التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفيلم الصربى "دوائر" ..ألم سنين يبدأ من لحظة

نُشر فى موقع عين على السينما

.................................................................................................

الفيلم الصربي "دوائر".. ألم سنين يبدأ من لحظة!

الأربعاء 05 فبراير 2014 11:34:00

الفيلم الصربي "دوائر".. ألم سنين يبدأ من لحظة!




إسراء إمام


الأفلام التى تقبع فى ذاكرة العقل كثيرة مقارنة بتلك التى يتحفظ عليها القلب فى داخله، إنها منطقة المنطق المتواجدة شئنا أم أبينا والتى يحتمى تحت ظلها عدد كبير من الأفلام، أفلام تتألق على المستوى النظرى بينما يظل حاجزا ما بينها وبين الروح ومنها إلى تدوينة القلب.

 وبالتساؤل ما قد يجعل أحد الأفلام ينفذ بسهولة دون غيره إلى هذه المنطقة الهشة التى يملكها كل منا، سنجد أن التخمين الأقرب هو شروع صانع الفيلم فى تضمين أجزاء فيلمه مقتطفات من نفسه، إنه إيمانه الذى يبزغ فى كل لقطة وكادر وجملة حوار، إنها تلك الوصمة التى تحمل إحساسه مُضفرا بما ينتجه على الشريط الفيلمى. هو الآخر هنا يعمل بقلبه وليس عقله فقط، يبرع فى اكتشاف ذاته فيكون صادقا فى التعبير عنها بما يمس المتفرج ويجعله متوحدا مع المضمون الذى يتعرض له.

والفيلم الصربى kugovi أو "دوائر"، ينتمى لمثل هذه السينما، التى تعمل على إرضاء الحواس فى نضج وجدية، فتمر بطريقين متوازيتين ما بين الفكر والمشاعر،  الفيلم هنا تراه باقيا على عدم الإنسياق خلف ميلودرامية القصة الحقيقية التى يقوم عليها، بينما يخلق لنفسه نهجا سينمائيا قويا، يقدم فيه الإحساس فى قالب يحض على التساؤل ويلهث خلف الإجابات لأمد لا نهائى.

القصة والحبكة
الفيلم يقوم على قصة حقيقة حدثت فى البوسنة تحديا فى مدينة تربينى التى تقع فى الأراضى التى يسيطر عليها الجيش الصربى، حيث قام حفنة من الجنود الصرب بقتل شاب مسلم اثر تدخله فى الدفاع عن بائع سجائر من ديانته بينما كان ينهال عليه الصربيون ضربا بدافع عنصرى بحت.

قد تقف حقيقة القصة عند هذا الحد، وقد تمتد لها جذور فيما قدمه السيناريو من حدث طوال الفيلم، بينما تظل جودة الحبكة والطريقة التى تم اللجوء إليها فى السرد من العوامل التى تُرضى قناعة المتفرج وتغنيه عن الإنشغال بمدى انتماء هذا الجزء أو ذاك للدراما أو الواقع.

صاغ الفيلم فى بدايته مشهد الحادثة مفصّلا، بداية من غضب الجنود على بائع السجائر عندما صدقهم القول بأنه لم يعد ثمة علبة سجائر اضافية يمكنه أن يبيعها لهم، بينما اتخذ كل منهم هذا ذريعة للتهجم عليه وضربه ضربا مبرحا، أنّت له انسانية ماركو الشاب المسلم فقام عن مجلسه وطالبهم برفق أن يكفوا، ليصمت الجميع ويصبون جام نظراتهم المندهشة على وجهه الصغير، ومن ثم يسود الظلام الشاشة وتُكتب جملة " بعد 12 عاما".

إنها الدوائر التى يصفها والد ماركو فى أحد مشاهد الفيلم، عندما يقول "عندما يلقى أحدهم حجرا فى المياه تحدث العديد من الدوائر"، تماما كصدى الحادثة القديمة التى على الرغم من مرور 12 عاما، إلا أن حلقاتها مازالت تزاول اتساعها وتتحكم بمصير عدد من الشخصيات التى لم تكن طرفا فيها من الأساس، فالمخرج Srdan Golubovic   أصر على إخفاء السياق الأخير للحادثة، وآثر قطعه للتطرق إلى التطورات التى طالت كل هذه السنوات، وهو ما سرب إحساسا موفقا بأن هذه الجريمة لم تقف عند حد نهايتها، فالجزء الأخير خُدعة لم يتعين علينا رؤيتها الآن، فهو ليس النهاية الحقيقة كما يفكر البعض، إنها حبكة فلسفية طوت الكثير من الفكر بين جنباتها، وبالرغم من بوهيميتها بعض الشىء حيال الشخصيات التى طرحتها فى بداية معالجة أحداث ما بعد الـ 12 عاما، إلا أنها دفعت بالمتفرج لأقصى حالات التركيز والتقصى وراء كل شخصية، وخلف كل نصف معلومة وربع معرفة.

