التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السينما المصرية واشكالية الرومانسية (وجهة نظر)

نُشر فى جريدة القاهرة
.......................................................


إسراء إمام..
يقول إحسان عبد القدوس فى مقدمة قصة "الخيط الرفيع"..
"من الصعب أن نتبين الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحب وغريزة التملك ، فإن الحب مقرون دائمًا بحب التملك . . فكل من يحب يتمنى أن يمتلك من يحب ، وقد تتحقق أمنيته ، فتكتمل له عناصر الحب ، فإذا لم تتحقق يبقى الحب ناقصًا أحد عناصره ، ولكنه يبقى . . فالتملك عنصر من عناصر الحب . . لكن الحب ليس دائمًا عنصرًا من عناصر التملك ، فإنك تستطيع أن تمتلك دون أن تحب . . كل ما هنالك أن غريزة التملك قد تشتد بك ، وتعصف بنفسيتك حتى يخيل إليك أنك تحب ! وهذا هو الخيط الرفيع ! !"
وكما يرمى إحسان بأن هناك دوما خلط بين الحب وبين مفاهيم أخرى مشابهة ، فعلى الدوام أيضا يتم الخلط بين الرومانسية وبين تبعاتها من المفاهيم، على سبيل المثال فى الفقرة السابقة يناقش احسان اشكالية هامة تخص العلاقة الانسانية التى تتخذ فى شكل من اشكالها الحب الخاص بين الرجل والمرأة ولم يختص أبدا المشاعر الرومانسية فى حد ذاتها ولا تطرق لها أبدا ..وبالتالى فإنه من الصعب اعتبار الفيلم الذى تم انتاجه عام 1971 والذى يتناول قصة إحسان بنفس اسمها فيلم رومانسى وان تم تصنيفه مجازا تحت هذه الفئة ..
رومانسية أم شاعرية؟
أفلام كثيرة تم تصنيفها على أساس رومانسى وهى أقرب منها إلى الطابع الشاعرى،مثلا فيلم "نهر الحب" عام 1960 والمأخوذ عن رواية لتوليستوى بعنوان "آنا كارنينا" ويمكننا القول أن رواية توليستوى ذاتها ليست رواية رومانسية وانما فى مضمونها تناقش مفهوم احساس تلك السيدة التى تشعر بحريتها فى أن تختار شكل حياتها والمسئولية التى ستترتب على قرارها هجر ابنها واختيار عِشيقها الذى لم يكن فى معاملته لها عند حسن ظنها فى النهاية بين سطور الرواية الأصلية ،مما تستدل منه على المنطق الذى أراد توليستوى تسريبه إليك بأن ليس ثمة شيئا فى الحياة يمكنك أن تتأكد من حقيقيته وأن المنطق دوما يكمن فى ايمانك بعدمية المنطق فى أى شىء . الفيلم المصرى اختار أن يتناول الرواية بشاعرية أكثر وتجاهل مساؤى أفعال العشيق مفضّلا موته ليُحافظ على الحالة الحالمة التى صنفته من أقوى الأفلام الرومانسية بينما هو فى مازال فى باطن الأمر يُناقش حق هذه المرأة فى اتخاذ قرار قاطع فى اختيار شكل حياتها حتى وإن كانت أم وقرارها سيترتب عليه أن يتم حرمانها من ابنها..
على هذه الوتيرة تأتى أفلام مثل "بين الاطلال" عام 1959 و"رد قلبى" عام 1975 وغيرها من الأفلام التى صدّرت فى واجهتها صورة رومانسية زاعقة لكنها فى حقيقة الأمر هشة بينما ضمّنت فى داخلها موضوعات أقوى كان لابد من أن تكون هى الأساس فى تصنيف الفيلم ..
على العكس جاءت أفلام لم تُصنف على كونها رومانسية بينما حوت فى مضمونها مشاعر رومانسية مؤثرة منها فيلم "غزل البنات" 1949 الذى يستحق رغم ملامحه الكوميدية أن يندرج تحت قائمة الأفلام الرومانسية القوية التى تناولت مشاعر الرجل الأربعينى الذى يحب فى صمت تلميذته ويظل طوال الفيلم آملا بغير وعى فى أن تبادله ما يشعر به ، أنت هنا أمام مشاعر حب مكثفة لا يزوغ بك السيناريو عنها هنا وهناك وإنما يستمر فى تصعيدها ومن منا يجرؤ على نسيان ملامح الأستاذ حمام الباكية وهو يستمع إلى أغنية عبد الوهاب "عاشق الروح".مثال آخر يمكننا تناوله فى فيلم "أفواه وأرانب" عام 1970 وهو الفيلم الذى بدت قصديته واضحة فى تناول قضية تحديد النسل بينما وللمفارقة الكوميدية قدم حالة رومانسية قوية بين "نعمات" وسيدها "محمود" بغض النظر عن الفشل الذريع للفيلم وتشتته فيما أراد تقديمه من الأساس ولكنه نجح وبقوة أن يصيغ مفردات علاقة "نعمات" و"محمود" على أساس رومانسى مؤثر ، مثال آخر على نفس الوتيرة نراه فى فيلم "اليوم السادس"1986 ..
