التخطي إلى المحتوى الرئيسي

Enough said ...سينما اللالون

نُشر فى جريدة القاهرة
................................................................................



إسراء إمام
هل فى إمكاننا التفكر بأن الأفلام قد تتلاقى شكليا مع وقع الألوان، وبالتالى يمكن رؤيتها فى المخيلة وهى تختزل ذاتها فى لون مُعين، مُضّمنا بعدة دلالات، قد لا ترتبط فى الأغلب بجودة الفيلم أو ردائته، ولكنها أكثر ميلا للإلتصاق بمدى التفاعل النسبى لكل شخص حياله. ولكن ثمّة أفلام تلتزم بدرجات متفاوتة من الشحوب بحيث لا تطالها صبغة أى لون، تقف على مبعدة من الألق اللونى تماما كما تواظب على الوقوف فى منطقة منزوية بقدر أو بآخر عن موضع الأخذ والرد بين المتفرج وبين الشريط الفيلمى.
Enough said من هذه الأفلام التى تلتحف باللالون، لا تحمل جينات تكوينها على الشاشة سمة لونية محددة، وبالتالى فهى تمرق من عين المُشاهد إلى مخيلته فى هدوء، لا تُحدث الصخب المطلوب، تُلقى بخطواتها فى وداعة زائدة عن الحد، فتمر من فورها مرور الكرام. إنه من الأفلام التى لن تنتظر لما بعد نهايتها لتتأكد من كونها لن تُغير من مزاجيتك، وإنما يتضح هذا الإنطباع جليا بعد عدة مشاهد لا أكثر، فعلى الرغم من تماسك الفيلم على المستوى الفنى، ووصفه إجمالا بالفيلم الجيد، إلا أن هذا لا ينفى عنه شيئا من  الحياد الذى يطغو على تركيبته ، والذى لا يطل به فيلما آخر يجتمع الكثيرون على تدنى مستوى صناعته.
إنها حقيقة، هذه القدرة على إختطاف المتفرج، تعد مكونا هاما من مكونات أى فيلم، قد يختلف صداه أو توقيت أثره، لكن عدميته تُحسب على الفيلم، وتأخذ من قوة حضوره، وتعوّم شخصيته، وتساوى الساعات التى قضاها المتفرج ليشاهده ببقية أوقات يومه. والسطور القادمة تتعرض لـ enough said تفصيلا،  وتدعو للإلتقاء مع مساؤه ومميزاته إلى حد ما، قد تعمل على تفنيد أسباب هذه الثغرة وقد لا تفى بها، ولكن هذا لن يقُوّض من موضعها فى الفيلم، باقية تُحيل ما بينه وبين مكان مميز من نفس المتفرج وعملية تلقّيه.
 ما بين الشخصيات والدراما
"نيكول هولفسينير" مخرجة رهيفة الإحساس، تعتنى بشخصياتها عناية فائقة، سبق وإختبرناها فى فيلمها الأروع على الإطلاق friends with money ، وها هى تُعيد الكرّة من جديد فى enough said، وتبلغ ذورة تألقها فى تهذيب سمات شخصيتها الرئيسية إيفا، الأم المطلقة التى تمتهن التدليك، تذهب إلى منازل عملائها وتفترش أريكتها البلاستيكية، ومن ثم تراهم عراة رجالا ونساء الكل سواسية فى أن تعبث بأجسادهم بالطريقة ذاتها، باعثة فى جنباتها قدرا من التراخى تفتقده هى، فطبيعة مهنتها فى حد ذاتها تحض على الأرق، البعض يلوكون فى الحديث والآخر قد يتحرش بها، فضلا عن صديقتها وزوجها والتى تربطها بهما علاقة وثيقة، ويطالها من إزعاج علاقتهما الكثير، كل هذا يتزامن مع رحيل ابنتها من المنزل للإلتحاق