السيناريو
قدم السيناريو ثلاثة خطوط متقابلة لأحداث ما بعد الـ 12 عاما، الأول يخص ندى خطيبة ماركو والتى باتت متزوجة الآن، تصطحب معها طفلها بينما تلجأ فى ألمانيا إلى هاريس الرجل الذى سبق ودافع عنه ماركو، مستغيثة به لكي يساعدها فى أن تختبأ من رجل ما يسعى خلفها يتضح فيما بعد أنه زوجها الذى ارتبطت به بعد موت ماركو.

الخط الثاني يتناول والد ماركو الذى يأتيه شاب راغبا فى الحصول على عمل بينما يلفظه العجوز بمجرد معرفة اسمه.. ومع تكرار معاودة محاولة الشاب يقبله العجوز وتحدث بينهما وصلة إنسانية قوية على الرغم مما تكشفه الأحداث بأن هذا الشاب من عائلة أحد الرجال الذين قاموا بقتل ماركو.


أما الخط الأخير فهو يتناول الطبيب صديق ماركو والذى دفعه القدر لكى يكون مسئولا عن انقاذ حياة الزعيم والمحرض الأساسى على موت ماركو، فيظل طوال الفيلم فى أخذ وجذب فيما بين ما يتوجب عليه فعله وبين ما ترغب فيه نفسه.

الخطوط الثلاثة صقلها السناريو ليبدو كلا منها فى أوج وهجه دراميا، لم يرهق نفسه فى تقديم الشخصيات أوفرش خلفية معلوماتية معرقلة عنها، بينما تعامل معها فى انسيابية جاءت فى مصلحة السياق، فلم تعيقه من جهة وأججت من فضول المُتفرج من جهة أخرى، ففى الخط الأول تجده فى غير مباشرة يرسم الأثر الكامن من شبح ماركو على حياة ندى، التى على الرغم من زواجها مازالت تحتفظ بالخاتم الذى قدمه لها حول رقبتها، وبقيت على ذكراه فى قلبها لدرجة أعاقت حياتها، وجعلت منها فى فترة سابقة مدمنة على الكحول، وفى فترة آنية أما هاربة بصغيرها من زوجها الذى يقدمه السيناريو فى النهاية بصورة ليست سيئة كما ظننته، فتجده يبكى صغيره الذى ذهب بلا عودة، على الرغم من الصورة المهيبة التى يرسمها عن حاله فى تهديده لهاريس.

وفى لفتة حرفية هامة تعمد السيناريو ألا يبين تفاصيل علاقته بندى، ليمنح المتفرج مساحة من التفكير التى تُعمق أثر الماضى الذى يجمع ماركو بندى على خراب علاقتها الزوجية، مضيفا بعض التفاصيل المُربكة مثل كدمة بالقرب من عينها وهوية يبدو عليها الغِلظة من جانب زوجها، تلقى على ظهره جل أسباب هذه النهاية الكارثية لزواجهما، بينما تكمن الحقيقة فى مدى ارتباطها الوثيق بشخص تلاشى منذ سنوات، تماما كما يشعر هاريس، فوجود ماركو فى حياته لم يتوقف على كونه ذكرى بينما بمثابة هاجسه المدقع الذى يدفعه أن يُعرض حياة طفلتيه إلى الخطر بتحديه زوج ندى وعمده فى اكمال مساعدتها فى الهرب، مُلقيا بكل تهديدات الرجل عرض الحائط، ومن ثم يتلقى ضرباته العنيفة فى صمت ويُذعن للموت فى لحظة يرفع فيها المسدس عليه.

ومن بعدها وبينما الدم يسيل من وجهه والفوضى تعترى بيته اثر رحيل زوج ندى، تكون أولى أولوياته أن يهاتف والد ماركو ويواسيه فى ذكرى موت ابنه، مطمئنا إياه أن كل شىء بخير، أى ان وفاءه للذكرى يدفعه لأن يتصرف مثل هذه التصرفات الهوجاء التى كادت أن تقتله وتنال من طفلتيه.