الرومانسية وسينما الألفية الجديدة ..
ما إن هل عام 2000 حتى اتسعت اشكالية البحث عن مفهوم الرومانسية المفقود، فأتت معه أفلام نمطية التصنيف عُرفت باسم سينما الشباب ، وهى التى احتفظت فى تكوينها بعدة ملامح أبرزها علاقة الحب بين البطل والبطلة ،وبذلك لم تكن جادة من ناحية فى تناول تلك العلاقة بشكل جيد على قدر ما اهتمت بشكليات أخرى تغازل بها حماسة الشباب وايقاع العصر مثل الاهتمام بالحركة والاغنية والكوميديا،من أفضل هذه النماذج المشوشة التصنيف فيلم "شورت وفانلة وكاب" و"ليه خلتنى أحبك"عام 2000 .."أفريكانوا"عام 2001 .."سنة أولى نصب "2004 .."أحلام عمرنا"2005 .."أبو على" 2005 .."ظرف طارق"و "محطة مصر" و"جعلتنى مجرما"2006 .."365 يوم سعادة"و"إذاعة حب"2011 .."غش الزوجية 2012"...
أما أردأ نماذج تعبر عن الفئة السابقة كانت فى أفلام مثل "ازاى تخلى البنات تحبك" 2003 .."شباب تيك أواى"2004 ، فضلا عن نماذج أخرى حاولت بابتذال أن تتطرق للرومانسية الخالصة وباءت محاولتها بفشل مدوى منها "حبك نار"2004 .."كان يوم حبك"2005 و "ولد وبنت" 2010 ..
سينما تامر حبيب ..
الكثيرون يميلون لتصنيف تامر حبيب على أنه كاتب رومانسى ، وهنا نعود لما طرحناه فى أول فقرة من المقال و مرة أخرى نستعين بالخيط الرفيع الذى وصّفه احسان كحد فاصل بين خلط المفاهيم ، لأن تامر حبيب فى واقع الأمر يتناول المشاكل التى تواجه العلاقات بشكل عام والتى يكن الحب الخاص بين الرجل والمرأة أحد صورها ، وإن تملينا أفلام حبيب سنجد قدرته الفائقة فى التقاط تفاصيل العلاقات الانسانية عموما وتقديم أنواع نادرة والاقرار بواقعيتها رغم تواريها بين حشد مجتمعنا المُشابه لبعضه نسبيا ، مثل شخصية خالد صالح فى فيلم "عن العشق والهوى" 2006 فضلا عن علاقة علياء بفاطمة أختها الكبرى فى نفس الفيلم، أما فيما يخص "سهر الليالى" 2003 و"واحد صحيح" 2011 فهى أفلامه التى كثفت التركيز بشكل أكبر على مشاكل علاقات الحب وشتان بين تناول مشاكل علاقات الحب وبين خلق حالة حب إنه الخيط الرفيع !! ..
"تيمور وشفيقة"2007 فيلم كوميدى خفيف أراد أن يعيد فكرة الصراع بين سلطة الرجل وحرية المرأة ليس إلا وفى رأيى لا يجوز أبدا تصنيفه كفيلم رومانسى ..
رومانسية بلا جدال ..
أفلام قليلة بعينها هى التى استطاعت أن تجسد الرومانسية بمفهومها الأصيل ، منها "سيدة القصر" 1958 .."دعاء الكروان"1959.."غرام الأسياد" 1961 .."رسالة من امرأة مجهولة"1962 .. "تايه فى أمريكا" 2002 .."إنت عمرى" 2005 وغيرها .. برغم أن هناك ملاحظات شتى على معالجات هذه الأفلام وطريقة بنائها إلا أنها عبرت بشكل جيد عن التكثيف المطلوب لخلق حالة حب ، أما عن النماذج التى برعت فى ذلك "السلم والتعبان"2001..."لعبة الحب"2006 .."فى شقة مصر الجديدة " 2007 و "ميكانو" 2009 ..
آخر كلمتين:
تبقى الأفلام الرومانسية المصرية فى نهاية المطاف فاقدة الهوية ،قليلة لدرجة النُدرة ولا أعتقد أنه يمكننا ارجاع هذا إلى مزاجية المُشاهد ذاته وإنما المشكلة تكمن فى صاحب مباردة الطرح والدليل انصراف شريحة كبيرة من الجمهور لمشاهد المسلسلات التركية التى تُجيد صياغة حبكة رومانسية بغض النظر عن ردائة ما تغلف به هذا الحس الذى تملكه من مضمون طويل وممل وغير منطقى فى معظم الوقت ..
المثير للتفكير والقلق أننا بحق لا نملك مفهوما لسينما الرومانسية ولا تراثا يماثل ربع انتاج العالم لها !!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...