التخطي إلى المحتوى الرئيسي

Django unchained ..الفيلم الذى تنعته" فيلما" بحق

نُشر فى مجلة مصرى

كتبت_إسراء إمام
الهوجائية التى تواجهها صناعة السينما فى العالم أجمع دفعت بنا لكى ننسى من الأساس مفهوم كلمة "فيلم" ! ، بتنا من فرط مواقعتنا لأشباه الأفلام يوميا أو أسبوعيا أو حتى شهريا نرضى بأقل القليل مما لا يليق بهذا الفن العريق الذى لابد وأن يندرج تحته كل ما تتسع حُلته لتستوعب ثقل وقيمة لقب "فيلم"..
قد نستخلص هذه النتيجة ومن ثم يتقهقر صداها فى أنفسنا ومخليتنا وكأنها لم تكن ،ليصدأ إحساسنا لفترة وينتقص من تقافز مؤشرات تقييمنا لما نحن بصدده بين الجمع المتكاثف فى ندرة إبداعه ،وإن أطل شيئا ما خارج السرب له أن يستحوذ على تهليل أنفسنا ورضاها لأنه أفضل المطروح ...
وفيلم مثل "django unchained" يأتى ليذكرك بأن هناك سينما أنت لم تعد تراها ...سينما ترى فى خلفية مشاهدها جهد كل جملة حوار تستشف فلسفيتها وعمقها وتشدقها بعرق تاريخى وثقافى وانسانى يثريك فى اقل من لحظة بمعرفة متنوعة تحترم عقلك وحواسك أيضا فلا تُرهق تركيزك وتجُرعك معلوميتها فى اصطناع وتعالى بل على العكس تلمس فى خُلاصة حوار كل مشهد ذكاء مضنى يُرتب ما يقصد ايصاله لك بمنتهى التشويق يجتنب المباشرية الساذجة ويلتف على المعنى ليخلق منه أسطورة صغيرة تتجوف الأسطورة الكبيرة التى تسمى بحق "فيلم" ..
البداية مُقبضة ترسم لك الحالة فى عتمة الليل يتقبض رجلين بيض على طابور ضئيل من العبيد مقيدة أرجلهم فى قوالب حديدية يشقان الظلام بمصباح عتيق يليق بمرحلية توقيت الأحداث الذى يأتى قبيل الحرب العالمية بسنتين ، تلتقى القبيلة المزعومة عربة أخرى يتركبها شخص شديد الثقة ينزل عن حصانه ويُقلب بين العبيد باحثا عن من يجد له طريقا لثلاثة أخوة لا تفهم لماذا هو يبحث عنهم بكل هذا النهم ،وبعدما يجد  بغيته فى أحدهم يقرر شراءه واصطحابه وعندما يعترض واحد من الرجلين الذين يقتادا السرب يباهته الغريب الراغب فى اقتناء عبدهم برصاصة توقظ حواسك وتخرجك من الكادر الهادىء إلى صخب جنون "كوينتين ترانتينو" المخرج فتعلم أنك بتّ على أرضه وفى جوف ملعبه ،تلمس هزليته فى باطن كده وجده وحيويته التى يبثها فى أوصالك وأنت تشاهد حتى أعنف مشاهده وأكثرها قتامة ...
يصطحب الغريب _ الممثل الفرنسى كرستوفر والترز_ العبد إلى أقرب مدينة ويدلفا سويا إلى حانة يفزع صاحبها من تواجد عبد إسود بداخلها ويهرع إلى الشريف المختص فى القرية لطلب النجدة بينما يخبر الغريب العبد بأنه يعمل كصائد جوائز أى يطارد المطلوبين من العدالة ويتقبض عليهم أمواتا ليقبض المكافآت التى تجزيه فعلته فى مشهد يطول ويطول ولا تمله أبدا يباهت فى آخره الغريب الشريف برصاصة أخرى وعندما يتجمع أهل القرية ومعهم المأمور لمواجهة هذا الغريب الجائر وعبده الأسود يصطف الجمع مبهوتين ينتظرون رد فعل الأخيرين على محاصرتهم ، يتحدث الغريب إلى المأمورصوتا من داخل الحانة التى لا ترى منها إلا بابها بما يشعرك بهيبة هذا الشخص الذى يعرف كيف يستطيع تدبر أموره جيدا منذ بداية وقوع عينيك عليه مما يدفعك بألا تستسلم عندما يخرج هو والعبد مستسلمين خانعين وتتأكد أنه ثمة ما فى جعبة الحاوى ..دقائق وتصيب توقعاتك عندما يُخبر الغريب المأمور بأن الرجل الذى أرداه قتيلا ما هو إلا مُجرم هارب مطلوب حيا أو ميتا ومراق على دمه مكافأة مالية كبيرة وترتسم ابتسامة على شفتيك عندما يطالب الرجل بحقه من المأمور فى المكافأة بنهاية المشهد ...