بالجامعة. إيفا هى الشخصية الأبرز والتى تم تطويع وجود الجميع من حولها لخدمة وتدعيم معايشتها النفسية، ولهذا بدت باقى الشخصيات مُحتفظة بإطلالة نصف ضبابية، مثلا تلك الصديقة وزوجها، إنهما على الأرجح يعانيان من اضطراب ما فى علاقتهما، لم يبلغ شعور المتفرج به للكمال دون وضوح الشخصية ذاتها، فالزوجة تميل دوما لنقل الأثاث والزوج يتطلع دائما لنقد زوجته، بينما تتوسط الخادمة فى منزلهما موقعا غريبا من علاقتهما، تتمثل فى طردها وإعادتها أكثر من مرة، إنه تكوين غرائبى فى مجمله، يلوح فى مظهره ببعض الجدية، ولكنه يظل مبتورا هشا لا يخدم إلا توتر الواقع المحيط بإيفا، ويدعم من سمات شخصيتها وتطورها مع الوقت، ودفعها لكى تكون أكثر ألفة مع السيدة التى تدخل حياتها مؤخرا كأحد زبائنها، لترى معها نقيض كل ما تتعرض له، فتُرحب بها كصديقة قريبة، رائقة الذهن، حالمة بعض الشىء وتعمل بكتابة الشعر، أنيقة بجسد يخلو من البثور الدهنية، مُهندمة المنزل، وحتى الشاى الذى تُضايفها به طيب المذاق، إنها الإله فى عين إيفا، وكالعادة تفاصيلها كشخصية تعود بالنفع على ايفا، أكثر من كونها تُعبر عن حقيقية وجودها، وهذا ما يضر فيما بعد بذهن المُشاهد، حينما يحاول أن يتخيل الدوافع التى جمعت بهذه السيدة وبين ألبرت طليقها، والذى ستكتشف ايفا فيما بعد أنها تواعده دون أن تعلم بهوية ما يُربطه بصديقتها الشاعرة لبعض الوقت، فالكثير من المفارقات تجمع ما بين شخصية المرأة وطليقها، ولكن بالطبع ملاقتهما الأولى التى دعت إلى اتفاق أدى إلى الزواج لم تكن بهذه الهزلية، ولكن السيناريو لم يدع مجالا لهضم شخصية هذه السيدة جيدا بما يوضح سببا واحدا يجعلها تُقدم على الزواج من هذا الرجل، الذى يعد الشخصية الوحيدة التى أجاد السيناريو التعبير عنها إلى حد ما، فحضوره مكتمل قوى، مصقول ويفى بالغرض، يحقق جانبا جذابا يخدم الدراما ويختزل فى ملامحه وهيئته مدعاة النفور الذى ستشعر به ايفا فيه على مدار الوقت، بعدما تلقى أذنا لحديث طليقته عنه بلهجة استعلاء واصطياد للعيوب.
مناطق تميز
تطور العلاقة الرومانسية ما بين إيفا وألبرت، أهم منطقة تميز فيلم enough said، فلقائهم الأول بالحفل، يُنذر وحده بكثير من التفاهم فيما بعد، ومن ثم لقائهما الأول بالمطعم يشى بمزيد من الثقة والبوح، وفيما بعد يأتى المشهد المتألق الذى يتبادلان فيه القبلات، وفقا لمنهاج محبوك انغمست فيه العاطفة مع التلاقى الإنسانى، وتوائم فيه تقارب مشاعرهما وفقا لطبيعة شخصية كل منهما، فألبرت يحمل من الوداعة والطفولة ما يؤهلانه للإنطواء أسفل جناح ايفا، وفى الوقت ذاته ما يُنصبه محتويا لها فى مساحة من الإصغاء والتروى وتقديم الدعم، حتى ضخامة جسده تحرض على هذا الإحساس بينهما، فى الوقت الذى تبدو فيه هى المُسيطرة على الأمور، والقائمة على ترويض حجمه وبراءته، وارتشاف طيبته وهدئة  طباعه على مهل.
