التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"البؤساء": الملحمة التى فرضت على الجميع مهابتها عنوة!

نُشر فى موقع عين على السينما

....................................................................


"البؤساء": الملحمة التى فرضت على الجميع مهابتها عنوة!


الجمعة 22 فبراير 2013 16:49:00

"البؤساء": الملحمة التى فرضت على الجميع مهابتها عنوة!



 
كتبت إسراء إمام

عدد من الأفلام تطأ بقدميك قاعة العرض وأنت على ثقة أنها حتما ولابد ستنال إعجابك. أحيانا تكون فرضيتك اليقينية السابقة لها أرض صلبة نشبت فيها منبتها وأحيانا أخرى تكن مجرد فقاعة هلامية وهمية مزركشة الألوان وبهيّة الحُلة دفعت بها دعايا ضخمة روجتها لك العقلية الهوليودية المُحترفة والتى أحترمها كثيرا وأضمر لها شخصيا إعجابا لا غبار عليه ولا أرى أي عيب فى مقدرتها على التسويق لسينماها بمشروعية وإبهار.

ولكن فى المقابل لابد وأن نمتلك المقومات التقديرية التى تليق بمواجهة هذه القوى الجبارة التى تخلق فينا عنوة انطباعا ليس مسبقا فقط وإنما مستمرا إلى ما بعد المشاهدة.

"البؤساء" من الأفلام التى نالت من الحديث عنها قبل طرحها فى دور العرض كماً من الجلبة يوازى ما خلّفته بعد عرضها، والمشكلة هنا فى النصف الثانى من المعادلة الذى حتما جاء نتيجة للأول.

الجميع يتعامل مع الفيلم وكأنه قدسى من السماء منزه عن الخطأ. وثقافة الرايجة هى التى تسبق فى التعامل مع الفيلم نقديا، فإسم فيكتورهوجو العظيم  صاحب الرواية التى تم تناولها منذ زمن طويل، فى المسارح الأمريكية والمسارح الإنجليزية، اقترن جبرا بما أفرزته تلك المحاولات من تجسيدا لروايته وهذه التجارب المسرحية بدورها اقترن نجاحها إضافة إلى اسم هوجو ليرفع من قدر فيلم "البؤساء " للمخرج لتوم هوبر إلى منزلة عالية أكثر من اللازم.

علينا مبدئيا إذا أردنا أن نتناقش حول فيلم "البؤساء" أن نغض الطرف عن عبقرية فيكتور هوجو وروايته الحية إلى الآن ، وألا نرهق أذهاننا فى اجترار المعلومة التى تفيد بأن ثمة عددا من التجارب المسرحية السابقة التى تناولت هذا العمل الرائع لأننا هنا بصدد تجربة سينمائية منفصلة البتّ فيها يخص السينما والسينما وحدها هى من تُقرر قبول ما يصنفه صانعى أى عمل تحت رايتها وإسمها.

كلماتى لا تعنى أبدا أننى أهاجم فيلم "البؤساء" نفسه ، فالفيلم كغيره يستحق أن تراه وأن تتداول بشأنه ساعات طويلة، وإنما وأنت تعتلى أرضنا هذه على مبعدة من التحليق السماوى.

البؤساء.. لماذا؟
فى الأساس تساءلت رغم عذوبة الخلفية الموسيقية وروعة الحوار الغنائى: لماذا الإصرار على تقديم البؤساء فى عام 2012 فى حُلة غنائية ؟

تفكرت أكثر من مرة وأنا أستمتع بتلك النسخة الغنائية فى أن "البؤساء" التى رأيت أحداثها على الشاشة ولم أقرأها فى سطور هوجو احتاجت فى دراميتها إلى معالجة مغايرة تُكسبها طابعا أعمق من المساحة الضيقة التى فرضتها الدراما الغنائية فيما بين الاعتماد بشكل قوى على تعبيرات الوجوه ومساحات الأصوات والالتزام بوقت تحتله أغنية ما فى دقائق تخرج بها فى النهاية بمضمون قد تهضمه أنت فى ثوان.