مشاهد كُثر تتوالى من بعد يترافق فيها العبد وصائد الجوائز يشوبها بعض من ملل ،ولا تجد إلا لإثنين منهما توظيفا أحدهم مشهد يتدرب فيه  العبد"دجينو" _ جيمى فوكس_ على التصويب فى سرعة تقارب البرق وآخر يطلب منه فيه صائد الجوائز أن يحسن التصويب على رجل ما ليسرقا حصانه ويتابعا مهمتهما فى اصطياد الجوائز ويقنعه بأن الوصول للهدف الأسمى لابد وأن ينتج عنه بعض الخسائر "لابد أن تتلوث أيدينا".. المشاهد السابقة من أضعف ما فى الفيلم ، ترتخى فيها حماستك ويقل تركيزك وتشعر أنك انفصلت عن عالما انتميت إليه بشدة منذ قليل ..
يقرر صائد الجوائز إنقاذ زوجة رجله الأسود الحر "دجينو" ويعزم على مرافقته فى رحلة تحريرها مثلما منّ عليه بالحرية متجهان صوب المزرعة التى يملكها الرجل الذى تخدمه زوجته ، ورغم أنك لا تجد مبررا قويا لارتباطه بدجينو بكل هذا القدر الذى يدفع به إلى مقايضة صاحب المزرعة ب 12 ألف دولار لشراء عبيده أجمعين ومن بينهم زوجة دجينو إلا أنك تؤخذ على أية حال بحضور "ليوناردو دى كابريو"_صاحب المزرعة_ الذى يعود ليُنعش الفيلم ويعيده إلى سابق بدايته ...
كلوزات "تارنتيو" السريعة تتلاحق عليك فى هذه الجزئية بالذات ،تراها فى أول لقطة يظهر فيها دى كابريو وفى لقطات أخرى تتوالى بعدها منها المشهد الذى يُقدم فيه صاحب المزرعة الشرس عبده الأسود كوجبة شهية إلى الكلاب ،يقابلك أيضا التوازى المونتاجى أكثر من مرة منها فى مشهد يحكى فيه صاحب المزرعة عن إعجابه بدجينو ومن ثم يوضح لك الفتومونتاج الحدث السابق فى الحقل صباحا عندما تحدى دجينو رجاله فى قوة وجرأة وهو وحده ...وأيضا عندما أبدى لا مبالاته وقت رؤيته للعبد الذى تنهشه الكلاب ...
مشهد ذهابهم إلى بيت "كالفين كندى" صاحب المزرعة جاء مناسبا شبّعك فيه "ترانينو" من عظمة الصرح ومهابته فى لونه الأبيض فجعلك تتذكر كيف كان شامخا مثل صاحبه فى نهاية الفيلم وقت أن تفتت إلى قطع صغيرة بعد إنفجاره ..
شىء من السكينة يتسلل إليك فى المشهد الذى تلاه والخادمات تشعلن الشموع  فى حنايا المكان وفى الخلفية صوت غنوة رقيقة هادئة تستمع إليها وأنت تعلم أن زوجة دجينو بصدد رؤيته بعد دقائق وهى تُقدم إلى صائد الجوائز كهدية للترفيه عنه فإذا بها تكتشف المخطط الثنائى من الرجلين بغّية إنقاذها...
بعدها تأتيك أقوى جزئية فى الفيلم ...
عندما يكتشف مستر "كالفين كندى" اللعبة ويقرر أن يتدخل فيها بشروطه ...
يصل "دى كابريو" هنا إلى قمة أدائه ويجاريه "كريستوفر والترز" ليتبارى كل منهما وتحتدم المدرسة الادائية والحوارية والتخطيطية لتنفيذ ومعالجة مشهد والتقدم بالدراما إلى أوجها ...
"django unchained" لا يستحق لقب فيلم بجدارة لأنه أفضل فيلم بل لأنه يعيد إليك صورة تعلق بذهنك وأنت تشاهده يتراءى لك فيها تراتنينو وفريقه وهو يعكف على صناعة فيلم !..فيلم يحمل كغيره خطايا وحسنات ولكنه يستحق أن تشاهده مرات ومرات وتكتب عنه أكثر من مرة لأنه فى كل مرة سيحمل إليك الكثير فيما بين سطوره ...
آخر كلمتين:
_ جيمى فوكس جاء أقل من الضعيف فى أدائه ...ريأكشنات موحدة ونظرة صلده أشعرتنى بأنه شخصية كرتونية فى بعض الأحيان وإن كان ذلك مقصود فأنا لا أجد له معنى !..

_ كلما مر وقت أستشعر أن تفاصيل بعض المشاهد تتسع وضوحا وتترسخ أكثر فى ذهنى ..وهذه حالة لا ينسجها لك إلا كبار مثل "كوينتين تارنتينو"..


اللينك
http://www.myegyptmag.com/index.php/%D9%85%D9%8A%D9%80%D8%AF%D9%8A%D9%80%D8%A7/120-%D8%A7%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D9%81/archive-2013/1680-django-unchained-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%89-%D8%AA%D9%86%D8%B9%D8%AA%D9%87-%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%AD%D9%82

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...