نُشر فى جريدة القاهرة
.................................................................
إسراء إمام
من غير المنصف أن يكتب أحدهم مقالة عن مذكرات الريحانى فقط ليذكر للقارىء
أهم ما ورد بها، لأنه بفعلة كهذة ربما يروّح عنه مهمة شراء المذكرات والتعرض لها
بشكل مباشر ومن وسيط قد يقلل من شأن جمالية الطريقة التى كتب بها الريحانى نفسه
حتى وإن ظن أنه يوافيها حقها.
لذا راعيت وأنا أكتب عن تلك المذكرات ألا أنجرف وراء سرد الذى ذكره
الريحانى عن نفسه بل أحاول بقدر الإمكان قراءة تدوينته عن حاله وظروف عمله على
مبعدة منه، عللنى أقدم طرح موازى لصورة أخرى للريحانى تُساهم ولو بضئيل لإتمام
الاطار الذى يحكم شخص هذا الفنان الجميل .
المذكرات فيما بين جزأين
لقد آثر الرجل من سطوره الأولى
الوضوح واعدا القارىء بأنه سيحاول ألا يركض خلف تحسين صورته وسيكون صادما مع حاله
أولا قبل غيره فقط ليحقق أمانة عهدها على نفسه، وبالفعل مضى على تلك الوتيرة على
وجه الخصوص فى النصف الأول من المذكرات وقت كان يتحدث فيه عن بداياته ومعاناته مع
الفن، فعدد روايات تخص المحاولات الأولى للعمل بالمسرح مع أكثر من فرقة مثل فرقة
عزيز عيد وأمين عطا الله، وحالة التشتت الجلية التى كانت تملكه وقتها بين فكرة اخفاقه
الدائم فى الحقل الذى يحبه ويفضله وبين ارتضائه بالبعد والعيش كرجل عادى يعمل فى
مصنع للسكر بنجع حمادى وعلى حد قوله لم ينقذه من المصير المُبهم الأخير إلا الصدفة
التى خلصته من عمله بمعمل السكر مرتين واضطرت خيالات عمله بالفن تعود لتُحكم
سيطرتها عليه وتجتره إليها من جديد على الرغم من اعتراض والدته المبالغ فيه على خوضه
مثل هذا المجال.
فى هذا الجزء على وجه الخصوص وقبلما يتطرق الريحانى إلى بداية نجاح خطواته
الفنية كان أكثر حرية وطفولية على الورق، يتحدث بطلاقة عن مشاعره العاطفية
ومغامراته مع الأنثى والتى كان ابرزها سببا فى ضياع عمله بمصنع السكر حيث تورط فى
علاقة مع زوجة شريكه بالمكتب وافتضح الأمر وتوالت تبعاته حتى بعد عودته للعمل فى
المرة الثانية. فضلا عن ذكره للمناوشات المستمرة بينه وبين صديقه على يوسف على
اللحاق بفتاة وقع كل منهم فى حبها، صحيح أنه لم يشر للفتاة باسمها الكامل
"ص.ق" ولكنه كان حرا جدا فى الحديث عن على يوسف بنفسية غير رائقة أحيانا
وليس فقط على سبيل الدعابة، ولم يخجل حينها من كونه رجل لا مشكلة لديه فى أن يُقبل
على علاقة جنسية غير مشروعة بل ومع شريك عمله وقد وضح قبل سرده لهذه الواقعة
بالذات أنه قد وعد القارىء من قبل بأن لا يتجمل أمامه، وكانت كل هذه الإعترفات هى
الأخيرة فيما يخص حياته الخاصة وعلاقته بالأنثى فعلى الرغم تلك الحرية التى أفصح
عنها لم يتحدث ثانية بمثل هذه الإنطلاقة حتى عن صديقته "لوسى" والتى
لازمته سنين طويلة بل أكتفى بكلمة "صديقة" لتوصيف علاقته بها، وكذلك كان
الحال عندما تحدث عن علاقته ببديعة مصابنى التى تزوجها فلم يصف ولو حتى مشاعره فى
لقاءه الأول بها فقط أخبر القارىء أنه تزوجها وعند الانفصال توقف عند حد مشكلة
العند التى كانت تتملكهما معا وأودت بعلاقتهما إلى الهلاك، هى ولمحات أخرى طفيفة تشبهها،
ولعله هنا له عذره فى أن بديعة شخصية عامة فضلا عن احترامه مساحة الخصوصية التى
اختار أن يوفرها لها، ولكن على الرغم من تحفظه فى أن يُبدى حقيقة مشاعره حيال
انفصالهما إلا أنك سرعان ما سترى شبح شجنه وحزنه وهو مسيطر على سطور الحكاية من
بدياتها وحتى النهاية وستلمس بعض من خفوت روحه وهو يخصها بالذكر .