 إن وجود ماركو فى حياة هاريس ماض مؤرق يكتم عليه صدره، قد بدأ يعتمل فى نفسه منذ اللحظة التى علم فيها بموت هذا الشاب حينما كان يدافع عنه، فهو لم يسعه مراقبة موته لأنه هرب وقتها وتركه وحده فى مواجهة المُعتدين. ومن الممكن أن تكون لحظة دفاعه عن ندى وطفلتها هى فرصته المُخلصة التى واتته على طبق من ذهب لكى ينفض عن كاهله كل هذا العذاب.

علاقة إنسانية
ينفرج الخط الثانى عن علاقة انسانية مميزة بين والد ماركو والشاب من عائلة أحد قتلة ابنه، ففى الحاح الشاب على الانضمام للعمل مع هذا العجوز دلالة تشير إلى سمة مسيطرة على تركيبة شخصيته، احتواها السناريو وحافظ عليها على مدار الحكاية، فتراه يمضى على هذه الوتيرة المندفعة بإلحاح فى أمور شتى منها إصراره على تحميل ذاته أثقال مضاعفة فى أثناء عملهم فوق الجبل، وتعنته مع أمه بينما كانت تجود عليه بالنصيحة لعدم معاودته العمل مع والد ماركو، فهى تفاصيل ساهمت فى التأكيد على طبيعة هذه التركيبة البشرية المتطلعة والقانعة بقدراتها لدرجة تدفعها لأن تخوض الفعل غير مكترثة بالعواقب، فهو بالطبع لم يستميت فى طلب العمل رغبة فى العمل ذاته، فما يمكن للمتفرج أن يُخمنه أنه أراد أن يحطم قيد هذا الذنب الذى التف حول عنق عائلته بأكملها لسنوات مضت، وسعى لأن يفض مساحة السواد بينه وبين الماضى،  وأن يتعامل جديا مع شعور يواتيه بالتعاطف مع مأساة هذا العجوز وهو الشعور الذى تحول إلى ارتباط من نوع خاص، عمل عليه السيناريو تدريجيا وبحبكة متقنة ليُحضّر المُشاهد نحو تقبل هذا الشاب وهو يحل محل الإبن الفقيد.

الخط الثالث يمثل المواجهة بين صديق ماركو وقاتله، وهو الخط الوحيد الذى آثر السيناريو أن يكون صريحا أكثر من اللازم، لم يترك الصراع داخليا مكثفا على غرار الخطوط السابقة، وانما فضّل أن يُفصح عن طبيعة المعاناة التى يحياها ذلك الطبيب، ساعيا للإدعاء أمام نفسه قبل الآخرين أن مشكلته هى صعوبة موقفه كطبيب يُحتّم عليه إنقاذ حياة أهم أحد قتلة صديقه، وهو ما يغاير الحقيقة التى يواجهه بها هذا القاتل وهو على فراش مرضه، ليُخمن فى جرأة مكمن متاعب هذا الطبيب والتى تتلخص كلها حول موقفه المتخاذل وقت موت ماركو، وازمته النفسية مع تلك الصورة التى ترصد وقوفه شاهدا على الواقعة القاسية دون أن يُحرك ساكنا، والتى ما لبثت تقض مضجعه بمجرد ظهور هذا الرجل أمامه من جديد، ليُقلب عليه مواجع الماضى.

 وعلى الرغم من قوة التعبير عن المشادة النفسية ما بين الرجلين فى هذا الخط برمته، إلا أن هذه المكاشفة أخذت الكثير من بهائه، ولم تٌبق فيه ما يدعو للتأمل سوى تركيبة شخصية القاتل ذاتها والتى مازالت تقوى على المُكابرة حتى وهى على فراش الموت، وتؤمن جل الإيمان بأنها لم تُخطيء من الأساس وأن العقاب الذى نالته فى المحاكمة كان قاسيا لنسيان الأمر، إنها شخصية تحمل الكثير من الثراء والتعقيد.

آخر كلمتين:
* ما ميز البصريات التى قدمها المخرج على مستوى الصورة، اصراره على عدم اختزال المسافات، فترى ماركو فى أول الفيلم وهو يذرع عددا من الخطوات غير المختصرة إلى المكان الذى يقصده، بلقطة أمامية وخلفية، وهكذا الطبيب فى مشاهد تحركه فى المستشفى، وأيضا المشاهد الذى اصطحب فيها العجوز صاحبه الشاب إلى المقابر يوم ذكرى وفاة ماركو، إنه نفس الإلحاح بأن أكثر الأوقات التى  نتعامل معها كونها مؤديات، هى جزء لا يتجزأ من الحلقات التى تشكل ملامح أحداث حياتنا، فهى تحمل الكثير من الثقل العقلى والفكرى والنفسى الذى قد يدفعنا إلى مصير آخر، وفقا لحلقة صغرى كانت ضمن حلقة كبرى فى وقت ما.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...