نُشر فى موقع عين على السينما
.......................................................................................
"القبطان فيليبس".. سينما السير على الحبال
الأحد 15 ديسمبر 2013 15:56:00

إسراء إمام
إختار فيلم "القبطان فيليبس" captain Philips أن يقدم قصة عناصرها تتمثل فى: قراصنة، ربان سفينة وطاقم عمله الذى لا حول له ولا قوة فى الدفاع عن نفسه، مراوغات مريرة بين المختطفين وبين القوات البحرية الأمريكية.
ومع طبيعة شكل الإنتاج فى هوليود، قد تؤدي عناصر مثل هذه فى النهاية، حتى وعن غير قصد، إلى فيلم تقليدى يغلب عليه طابع الإثارة والتشويق والحركة عموما حتى وإن بدا جيد لا غبار عليه، ولكنك أمام معالجة أبت أن تنصاع لكل هذا وإختارت أن تجسد حالة نابضة لا علاقة لها بالحسابات السينمائية المعهودة التى وضعها البعض مسبقا لتناول حدوتة مشابهة، وإنما لها صلة بالمقدرة السينمائية فى العمل على نقل نبض تجربة حقيقية إلى المشاهد على الشاشة.
هذه المقدرة التى لم تأت مستندة لكون قصة القبطان فيليبس واقعية تم سردها فى كتاب وإنما كانت أرضيتها الأساسية تكمن في فطنة كل من قام بصنع الفيلم وتفردهم فى الالمام بتفاصيل تلك التجربة ومعايشتها والإحساس بكافة أجواءها بدون مبالغات سينمائية وبغير ابتذال عاطفى يتم تبريره دوما بجملة "السينما فى الأساس فن خيالى" والحقيقة أن معنى الخيال بالضبط يكمن فيما فعله صناع فيلم captain Philipsفهم الأقدر على تطويع حسهم وموهبتهم وخيالهم فى خدمة الصورة والمضمون الذى يسرى إليك بحقيقية من الشاشة، فكلما كان خيال المبدع ثريا كلما قدمت تجربة أكثر نبضا وواقعية فى مثل هذه الحالات السردية التى تتطلب ذلك.
فالمخرج بولجرينجراسحافظ طوال الفيلم على دقات قلبك المتسارعة، وفضولك المتيقظ، ببساطة أحكم عليك قبضته ووضعك فى قالب تشويقى مميز لكونه جامعا فى الوقت ذاته بين طابع انسانى خفى ولكنه مكثف على قدر تواريه، لم يستدر فيه عاطفتك وإنما نال منها بحذق، فمجهود كتابة السيناريو وتنفيذه هنا تذكرنى بمهمة السائر على الحبل، لابد له أن يسير بخطوات ثابتة منمقة ومحسوبة حتى يبلغ غايته فى الوصول إلى الطرف الآخر من جهة وفى إمتاع مشاهدىه من جهة أخرى.
عن السيناريو
انطلق السيناريو من نقطة بسيطة، خاض فى الموضوع مباشرة ولم يُقدم التمهيدات المتعارف عليها، حتى فى مشاهده الأولية التى جمع فيها فيليبس "توم هانكس" بزوجته وعلى صعيد آخر القراصنة الصوماليين مع أرباب عملهم لم تكن فى قالب تقليدى يؤكد لك بعض المعانى بوضع الخطوط الحمراء من تحتها وإنما فى طبيعتها الناقلة العفوية أودت لك بخلفيات فضفاضة التفسير تبعث على الفكر، وهو المنوال عينه الذى انتهجه الفيلم بأكمله. فمثلا لم يُقدم الشخصيات فى تفاصيلها الانسانية بشكل منحوت واضح بما فيهم كابتن فيلبس نفسه وعلى رأسهم قائد القراصنة "باركد عبدى" وإنما نسج إحساسهم جليا داخل المواقف المسرودة إضافة إلى توسيع نطاق حقيقة هوية القراصنة الصومالييين وطبيعة حياتهم وماهية شعورهم بالقهر ووضعهم فى التأرجح المقصود بين وصف الجانى والمجنى عليه بشكل هادىء ينشط الذهن ويبلسم العاطفة فى آن.
أدق الأمور جاءت محسومة ونمِرة فى تحقيق وقع الصدى المناسب ..متى يهتاج أحد الشخصيات ومتى تهدأ ثورته، وفقا لأساس شخصيته المرسومة بعناية، كيف يبدأ أحد الأوضاع الخطرة فى التصاعد وكيف وعلى ماذا يصل لذروته ويتجاوزها.
جمل من الحوار جاءت كمرآه ينعكس فى جوف وجهتها مضومنها المنافى، تشعر بذلك فى اصرار الصومالى على تكرار جملة "لا تقلق أيها الأيرلندى كل شىء سيكون بخير" وهكذا كانت ثقة فيليبس الواضحة وهو يقنع الصوماليين الثلاث بعدمية جدوى ما يفعلون فى بداية اختطافه بالقارب الصغير، فبينما يبعث هو فى أنفسهم القلق ليتراجعوا يطمئن ذاته ويعمل على تهدئة روعها والدليل أنه تخلى عن هذه الحُلة الزائفة فيما بعد، بعدما أطلق العنان لنفسه فى يأس ليتصرف كما يمليه عليه احساسه المتشائم بكل ما يحدث.
كل هذا إلى جانب مدى البراعة التى تمثلت فى خلق حالة الرعب المناسبة بداية من رؤية مراكب القراصنة من على مبعدة وحتى نجاحهم فى الصعود على متن السفينة، إنها المهارة القصوى التى تقتضيها صنعة السينمائى ذو الشخصية الجادة القيّمة التى تدعو للتأمل والطابع البراق الذى يستحوذ على الفضول ويحقق الامتاع، إنها موهبة السائر على الحبل.
عن الصورة
على مستوى الصورة مال المخرج إلى استخدام اللقطات السريعة منذ بداية الفيلم، وبشكل عام جنح فى حركة الكاميرا إلى الكادر الغير مستقر المتوتر وخاصة فى فترات تأزم الحدث، وإن بدا ذلك معبرا فى حين جاء مشوِشا فى آخر على وضوح الصورة فى حد ذاتها.
ويمكن القول أن الصورة فى الفيلم أدت دورها المطلوب لا أكثر ولا أقل ولكنها لم تُستخدم كأداة يمكنها أن تضيف أكثر إلى المختلف الذى أتى به السيناريو.
توم هانكس ممثل عندما تتعرض له يُفقدك ذاكرة تاريخك معه، وتبقى انت وهو والشخصية التى يلعبها وكفى، فيليبس شخصيته التى تمكن منها ولم يسمح لها على قدر رونقها وجاذبيتها بأن تمتلكه فهو من الفنانين القلائل الذين يصبغون شخصياتهم بالسحر الذى تنطوى عليه أنفسهم مهما بلغ وهج تلك الشخصيات على الورق، أما عن باركاد أبدى.. فهو الإختيار المُبهر والموفق الذى يُشبه الفيلم بأكمله فى قوته على الرغم من هدوءه، صاحب العينين النافذتين المعبرتين ونبرة الصوت الماكنة، يعلق فى ذهنك منذ أول مشاهده وتخرج من الفيلم بغير اندهاش من أنه احتل مساحة متسعة من قلبك على الرغم من أنه على مواجهة مع توم هانكس فى جبهة يقاسمه فيها الصومالى المتعصب الآخر والذى أكل باركاد حضوره أكلا مضنيا.
تعليقات
إرسال تعليق