التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كتاب د.ناجى فوزى "قراءة خاصة فى مرئيات السينما".. وسيلة قيمة لاطلاعك على اسرار فن المشاهدة

نُشر فى جريدة الحياة اللندنية
.......................................................


اسراء إمام
لا يختلف اثنان على كون السينما فن راقى ولكن الأرقى دوما أن تكون معنيا بمشاهدتها كما ينبغى.
 بنسب متفاوتة تتعدد مستويات المشاهدة من شخص لآخر حتى ولو كانت عن وعى ودراية وإلمام بهذا الفن الراقى بينما يصل بنا الدكتور ناجى فوزى فى كتابه " قراءات خاصة فى مرئيات السينما" إلى ذورة التلقى ويقدم النموذج الاقرب إلى الكمالية فى مشاهدة فيلم.
أفلام كثيرة تُجبرك على الاصغاء لصورتها .. تُحتم عليك التنصت إلى ما تُضّمنه لك وتدفعك لأن تشعر به لأنها الوسيلة التى إختارت أن تُعبر بها لدرجة تصل إلى استبدال الكلمات واختزالها فى تكوينات مرئية تشى بمعانى معينة، ولكن الرائع أن د.ناجى فوزى اختار فى كتابة مجموعة من الأفلام التى لم تثير بصرية المتلقى فتجبره على الانتباه لها، وإنما هى الأفلام التى عنت بتفاصيل صورتها من دون أن تضعها_أى التفاصيل_ تحت بقعة الضوء وانما ابقتها عنصرا يتوسط باقى العناصر الأهم التى فى الأغلب تُلهى المشاهد عنها،بينما آثر د.ناجى التقاطها وقراءتها بشكل ملفت يعيد حسابات تقييمك للفيلم..
تحليل الكادر
يستهل د.ناجى كتابه بتدقيقات مرئية تخص فيلم "بداية ونهاية" وتعتبر تلك المقالة من أفضل مقالات الكتاب فضلا عن إنها من أقيم ما كُتب عن مكملات الفيلم المرئية، فبداية من اللقطة الأولى التى تعاطى معها د.ناجى بذهن متيقظ وبصريات متقدة والتى يظهر فيها حسنين "عمر الشريف" على مبعدة بين براثن المطرقة والحديد الذى تدكه حيث استشف منها مضمونية مكثفة أراد صلاح أبو سيف أن يختزلها فى مكون مرئى فعال مفاده التعبير عن هضم المجتمع لحقوق هذه الطبقة المعدومة التى ينتمى إليها حسنين بشكل عام، وفى الوقت ذاته يدلل على المصير الذى ينتظر حسنين فى نهاية الفيلم رغم كل طموحاته وتطلعاته المستميتة طوال أحداثه. مثل تلك الفقرة الاستباقية توحى لك بموهبة الكاتب  وقدرته المذهلة على تحليل مفردات الصورة.
وقد شهدنا نفس المقدرة أيضا فى مقالة فيلم "ليل وقضبان" حيث ربط بين جملة "احنا كلنا حشرات فى بطن الجبل" والتى جاءت على لسان أحمد البطل "محمود ياسين" وبين الكادر الذى ضم المساجين بلباسهم الأسود متناثيرن بحجم صغير بامتداد مساحة الجبل الأبيض مما يعيد إلى الذهن وقع جملة البطل بأنهم حشرات، وقد استدل الكاتب بمشهد للبطل نفسه يدعم أثر نفس الجملة عندما احتمى  ببطن الصخرة من ضربات الشلقانى حارس السجن وكأنها ملجأه وملاذه الوحيد،إلى جانب مشهد الافتتاحية التى يظهر فيها السجين الهارب خارج من بطن الجبل فى عدم تناسب واضح بين الكتلتين يشير إلى نفس المعنى .