منطقة أخرى بزغ فيها توظيف التفاصيل، نراها فى الكيفية التى نفرت فيها ايفا من ألبرت، بعدما تكتشف أنه ذاته الرجل الذى توصمه صديقتها الشاعرة بأقذع السمات، فتتحسس من معاملته، وتبدأ فى مراقبته بعين أخرى، تفصيلتين أتوا فى هذا السياق أجاد السناريو استخدامهما أكثر من مرة، منهما تفصيلة الصوت الأجش الذى يستخدمه ألبرت فى الهمس والذى كان مدعاة لشكوى أحدهم منه فى السينما بينما كان يجالس ايفا، لتأتى إيفا فيما بعد وتضحك منه أمام صديقتها وزوجها_الثنائى المتوتر_  على العشاء وتوصمه بأنه لا يقوى على الهمس، وتفصيلة أخرى تخص سؤالها له بلهجة متأففة عن مقدار الكيبوهيدرات الموجودة فى قطعة من الحلوى، ليُتاح له قبيل نهاية الفيلم إعادة نفس السؤال على مسامعها حينما شرعت فى أكل قطعة مثيلة.
أزمة منتصف الفيلم
بعدما يُحقق السيناريو غايته من شخصية الشاعرة طليقة ألبرت، تظل بلا طائل سوى للتحضير للمشهد الصدامى بينها وبين إيفا وألبرت لتحدث المواجهة وتنكشف هذه التعقيدات القدرية، التى لم يكن يعلم بها سوى إيفا، وهكذا وبتعداد ظهور الشخصية قبل ذلك التوقيت، لم ينل المُتفرج منها إلا الإستمراء فى التنفير من ألبرت لأسباب غير مُقنعة، تزيد من بلاستيكيتها كشخصية، وتُحقق وقعا من الفراغ الدرامى، فى الوقت الذى تتوطد أواصر علاقة وثيقة بين ايفا وصديقة ابنتها، لا تفهم مدعاها من الأساس، وهو الذى يُلمح لبُعد ما بين ايفا وابنتها، لم تضح صورته وفقا لتهميش شخصية الإبنة هى الأخرى، فيصبح الأمر ممسوخا على غير فهم، لا تعلم فيه من البداية طبيعة العلاقة بين الإبنة ووالدتها، لكى تأتى وتحل محلها علاقة أخرى بهذه الفتاة الشقراء التى تصادق إبنتها و التى تبدو طيّعة ومؤنسة لإيفا، والأدهى أنك لا تجد لهذا الخط بأكمله أي مغزى مفهوم. تماما كاللقاء الذى يجمع ايفا بطليقها، واللقطة التى تتجرأ فيها ايفا وتطلب من أحد زبائنها أن يساعدها على حمل طاولة المساج بعدما كانت تبلع لا مبالاته فى الماضى حيال الأمر، وإن كان المقصود هو قدرة ايفا على مواجهة ذاتها بشكل أقوى وأنصج مما مضى، فما حديث بينها وبين ألبرت ليس بالقوة التى تدفع بهذا التغيير البيّن فى شخصيتها، والذى حتى لا يمكن وصفه بالبيّن، إنه ككل انصاف الأشياء التى صدّرها السيناريو فى هذا الفيلم بعبثية، لا يمكن اطلاق عليها وصفا محددا، لأنها لا تملك أرضا صلبة يمكنها الوقوف عليها قبل أن تحدد إنتماءها لمنطقة الظل أو الضوء.
آخر كلمتين:

_ فقدت المخرجة كثير من بريقا ملكته قبلا فى فيلم friends with money  ، فعلى الرغم من تعدد شخصيات هذا الفيلم، وتوسع العلاقات فيما بينهما إلا أنه، حمل من الألوان أبهاها، لا مجال للمقارنة بين الفيلمين، ولكن إن أصبغنا على فيلم friends with money  اللون الأزرق، فإن enough said  له صبغة اللون الذى يُمكنك أن ترى من خلاله أى شىء ماعداه هو.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...