التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ستوكر ..عندما يملك المخرج فيلمه

إسراء إمام تكتب : ستوكر ..عندما يملك المخرج فيلمه

اطبع الموضوع
العيب لا يكمن فى تناول فكرة قُدمت من قبل، وإنما الأمر يعدو خرفا عندما أخوض فى معالجة تلك الفكرة من دون خلق أى جديد، كمثل الساحر الذى يعد جمهوره بعرض هائل ومن ثم يُجلسهم على مقاعدهم ليشاهدونه وهو يُخفى عصفورا داخل قفصه ويعيده بدوره تاره أخرى، والشخص الأكثر تبجحا من ذلك الرجل الذى يمتهن الألاعيب زميله الذى قد لا يكتفى بالخُدعة البسيطة مواجها حقيقة الأمر إذا به يُبدل قواعدها ويحتال عليها غير أن اسمها فى النهاية يبقى "خُدعة العصفور" ولا شىء غير ذلك .
و"ستوكر" من الأفلام التى أهانت جعبة الحاوى وأفقدتها هيبتها، منذ البداية والفيلم يشد على يدك ويسألك الإنتباه واعدا إياك بأن ثمة الكثير مما تحويه الجُعبة لتفتح عينيك فى النهاية على تناول خاوى خائب إن جاز التعبير، فى المشاهد الأولى تظهر فتاه تتحرك بحيوية بين عشب أخضر فى حديقة منزل ترصدها الكاميرا بإختلاف وحس واعى وهى تحدثنا بحذر عن حالها فى شىء من الفلسفية التى تبعث فى نفسك الأمل بمشاهدة فيلم على قدر مبشر من العمق ..
ويظل الفيلم على هذه الوتيرة تارة يعلو بك وأخرى يتبدى لك دون حياء فى صورة أفلام الرعب الرخيصة التى تُنهك ذهنك على الاشىء، والسبب الأغلب لهذا الارتباك السلبى_ الذى لن تنتفع منه سوى قدرته على ابقاء الأمل لديك حتى النهاية_هو السيناريو بكل تأكيد !
فإذا تمهلنا فى التأمل سيبدو من الصعب ألا نلحظ أن جماليات الفيلم كلها تكمن فى رؤية مُخرج وقدرته المذهلة على الارتقاء بمثل هذا السيناريو السقيم إلى مرتبة ترضى أنت عنها ولو لفترات لا تدوم، وإنما يبقى أثرها فى ذهنك ومخيلتك، مشاهد مثل اشتراك الفتاة "انديا" فى العزف مع عمها ذلك الفن الذى يحوم حول كل لقطة ويكسبها نكهة بلون احساس المخرج "شان ووك بارك" وهو المخرج الذى يعرف من أين تؤكل الكتف كما يقولون..
الفكرة ببساطة عن أم وابنة يفقدان رجلهما منذ بداية الفيلم فى حادثة لا يتوضح تفصيلها، ومن ثم يأتى للإقامة معهما شاب يدّعى كونه أخا للمفقود أى عم الفتاه، ومن الوهلة الأولى تشعر بأنه منجذبا بشكل ما إليها مما يدفعك للشك فى صحة إدعائه، ولأنه الرجل الوحيد بين إمرأتين تبدأ التيمة المعروفة فى إغوائه لكلتاهما واحدة تندفع بغير حساب معه وهى الأم "نيكول كيدمان" والأخرى تتمنع بينما ترغبه فى باطنها بشدة، بعد وقت تكتشف أن هذا الشاب قاتل قتل خادمة المنزل لسبب ساذج يتمثل فى مشاجرة تمت بينهم بعدما تظهر فى أحد المشاهد وهى تقول له : لقد كنت عينك سنوات كثيرة مضت، وبالطبع فالمطلوب منك بعدما تستمع إلى مثل هذه الجملة من بين حوار غائم أن تكتفى بهذا سببا لقتلها..
وفى الوقت الذى نزدرى فيه هذا الكم من الامنطقية، يأتى المونتاج المتوازى الرائع بين اكتشاف"انديا" لجثة الخادمة وممارسة العم "تشارلى" لجريمة أخرى، ومن بعده اشتراكهما معا فى العزف لتنقل إليك عدسة"بارك" أنفاس الفتاة المتلاحقة وشدها على قدميها فى رمز شديد التعبير عن رغبتها البركانية فى الرجل إلى جانبها والموسيقى تُشعل الصراع وتضيف إلى المشهد شحنة من الارتباك، ليُعيد إليك الفيلم بعض من الإيمان به ولكن ليس لوقت طويل كالعادة..