وتكرر نفس الشىء فى حديثه عن فيلم "زوجتى والكلب" فتناول حركة الكاميرا فى المشهد الذى يتخيل فيه مرسى"محمود مرسى" زوجته سعاد"سعاد حسنى" تخونه مع صديقه نور"نور الشريف" بقدر من التحليل فرصدها تدور حول نور وسعاد فى اتجاه معاكس للذى تدور فيه حول مرسى فى نوع من رفض مرسى لهذه العلاقة ورفض لفنان الفيلم_إشارة إلى صناعه_ لخيالات وهواجس مرسى ذاتها.
بينما جاءت مقالة فيلم العصفور بأكملها تقريبا تحليلا لمكونات الكادر واتجاهات شخصياته، وقد عبر الكاتب عن اتجاه يمين الكادر الذى اتخذه فنان الفيلم رمزا لكل شىء يراه إيجابيا وعلى العكس اتجاه اليسار الذى كان وجهة الشخصيات والأحداث السلبية .
تناول بعض المشاهد تفصيلا من جهة الصورة
فى فيلم الشوارع الخلفية يتعرض الكاتب للحادثة الأهم التى تقع لعائلة داود أفندى والتى تضبط فيها عديلة "سناء جميل" زوجها خارجا من المطبخ اثر مضاجعته للخادمة وفى الوقت ذاته ابنها سعد "نور الشريف"وهو يلتمس طريقه إلى نفس المكان للقيام بنفس الفعل، يصف الكاتب المشهد تفصيلا وينسبه إلى اسلوب الاخراج من العمق فيقول:"داوود فى يمين الصورة يوازنه الإبن سعد فى يسارها،الاثنان يحملان نفس الغرض للخادمة (كلاهما يحمل دورق المياه)وإن كان الأول قد نال وطره منها (هناك مياه فى دورقه) وتظهر الخادمة فى اقصى عمق الصورة فى مركز الاهتمام وعديلة تتقدم عنها بوقوفها كالحارس أمام باب المطبخ بما يؤكد سيطرتها الفعلية على الموقف"..ويرفق فى آخر المقال رسم كروكى يوضح موقع الثلاث شخصيات كما وصفها الكاتب بما يدلل على المضمونية التى قصدها المخرج كمال عطية، و يتجلى الكاتب براعة فى تعاطيه للمشهد التالى للواقعة ذاتها حيث يتناوله بنفس الاهتمام منحيا كل جزء فيه على حدا، راصد حركة الأم عديلة التى استشرت خلال المشهد بأكلمه فى مدلول ينم عن قدرتها على احتواء الموقف والتعامل معه قهرا فهى التى تقدم الطعام لولديها _بما يفيد بأنها تخلصت من الخادمة قبل قدوم _النهار وتقوم بالنفخ فى شعلة فتيل ماكينة القهوة التركى ومن ثم تغطيها فى تفصيلة وصّفها الكاتب رمزا يشير إلى اطفائها آخر رمق فى رجولة زوجها وحياته الجنسية بشكل عام .
أيضا القياس الذى قام به كاتبنا بين مشهدى ضرب الشلقانى لأحمد ومشهد تهجم عبد الحميد وهو السجين صديق أحمد على الشلقانى نفسه، ففى المشهد الأول توالى الشلقانى على أحمد بالضرب بينما أحمد انطرح أرضا وظل يتراجع للإحتماء بالصخرة، وفى المشهد الآخر أصبح الشلقانى فى نفس وضعية أحمد بعد أن طرحه عبد الحميد أرضا ورغب فى القاء حجر كبير على وجهه متوقفا برصاصة من رصاصات العساكر بينما توقف الشلقانى فى المشهد الذى يسبقه بأمر من رئيسه ويباين كاتبنا الفرق بين الأمران فالأخير يتوقف بكلمه والأول يتوقف برصاصة .
