التخطي إلى المحتوى الرئيسي

About time ... وسينما الموضوع المؤجل

نُشر فى جريدة القاهرة
......................................................................


إسراء إمام
معروف أن أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم، ولهذا بقيت التعرجات من الأمور الغير مستحبة فى المعظم، وخاصة عندما تقرر أن تكتب فيلم فمن الشائع أن تضع أمامه المُشاهد حيال العقدة الدرامية الواضحة حتى وإن إختلفت طريقة تناولك لها ومعالجتك إياها، حتى وإن تعددت فى شكلها واتخذت محنى مغاير يظل المتعارف عليه فى قوانين الفيلم الجيد أنه مهما بلغت به الذروة فى التحليق على مبعدة لابد وأن يعلن عن المجرة التى ينتمى إليها ويُبقيها سرا بينه وبين المشاهد الذى يتابعه بشغف مستمد بثبات من الفكر المشابه.
أفلام قليلة تخرج عن الإطار، تُقدم سيناريو مختلف وحبكة مغايرة تتعرج كثيرا لدرجة تعجز فيها أنت عن الادراك لوهلة أو لأخرى ولكنك تظل مشدوها متشبثا بطرف الخيط واثقا بغير أدلة دامغة أنك ستصل حتما وإنك وإن تعرجت على غير العادة لن تتعثر، سيناريو آخر يغير من طبيعة خريطة التلقى ذاتها التى اعتدت عليها منذ عهد طويل، ويتطلب منك نوع خاص من المشاهدة لا يتطلع إلى ما هو بعد بقدر ما ينشغل بالاطلاع على ماهو أمامه بدون أغراض، تمنيات، وافتراضات فى ما هو آت من الشريط الفيلمى.
About time  ينتمى إلى هذه المدرسة، مدرسة الموضوع المؤجل، فالسيناريو هنا قادر على التحدى فى أن يُبقيك مهتما حتى وإن كنت على غير علم بالوجهة المقصودة، تيم "دومينال جليسون" من عائلة عادية جدا ولكنها فى الوقت ذاته تملك هبة مميزة يُعلمه أبوه إياها انطلاقا من بداية الفيلم وهى قدرتهم الوراثية على التنقل عبر الزمن، يقابل تيم فيما بعد فتاة أحلامه مارى "رايتشل ماكادمز" يتعرف عليها فى ظروف عادية ولكنه نتيجة لاستخدامه السيىء للسفر عبر الزمن يفقد لقائه بها ويبات مضطر أن يتعرف عليها من جديد وتارة أخرى يستخدم  موهبته فى أن يتخلص من الحبيب الطارىء الذى تعرفت عليه ليحوز عليها من دون منافس ومن ثم وبعد تخطى كل العراقيل التى تفصله عن مارى وفى نصف الفيلم تقريبا يتزوجها فتنحل العقدة الدرامية التى كنت تتابع الفيلم وفقا لها، وتبقى على غير يقين بمعرفتك بما أنت مقدم عليه وقد تتسرع نتيجة لإعتيادك على نوعية معينة من الطرح وتطبع حكمك على الفيلم واصفا اياه بالارتباك، وتغفل عن حقيقة طبيعة هذا الشطر الثانى من الفيلم على وجه الخصوص وهو يدعوك على مهل لتشرب تفاصيله جماعا دامجا اياها مع ما أتاك من شطره الأول ليتوحد الموضوع والمغزى الأكثر ثراءا وعمقا واختلافا بناء على مادة درامية تراكمية تحمل تحت جلدها المطرز الأنيق قيمة أخرى لا تكتمل إلا بنهاية آخر مشهد فى الفيلم .
عن الحبكة ككل
إن ذُكرت الحبكة فى هذا الفيلم حضرت الحياة بأكملها، فالسفر بالزمن هنا ليست فكرة مثيرة للفضول مدعاة للضحك والاختلاف ليست الغاية بل الوسيلة التى استخدمت بإحكام للتحدث من منطلق آخر عن الكيفية التى نحيا بها، لم يتعامل المخرج ريتشارد كيرتس مع فكرة السفر عبر الزمن على أنها الدجاجة التى تبيض له الذهب وإنما عمل هو على تخليقه وصنعه أمام عينيك، فبعد أن تتم مشاهدتك للفيلم بالكاد ستتذكر أنه قدم لك  ظاهرة خارقة قدمت حلولا سحرية لأى شىء، على مبعدة من أى مباشرية مقيتة سبق وأن لجأ إليها أكثر من فيلم قدم مثل هذه الظواهر التى تخلق حلولا ومن ثم تضطر لأن تطرح فى النهاية ما يفيد بأن القوة الحقيقية فى داخلنا ومثل هذا القبيل من الدروس المستفادة، بينما نفى كيرتس عن نفسه مثل هذه السذاجة وقدم سيناريو يتعامل منذ البداية مع الأمر بحرص شديد لا يسرب إليك إحساسا بأنك أمام تيم الشاب العاجز الذى وجد حظ حياته فى موهبته، ولكنك أمام تيم الشاب المثابر الذى يمتلك القدرة ليقرر ويريد ويمتلأ أولا بالدوافع ومن ثم يبحث عن الطريقة التى يفعل بها أى ان كان كنهها .