أكثر ما هو كارثى فى الفيلم ليس فراغ السيناريو وكفى وإنما التيه الذى يعانيه ذلك السيناريو بين عدد من التيمات الدرامية التى تبدو كلا منها مبتورة ومقحمة، فلديك فى البداية التركيز على نفسية الفتاة وقدرتها على السرد من حين لآخر عن نفسها وعن علاقتها بوالدها بشىء من اللمسة الإنسانية التى تخدم الفيلم لوهلات كثيرة بينما يضيع ذلك الخيط بين زحامه وصخبه ويشيخ بك الوقت إذا مضيت تنتظره بشغف من ينتمى إلى مثل هذا النوع من المعالجات. تيمة أخرى يلجأ إليها السيناريو وهى التى عرضتها من قبل فيما يخص تنافس المرأتين على اقتسام الرجل وولعه هو بإغوائهما معا وهى التيمة التى لن تجد لها مكانا فى الأصل بين فكرة الفيلم الدرامية وتشعر أنها وبكل ثقة مقحمة لكى تسد الهوة التى يعانى منها السيناريو، وأخرى تلعب على شخصية هذا الرجل الإجرامية وتعقيد الإلتباسات حولها وهى التيمة التى اعتمدت على النظرة الكرتونية التى التزم بها الرجل طوال الفيلم لكى يرعبنا، وغيرها من الهزليات مثل انتقاله من المكان الذى كان يواقف فيه بقية العائلة إلى المكان الذى ابتعدت فيه الفتاة عنهم فى آخر المنزل مستغرقة دقائق لتجده هو خلفها فى ثوانى وقد اجتاز المسافة بمهارة من يسافر عبر الزمن !!!
ولم تفلح لفتات المخرج المميزة فى انتشال الشخصية من سخافتها، تلك اللفتات التى بدت فى كادرات عبقرية منها انعكاس ظل "تشارلى" على الرف الخشبى للمطبخ بينما كان يتحدث لإنديا فى مشهد كامل لم يظهر إلا فى آخره فى رمزية موفقة تعبر عن ظلالية الشخصية وارتباكك تجاهها ..
مشاهد القطع جاءت موفقة وتجلت ذورة ابداعها فى المشهد الذى ينتقل فيه"بارك" من شعر الأم الذهبى بينما كانت تصففه الإبنه لها إلى الغابات وهو المكان الذى كان يمارس فيه الأب مع انديا الفتاة هواية الصيد وهو المشهد الهام الذى اعتمد عليه المخرج طوال الفيلم ليوضح من خلاله العنف الذى تواريه انديا فى داخلها، نظرات عينيها وتربصها وحتى ترددها تجاه والدها جاء فى مكانه بغير مباشرية تشير إليه بشكل مُنفر ..
ولكن رغم كل الجيد فى الفيلم تظل على غير قناعة بتركيبة أى شخصية ولا منطقية علاقتها مع الآخر، وتبقى الخيوط الدرامية المنقوصة وردات الفعل المبهمة والأغراض التى لا تعلم مغزاها، فحتى النهاية لا تعلم ما هى مشكلة العم مع انديا وماهو سر تعلقه بها إلى هذا الحد بشكل مشين يتخطى علاقة القرابة وليس من المعقول أن نكتفى بكونه مريض نفسيا فحتى الشخص المجنون لابد من أن يمتلك الأسباب المنطقية لفعلة كهذه ..
فيلم "ستوكر" هو فيلم ملك مخرجه الذى يستحق كل التقدير لجعل سيناريو باهت مشتت فيلما ع هذا القدر من الإثارة للجدل ع الأقل .
آخر كلمتين:
"نيكول كيدمان" تعبث بقدرها كفنانة موهوبة وتختار من حين لآخر أدوار تلا تليق بها، يكفى أن فيلما كهذا استغل اسمها تجاريا، ولا انسى سقطتها الأخرى فى فيلم just go with it

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...