فى الجزء الثانى من الكتاب على وجه الخصوص انهمك الريحانى فى وصفه لعمله
بغير تلك النزعة الذاتية التى تضمنت السطور من قبل، بدأ ذلك بالتدريج الغير ملحوظ
حتى وصل الأمر فى النهاية لتوثيق شبه أصم يخلو فيه الريحانى من لمسته وشقاوته فى
السرد، وقد اتسم قبلا وصفه عن عمله بالمسرح فى البداية بشىء من الحيوية التى
افتقدها فيما بعد فكان بعفوية طفولية يسرد عن كل شىء مثير للضحك والشجن بنفس
اللهجة الساخرة اليقظة ..عن معاناته بكونه يهوى التراجيديا فى المقام الأول بينما
جاء امتهانه للكوميديا نزولا إلى رغبة الجماهير التى ارتأته كوميديانا فى أول أدواره
التراجيدية وفضلت أن تضحك مع طلته الأولى عليهم فى المسرح، وعن كثير من التجارب التى باءت بالفشل والأخرى
التى دفعت بيبان المسرح لتفتح له ذراعيها و سرده، عن شخصية "كشكش بيه "
الشهيرة والتى كانت بطاقة التعريف الأهم بينه وبين الجمهور، وبالرغم من استمرار تعليقاته
على ما يسرده ظلت الورقات الأخيرة هى الأثقل ظلا من بين مثيلاتها حتى وهو يتحدث عن
المسرح الذى يعشقه ويفضله على السينما التى بدأ العمل فيها بفيلم قصير صامت لم يتم
التحضير له من الأساس ونُفذ بعشوائية ارتجالية بحتة، وحتى مع نجاح فيلمه
"سلامة فى خير" مع نيازى مصطفى الذى أسبر إلى حد ما غوره فى إحساسه
بالإخفاق فى تجاربه السابقة مع السينما. كما انتفت انطبعاته العميقة التى كان يصبغ
سطوره بها أثناء سرده للوقائع مثل تلك ذكرها عن مفهوم السعادة التى احتار فى أمرها
فيلسوف فرنسى ووصفها بأنها كلمة بلا معنى .
انطباعات عن الريحانى
من سرده العام تستشف كم كان رجلا
ملتزما محبا لعمله، يعمل بهمة تكاد تكون غير معقولة فضلا عن كونه قارىء جيد للأدب
ومحب فريد للفن بحد ذاته، يتحمل مسئولية عمله فى فرقته بالدرجة الأولى ليس حبا فى
أن يتصدر وحده الصورة وإنما _وحتى إن لم يذكر هو ذلك _ لطبيعته التى تتطلع نحو
الكمال، فما كنت تستخلصه من حديثه عن تفاصيل التحضير للروايات ومراحل تنفيذها كافى
بأن تعلم كام كان من الممكن أن يتحمل عبأ الشغل كله فى سبيل تحقيق مبتغاه . إضافة
لكونه رجل واضح لا يحب يميل لمراوغة حاله والاتفاف حول الحقائق .
أسلوبه
يبقى أسلوبه التلقائى الذى تشعر معه بالتفرد، ما بين العربية الفصحى وبين
العامية الدارجة كان يقف بحرفية هاوى مثيرة للفضول، طريقة تدفعك للشعور بأن من
يكتب تلك السطور يتحدث بلسانه وليس بقلمه من دون تفكير فيما سيخطه وإنما يقص عليك
كأنك أمامه من دون أن ينظر لعينيك وينتظر رد فعلك لا يفعل سوى أن ينهمر حديثا بغير
اوقات استقطاع، وقد سخر أكتر من مرة من استخدامه للغة الفصحى وأطلق عليها فلسفة
واجبة لابد وأن يتحملها القارىء منه.
فبهذا الأسلوب كان قادرا على مناوشة القارىء وانتشاله من واقعه، ومع هزلية
بعض المواقف التى يخصها بالذكر مثل واقعته مع منيرة المهدية على وجه الخصوص كان
يتجلى فى السرد ويجبرك على الابتسام رغما عنك .
فاقرأ عن رحلة ناجح خفيف الظل أحب الفن فأحببناه جماعا .
تعليقات
إرسال تعليق