ففى أول لقاء مع فتاة أحلامه، حدث الانسجام بينهما بشكل عفوى حقيقى نابع من كونهما أحبا أن يكونا معا ولا يد لأى ماورائيات للطبيعة فيما جمع بينهما، وقد حرص كيرتس على أن يصبغ مزيد من النعومة و التفرد على هذا اللقاء الأول بالذات ليظل عالقا فى ذهنك_على اعتبار أنه سيتكرر وفقا لطبيعة القصة وعندما سيلجأ تيم إلى استخدام موهبته فى استعادة مارى_ فيبقى هذا اللقاء دون غيره هو الأقوى يجلس الجميع فى تلك القاعة المظلمة لا يرون أنفسهم وأنت مثلهم لا تستمع إلا إلى أصواتهم وبالتوالى يظهر توقيت الساعة من حين لآخر، يمرق الزمن وتتغير نبرات الأصوات بين مارى وتيم، وتتعالى درجة الحميمية بينهما تدريجيا وبعد السهرة يبقى المشهد الأجمل عندما تتلاقى الأنفس اللقاء الحتمى الأخير فتطل مارى بوجهها على تيم وتنعقد آخر حلقة فى ملحمة تورط كل منهما فى الآخر عاطفيا.
وهكذا تبدو معظم الأشياء التى لجأ تيم إلى استخدام موهبته فيها، فعندما تخلص من حبيب مارى الجديد حرص كيرتس على أن يظهر فى الأساس أن هذا الشخص غير مناسب لها على الاطلاق، وأنهم على مفترق طرق من البداية، وكذلك عندما تدخل لينقذ مصير المسرحية التى تناسى ممثليها الحوار بدا الأمر لا ينفى أبدا كون متنها مادة فنية تستحق النجاح، بينما فى الوقت الذى تدخل تيم فيه لينقذ أخته من مصيرها الذى لا يملكه غيرها باءت محاولته بالفشل وأجبره القدر فى النهاية على أن يطلق يد أخته لتصلح عطب حياتها بنفسها لأنه لا سبيل آخر متاح .
ولأنها الحياة هى وحدها التى يتحدث عنها السيناريو ويتمحور حولها، ستلمس العناية بتفاصيل كل الشخصيات المحيطة بالبطلين وخاصة من عائلته، أخته، وأقاربه،أصحابه، وأبيه، وبالذات العلاقة التى تربط  بينه وبين الأخير والقدرة على خلق خط درامى موازى موجود منذ بداية الفيلم خاص بالعلاقة بين الاثنين للتحضير لما سيحدث فيما بعد بينهما. ولأنها الحياة هى وحدها التى يتحدث عنها السيناريو ستجد العديد من المشاهد التى لن تجد لها سياق بالمفهوم الشائع مثلا المشهد الذى يجمع بين مارى وتيم وهم يتفقان على اخيتار تفاصيل الزواج والآخر الذى تستشيره فيه عن الفستان الذى سترتديه كلها مشاهد لها وقتها مكتوبة بعناية من دون غاية قريبة وإنما تنتمى إلى الغاية المؤجلة التى تُشعرك بقيمة أبسط تفاصيل الحياة، وأقل حوادث اليوم أهمية والتى قد يكمن فيها سر السعادة والابتسامة، التى فى النهاية تعد كلحظة لها حقها فى أن تشكل فارقا فى العمر بأكلمه إنه الشغف الذى ننشغل عنه بالتطلعات ونهدره فى انتظار الأفضل وفى الحقيقة لا أفضل سواه، وعلى هذا الحال لا يكف السناريو طوال الوقت عن اخبارك بنبرد هادئة مطمئنة وبكل طريقة ممكنة "كف عن الانشغال بما هو آت.. وعش لحظتك كما لو أنها الأخيرة".
"رايتشيل ماكادامز" هى بريق ينطوى فى قلبه على ممثلة موهوبة، ولا يمكنك ابدا أن تصفها بعكس الترتيب فالكثير يمتلك الموهبة ولكن القليل جدا ممن يمتلكون هذا الحضور المشع ولأن المخرج "ريتشارد كيرتس" على الدرجة  الكافية من الوعى بتلك الحقيقة لم يقبل لفيلمه بطلة سوى ماكادامز، أما عن "دومينال جليسون" فهو من الممثلين الذين يتسللون إلى حيز إعجابك على مهل ويبقون هناك لأمد ثاقب الأثر، وكذلك عن دور الأب "بيل نايى".
آخر كلمتين:

_ "marly & me" للمخرج ديفيد فرانكل هو نموذج آخر جيد جدا عن سينما الموضوع المؤجل .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...