نُشر فى جريدة القاهرة
.............................................................
إسراء إمام
"سحقا للقواعد "..
جملة ظلت تلح على أذنىّ بينما كنت أشاهد فيلم
"الخروج إلى النهار" للمخرجة هالة لطفى، خُيّل إلىّ أنها تزعق بها أكثر
من مرة ..تُنطق بها فى الصورة التى نصبتها لفيلمها أمام عينيك ..وتمررها فيما بين
هذا الإحساس النابض الذى يوجد مكانه فى نفسك وأنت تشاهده ...
إنها المخرجة التى انتوت أن تقدم حالة وامتلكت من الجرأة
ما دفع بها لأن ترتسم صورة مخليتها كما هى متمادية فى الحرص على بكورتها والابقاء
عليها بعيدة عن عبث القواعد والمقاليد وتجارب السّلف التى باتت دليل سينمائى بحت
لا يشذ عن مساره إلا القليلون أما من ضربوا به عرض الحائط وقدموا سينما تنطق عن
لسان حالهم حتى وإن كانت معادل معكوس ومنافى عن ما سبق فهم نادورن ..
وحالة هالة شديدة الخصوصية ففيلمها يحمل فى جعبته الكثير
من الجرأة والتحدى والثقة بالنفس ، لوهلة شعرت أن الكاميرا ما هى إلا قلبها يمتلك
عينين ينقل لك بهما مفردات الصورة التى يرتئيها كيانها بصدق عن أسرة بائسة أكل مرض
فرد ما فيها قدرتها على التواءم مع الحياة ..وملأ نفس كل واحد منها شحنة مشاعر
مرتبكة غامضة ولكن الأكيد أنها قوية نفاذة تشعر بقسوتها وأنت تلتزم مقعدك فى
السينما على مبعدة منها . فتاة فى العشرينات شغلها الشاغل منذ أن تقابل عينيها ندى
الصباح رعاية والدها القعيد ..تلمس ثقل روحها فى المشهد الأول الذى تدعوها فيه
أمها إلى مغادرة الفراش ، تنتظر الفتاة.. تمكث فى نومتها بشهية غافلة عن الحياة
ومن ثم تنهض .
شعور مكثف
بالتوتر تفطن إليه فيما بين الأم وإبنتها يصل إلى ذورته فى أحيان فيشكف عن خراب ما
فى التواصل بينهما بينما يخفت فى تارات أخرى لينحسر عن ود وحنو وأساس قوى فى
المشاعر التى تربطهما يفوق شعور الغريزة الذى من المفترض أن يكون متواجدا بدوره ،
مثلا فى المشهد التى كانت تنهر فيه الفتاة أمها على جلبها الملاءات التى تعتبرها
نذير شؤم أيضا التجاذب الخفى فيما بينهما على رعاية الأب وكأن كل منهما تريد أن
تثبت لحالها أنها المسئول الأول هنا مما يدعها قادرة على أن تكِن للأخرى شيئا من المشاعر
الانتقامية التى تُحاسبها فيها على ضياع جزء من نفسها فى هذا الوضع المأساوى الذى
تعلم كل منهما فى قرارة نفسها رغم كل شىء بأنه لا أحد من ثلاثتهم مسئول عنه..تتجلى
مثل هذه الأحساسيس المُعقدة فى المشهد الذى يقومان فيه بمداواة قروح الرجل معا حيث
تلمس إصرار الأم على أن تضع يدا لها فيما يحدث عنوة وفى المقابل تجد رغبة الفتاة
فى التقليل من شأن ما تفعل الأم وتعنتها فى أن تُذكرها بنسيانها الدائم للسعى فى
شراء المرتبة الطبية التى تقى ظهر أباها من الجروح وفى الجانب الآخر تتلقى ملامح
الأم كلمات الفتاة بغضب صارخ مُتشح بالسكون والإذعان ،إلى جانب المشهد تنتقد فيه
الفتاة أمها بلهجة لاذعة على استضافتها لقريبهم الشاب ويمكنك أن تراقب نظرات
الفتاة الحارقة وهى تتناول أطباق الطعام من المائدة وهى تحدق بها الأم فى صورة
بغيضة جسدت كم السلبية التى تمكنت بالتراكم من أحساسيس الفتاة تجاه الوضع برمته .
