الحدث على مستوى خطين دراميين، أحدهما يمثله إقامة جاسمين مع أختها جينجر فى مدينة سان فرانسيسكو بعدما تم القبض على زوجها بتهمة الإحتيال وضياع أصول أموالها لأن الحكومة استولت عليها، والخط الثانى خط الفلاش باك الذى يعود بالمتفرج تفصيلا إلى الواقعة التى جمعت جاسمين بزوجها. والتى أسهب فيها آلن خوضا فى تقديم معلومات موفورة سلفا لم تُضيف إلى إدراك المفترج أى جديد، ولم تنجج إلا فى تشويشه. متناولة علاقة الزوجين بهامشية، على الرغم من ان الفكرة التى رمى بها آلن تفيد بأن إنهيار جاسمين (المبالغ فيه) كان بسبب إحساسها بأنه تم رفضها من قِبل هذا الرجل، ولكنه تجاوز هذا ببساطة فى المعالجة، واكتفى بالمعلومة كعادته، وعلى الصعيد الآخر لم يسعه العمل على الخط الدرامى الأساسى وهو إقامة الأختين معا، وإنما إختار الهروب للدوران فى حلقة معلومات مفروغ منها، قانعا بتقديم دراما فعلية مشوهة فى علاقة الأختين، ومسار الحدث الذى يجمعهما، وبالغ فى التركيز على أعراض جاسمين النفسية، ومنحها عقلا شبه مخبولا متزاهيا بصياغته على هذا النحو، ومستثمرا إياه فى كل موقف عرضى قدمه السناريو، بداية من عملها لدى الدكتور الشره الذى يتطلع للتحرش بها_وهى حكاية اخرى لا داعى لها جاءت لتملأ السياق، لا يهم إن كانت مكتملة أو مُقنعة_، ومرورا بصياغة علاقتها مع كل من حولها، ونهاية بخيبة أملها فى علاقتها بالرجل الذى تمنت الزواج منه لتهرب من واقعها المزرى.
عدد من المشاهد الأخرى التى جمعت بين جينجر، وبين رجلا ثريا التقت به فى أحد الحفلات، جاءت على نفس المنوال، الذى يلقى إليك بالمعلومة وكفى، لاهثا خلف ما يبغيه منها فى الأساس، فهو الخط الذى تم اختلاقه لكى تعود جينجر إلى رجلها المبتذل، سائمة تذمرات أختها التى طالته وقللته فى عينيها، متحدية اياها، ومقنعة حالها بأن هذا الرجل هو الأنسب بالنسبة لها.
سيناريو وودى آآلن، يُقدم إليك رؤية أقرب للشفهية، يٌلقنها لك بالملعقة، ويزعق بها طوال الفيلم ....
"هذه جاسمين ..إمرأة مختلة، نعم ألا ترى، إنها مختلة، تصرخ وتتحدث لنفسها، تتشنج وتتعرق طوال الوقت، وهذه أختها، يعانيان من مشكلة واضحة فى علاقتهما، يحقدان على بعضمهما البعض ولكن مازال بعض الحب يربط بينهما، جاسمين تريد أن تهرب من ماضيها المضطرب، وأختها تطمح فى أن تبنى حياة أخرى، ويخفق أمل الإثنين، فتصاب كل منهما بإنتكاسة، الأولى تهرب إلى الشارع وتتمادى فى ممارسة جنونها، والثانية تعود إلى رجل لا تحبه لمجرد أنها لا ترى غيره".
وفيما بين هذه السطور لن يجد المتفرج أى شىء يدعوه لمشاهدة الفيلم، لأنه لا يملك سوى هذا الطرح السهل تلخيصه فى أقل من دقيقة.
آخر كلمتين:
_ من يدّعى أن فيلم وودى آلن، طرحا خاصا به لا يمت بصلة إلى فيلم كازان، فهو يغالط نفسه بالتأكيد لأن تيمة الحدوتة بأكملها تخص فيلم كازان المقتبس بدوره من مسرحية تحمل نفس الإسم، أما عن رطوش وودى آلن المختلفة فما هى إلا تصرفات صبيانية ستُحسب عليه وليست له إطلاقا.

_لم ولن يشفع لوودى آلن ، ترشح كيت بلانشيت لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة، فهى صحيح بذلت الكثير لكى تُجارى عبث هذه الشخصية التى إختلقها، وإنما يبقى مجهودها يحمل اسمها هى فقط.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...