التقاط تفاصيل غائرة داخل الكادر وتحليلها
ويأتى نصيب الأسد من هذه الملاحظات فيما يخص فيلم"بداية ونهاية" مثلا، ومن أهم ما قدمه فيما يخص ذلك حديثه عن السلم الذى يودى إلى بيت حسن "فريد شوقى" وحرص أبو سيف على أن يبرزه فى مشهدين ذهبا فيهما اخويه ليطلبا منه استعارة بعض النقود، فتُظهر الكاميرا هبوطهم الملحوظ إلى الدور الأرضى بينما تفادى ظهوره فى مشهد زار فيه حسنين_ بعدما دخل كلية الشرطة _ أخيه حسن فى اشارة إلى التغير الذى طرأ فى نفس حسنين اثر مرئاه لذاته وهو يرتدى البدلة العسكرية ويناديه الآخرون بلقب الضابط.ومن أقوى ما تناوله الكاتب أيضا فى نفس الفيلم الافتات المكتوبة التى استخدمها أبوسيف لزاما لظهور بعض الشخصيات أو اجتماعها فى كادر واحد مثلا لافتة ( اتقى شر من احسنت اليه)التى  اعتلت الحائط متوسطة نفيسة "سناء جميل" وأخيها حسنين ورامية إلى طبيعة العلاقة بينهما والنهاية التى ستبلغها، ولافتة ( الصبر مفتاح الفرج) التى اجتنبت المرآه الموجودة  فى غرفة نفيسة فضلا عن كلمات اعلان المأذون الشرعى المرسومة على الحائط بين نفيسة والبقال سلمان "صلاح منصور" فى المشهد الذى كانت تطالبه فيه بأن يتزوجها كما وعدها ...الاضاءة  فى الفيلم كان لها نصيب أيضا فى ملحوظات د.ناجى والذى التقط من ضمنها تدقيقة اُخذت على أبو سيف، حيث الضوء الذى سطح فى مدخل بيت حسين متبديا فى آخر اللقطة التى كان يدرس فيها فى الشارع على ضوء عمود النور لان والدته طلبت منه أن يغلق لمبة الجاز توفيرا للنفقات ..ويطرح الكاتب سؤالا ما المدعاة اذا إلى وقوفه فى السقيع يستذكر بينما مدخل البيت يضج بالنور ؟؟!.
ويستحوز فيلم"ليل وقضبان" على قدر ليس بهين من هذه التفاصيل حيث يلاحظ الكاتب ملازمة النور والنار لظهور الزوجة سميرة"سميرة أحمد" فى رمزية لعاطفتها المتأججة ويدلل على ذلك فى المشهد الذى تُحرك فيه سميرة أخشاب المدفأة لتتزايد ألسنة النار مُعبرة اشتعال رغبتها فتتقلب بعدها على فراشها بأرق، كما يرصد أيضا المقاعد التى فصلت بين الزوج والزوجة على مائدة الافطار فى رمزية لتعالى الحواجز التى تقف بينهما وخاصة بعد دخول أحمد"محمود ياسين" حياة الزوجة، وتأتى التفصيلة الأهم فى نفس الفيلم عندما يلتقط الكاتب ملازمة توسط بنادول الساعة بحركته المتوترة بين توفيق"محمود مرسى" والشلقانى"توفيق الدقن" بعدما يخبره الشلقانى أن زوجته تخونه ويصبح ملزم تجاهه بأن يقدم له الدليل ليأتى بنادول الساعة رمزا معبرا للإنتظار ومؤشر لتوتر الموقف بأكمله.
فى بعض مواطن الكتاب قد تختلف مع د.ناجى فوزى فى تأويله لبعض المرئيات وأخرى يراودك فيها احساس باستغراقه فى تناول بعض التفاصيل الأكاديمية التى عبر عنها بشكل قد يُربك القارىء أحيانا وأخرى ستعترف فيها بضعف بعض مقالات الكتاب مثل مقالة المومياء وشفيقة ومتولى ولكنك ستظل على الدوام منبهرا بتلك العين السينمائية المتفردة التى ستبقى مدينا لها باطلاعك على اسرار جديدة لفن المشاهدة 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...