الأكثر ابداعا هو اصرار الكاتبة والمخرجة على أننا كبشر لن ولم تمضى مشاعرنا على
نفس الوتيرة لتقدم لك فيما بين الثنائى ذاته مشاهد تنم كما ذكرت عن أساس قوى يقوم
على أحساسيس خاصة فيما بينهما مثلا بعدما كانت توبخ الأم ابنتها على رغبتها فى
الخروج من المنزل تسألها فيما بعد إن كانت فى حاجة إلى المال ..بعدها تودعها بلهجة
ساخطة وقسمات نافرة " مع السلامة ياختى " فى نفس الوقت الذى تسألها فيه
الفتاة "شكلى عدِل ؟" فتجيب الأم فى بساطة وبنبرة حانية "
عدِل" ، لفتة أخرى غاية فى الجمال ففى وقت اشتد فيه تعب الرجل واصطحبته الأم فيه
إلى المستشفى لتصّح توقعاتها التى أملتها على ابنتها عندما رأتها على وشك مغادرة
المنزل " واعمل ايه لو ابوكى جراله حاجة ؟" والتى تجاهلتها الفتاة ومضت
محققة قرارها ،لم تنهر الأم الفتاة عندما حدثتها فى التليفون لتنبأها بل بالعكس
سألتها أولا عنها واطمئنت عليها ثم أخبرتها أنها فى المستشفى مع والدها ..
يتطرق الفيلم إلى محنى آخر يخص الفتاة وإحساسها بالعالم
من حولها ، اتصالها المبتور مع الحياة والذى يتبدى فى علاقتها العاطفية المشوهه لتكتشف
فيما بعد أنها ليست إلا علاقة عشوائية منبتها إحساس بالحرمان يتضح أن الفتاة تبذل
فيها الكثير من طرفها بدون أى مقابل من جهة الطرف الآخر ولا يُثنيها ذلك عن المضى
فى إختبار عواطفها وكأنها تحمى المشاعر التى تمتلكها فى داخلها بالفطرة من الصدأ
وفى أقرب فرصة عندما يلم بها الشعور بالذنب بعد أن يدخل والدها المستشفى تطلب فى
حنق من هذا المجهول أن يكف عن الاتصال بها " احنا ماكنش من الأول بينا حاجة
" تقولها فى بساطة وتشعر بالرضا ينبعث من داخلها وهى تُنهى المكالمة بغير ذرة
ندم . ومن بعدها تأتى حالة التيه التى تمُر بها الفتاة بعدما يتخلى عنها سواق
الميكروباص وهى فى طريق عودتها من الحسين.. خطواتها المتخوفة فى حين والمتأنية
المتأملة فى آخر وسط الكادرات المظلمة والمكان الغامض من حولها الذى تتنكر له فى
البداية ومن ثم تطمئن وتهيم فيه بتعمن حتى الصباح ...
حركات الكاميرا من بداية الفيلم قادرة على أن تُبهرك
وتواجهك بلغتها الجديدة العفوية ، كادرات تدعوك فى هدوء إلى الانصات لما تقول وفى
الوقت ذاته تدفعك لأن تعيش الحالة بتلقائيتها وحيويتها وكأنك عينا حاضرة لها الحق
على أن تطلع على كل صغيرة وكبيرة مثلا ترى الفتاة وهى فى الحمام ترتب شعرها فى
الوقت ذاته الذى تراقب فيه الأم وهى تعمل بالمطبخ وما الداعى لكى تنفرد بك الكاميرا
بحدث من الاثنان وأنت قادر على أن تراهما معا فصحيح أن الحدثين ليسا على القدر
الكبير من الأهمية التى تدفع بهما لأن يتصدرا الشاشة أمامك وقتا كهذا وإنما
بفضلهما يتسلل إليك الكثير من صدق معايشة الحالة ، وعلى هذا المنهاج سارت المخرجة
هالة لطفى طوال الفيلم لم ترضى إلا صدق إحساسها بغير اضطرار لأن تشذب منه وفقا
لأفكار هاجسية تبدأ بجملة "من المفترض أن يكون........ " ، وإن كان بعض
المشاهد احتاجت إلى قدر من التكثيف وإختصار الوقت إلى حد ما وخاصة فى الجزء الثانى
من الفيلم ..
الخروج إلى النهار ..سينما جاءت لتعلن عن مخرجة تملك
ذائقة شديدة الخصوصية وإحساس لا يضاهيه سنوات وسنوات من الخبرة الأكاديمية
والعملية ..
آخر كلمتين:
_ المشهد الذى تتحدث فيه الفتاة إلى نظيرتها التى التقت
بها فى احدى وسائل المواصلات لم أشعر به إلا وهو يتحرش بحدث يُشغل حيزا فى هذا
التوقيت من الفيلم .
تعليقات
إرسال تعليق