التخطي إلى المحتوى الرئيسي

آنا كارنينا... الفيلم الذى ينطق سينما

نُشر فى مجلة مصرى                                          

كتبت_ إسراء إمام
على عكس ما ندّعى دوما نحن البشر مصابين برهاب كل جديد ..
منذ المشهد الأول فى " آنا كارنينا" وأنا أحاول أن أستوعب التكنيك الذى سيتم به سرد الفيلم‘ وعندما وعيت لما ابتدعه المخرج "جو رايت" ليصيغ لك الرواية الشهيرة لتولوستوى التى تداولتها السينما والمسارح وتغنت بسيمفونيتها مرارا وتكرارا للأسف ألم بى بعض من التأفف والتململ ..
"ليس هذا ما توقعت" ...
"أبهذه الطريقة يتم معالجة الرواية وعلى يد مخرج أحببت حسه السينمائى قبلا وبشده"..
مسرح كبير تتلاحق عليه الأحداث وتتوالى الشخصيات، يتغير الديكور أمام عينيك وتصاحب بعض الشخصيات خلف الكواليس ..
طريقة سرد مثل هذه كفيلة بدفعك مبدئيا للإقرار بأن المجهود المبذول فى الفيلم تضاعف لأربعة أضعاف ..
ومن ثم يبدأ عندها كل شىء ..
تفيق من أفكارك المادية لتدخل دنا أخرى، تتنبه على" آنا " وهى تراقص محبوبها يتوقف كل شىء من حولهما يتجمد ومن ثم يتلاشى ترتكز على اثنيهما كومة الضوء فيشعان أناقة وبهاء ..يحلقان فى دائرة فضفاضة تلتهم حولهما بفم واسع وشهية شرهة تتعالى الموسيقى تدريجيا شيئا فشيئا ومن ثم تصل إلى الذورة تبوح لك بسر العاشقين وتُعلمك بكم الوقت الذى احتله كل منهما فى بؤرة يطالها حديث الناس وفقرات القيل والقال ، تُعزيك الموسيقى وأنت ترى خجل كل منهما بعدما أفاق على ما فعلا ..تقرأ العيون ويدخلك إحساس بالانقباض ...
"أنت الآن فى عالم آنا كارنينا" ...
أنت الآن أمام سينما بصرية بحتة ..سينما تنطق عن ذاتها ولا تشابه غيرها..لا يمكنك أن توصفها أو تختذلها فى حكاية تقصها على من فاته رؤيتها لن تكون مجرد كلمات وإن كانت أوفت حق الكلمات واعتنت بها مع الصورة ...
تهرع آنا  متأخرة لمكان الحفل الذى ستلتقى فيه بمحبوبها بعد تردد فى عدم الذهاب من الأساس ، يخبرها الجمع بأنه لم يطق انتظارا وولى بعيدا ..ترفع نظرها للألعاب النارية فى السماء وتركن برأسها لأعلى مغمضة العينين،يتردد على أذنيها صوته فتفيق من حلما أصبح حقيقة وترتئيه أمامها وقد عاد وقرر فى نفسه عدم الذهاب يراهما زوجها ويُخبرها حين عودتهما إلى المنزل بأنها يجوز وعن غير قصد أن تُلفت نظر الناس توقف هى اسهاب كلماته " لا أعلم عن ماذا تتحدث ... وقد تأخر الوقت" ...
"قد تأخر الوقت" ...ومن بعدها تبدأ ملحمة حب عنيفة بين العاشقين يتم القطع بالتوازى بينها وبين مشهد يسبقها مباشرة وهم يستعدان لممارسة الحب ليعلق بذهنك لقطتين من بين كل هذه اللقطات السلسة الرائعة ، لقطة يتلامس فيها كفيهما بمنتهى الرقة وأخرى يتطارحان فيها الغرام بقوة..
 كلا كلا تراه بمنظور جديد ..
مشاهد الحب .. بصريات الصورة فى حد ذاتها_تجدها لوحات فائقة الجمال تجابه عينيك لن تنسى آنا وهى تتجمد منبوذة مما حولها بعدما عاملها كل من حولها على انها عاهره ..وستتنبه للمشهد الذى جمعها بعشيقها وهم يلبسان الأبيض وكأنهما فى جنة _ ..تناغم الموسيقى مع الأحداث ..بروز الشخصيات وتواريها خلف الكواليس_ مثلا عندما ترفض كيتى الزواج ممن أحبها يتوارى خلف الكواليس _ .. الطريقة التى تتحرك بها الكاميرا ..الكادرات التى لم تتوانى فى أن تكون رحيمة بك وتعطيك وقتا كافيا لتستوعب ما سبقتها _وأكثرها كان فى المشاهد التى تتشتت فيها كارنينا وتصاب بحالة هياج وخصوصا بعدما تكتشف خيانة "أليكسى"_..الرمزيات التى يُضمنها السيناريو _مثلا فى المشهد التى تواجه فيه "كارنينا" زوجها بأنها عشيقة "أليكسى" تغادر فيه العربة التى تجمعها بالأول لتلاقى الثانى فى متاهة عتِمة وباردة يغشوها شحوبا مُقبض_
آنا هربت مع أليكسى وهى تعتقد أنها السعادة فإذا بها تتشتت وتضيع  ومصيرها يكون قضبان القطار فلا هى الأم التى كانت بجانب ابنها الذى عشقها أكثر من أى شىء ولاهى العاشقة التى سعدت بمؤانسة حبيب تركت من أجله كل شىء ليخونها،وكيتى رفضت الزواج ممن أحبها على أمل بأن أليكسى أفضل منه وعندما حدث وتزوجت مما رفضته باتت أسعد مما قد تتوقع يوما، وقبل النهاية يُسلل الفيلم لك الحكمة ببساطة " لا قاعدة دائمة للمنطق ...والحكمة ألا تؤمن بأى حكمة".. عندما ترى زوج آنا وهى يراقب ابنه وابنة زوجته من عشيقها بعين حانية ..
حالة قوية تُلم بك بعد مشاهدة آنا كارنينا ..وببساطة تشعر أنك تحتاج لأن تشاهده أكثر وأكثر ..
وأنك ستظلمه لا محالة عندما تكتب عنه مرة ..
آخر كلمتين:
_ "كيرا نايتلى" ...ممثلة أكثر من رائعة ..
_ "جود لو " تنطبع عينيه وسماحه وجهه فى ذهنك ..
_ من لعب دور "أليكسى" لا استسيغ وجهه بالمرة (فرفور من الآخر)!!..

_ تحية للمخرج "جو رايت"..وللموسيقى "داريو مارنيلى"..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...