 بداية الفيلم قوية ذلك الكادر الأعلى الذى تهرع فيه الكاميرا إلى أسفل وأسفل لتنقل لك فى جلل مأساة "جان فالجان" (هيو جاكمان) ورفقائه تحت نظر "جافير" أو (راسل كرو) الذى ينادى على المساجين بأرقامهم يلقى لهم بنظره شامتة متشفية متعالية فى الوقت الذى يعبر فيه المشهد كله عن حاله بنغمات اوبرالية شجية تعلق فى أذنيك وتعيد كرة نشوتك بتلك الافتتاحية المهيبة كلما تكررت نفس الجملة الموسيقية طوال الفيلم ..

من بعدها تتوالى الأجزاء المميزة فى الفيلم ، مناجاة "جان فالجان" لذاته بعدما يعتقه القس من عقوبة خرق شروط تسريحه وهى الدقائق الأكثر ملحمية فى أداء "هيوجكمان" .. ومن بعدها الفترة التى تظهر فيها "فونتين" (آن هاثواى) التى تؤدى فيها أغنيتها الشهيرة إضافة إلى المشاهد التى تتوالى فيها عذاباتها وهى تهيم شوارع فرنسا المعتمة القاتمة التى يأكلها الفقر مُتضمنة بألحان متميزة تتسرب إليك وتنل من أذنيك وكيانك بسلالة شديدة.

جانب تقليدي
من بعد موت "فونتين" وهروب "جان فالجان" للمرة الثانية من "جافير" حتى يفى بقسمه لـ "فونيتن" برعاية ابنتها ، يأتى الجزأ الأكثر تقليدية فى الفيلم وقتا يُسهب فيه توم هوبر المخرج فى تصوير جشعية ووحشية القوم التى ائتمنت "فونتين" كوزيت - وهو اسم ابنة فونتين- عليهم ، أكثر من عشر دقائق تدعو بشكل جدى إلى التململ من نمطية المعالجة والاستسهال فى اللجوء إلى التفاصيل القريبة المتوقعة لتوصيف التركيبة النفسية لتلك الرجل والمرأة بطريقة مالت فى بعض صورها إلى الجمع بين الدعوة إلى التقزز والسخرية وفى بعض الوقت إلى الابتسامة إلى أن فقدت فى النهاية القدرة على التأثير من أى جانب.

يتقدم الجزء الأخير من الفيلم إسهاب آخر فى قصة كوزيت وحبيبها الذى ينتمى إلى طبقة النبلاء ويجاهد فى صفوف الثوار ومن بينهم "ابونين" التى تهوى محبوب كوزيت وتدله على الرغم منها لطريق بيتها بقلب مكسور، فى ذلك الجزء- وبغض النظر عن التقديمة الرائعة لجافروش والمسحة الشاملة على شوارع فرنسا وسط صخب السمة اللحنية العبقرية وأصوات والكورال - نتعرقل بعدد من المحطات التى تأخذ من قيمة الايقاع مأساة "أبونين" التى تتجسد فى غنوة اضافة إلى تَغّنى كل من كوزيت وحبيبها كلا على فرادى بما يشعر صوب الآخر اضافة إلى غنوة تجمعهما معا .. ليكون نتاج كل ذلك فى النهاية وقتا لم يسعه أن يُسرب إلى ّ أنا على الأقل لا مأساة "ابونين" ولا مشاعر كوزيت وحبيبها.

أما فيما يخص الأجزاء اللاحقة فهى تعيد الفيلم لإيقاع ملكى  يُشابه فى هندمته جمال الافتتاحية ويظل على هذا المنوال حتى النهاية التى تهتز لها خلايا الجسد.

إعادة نظر
الخلاصة تفيد بأن "البؤساء" حتى فى حُلته الغنائية يحتاج إلى إعادة نظر وإن ضوّت بعض مناطق فيه إلى حد البرق، ولا يُمكن أبدا أن نحتكم فى أجزاء شعر البعض فيها بملل إلى جودة الأغنية وحدها مستقلة عن الايقاع فى حد ذاته فنحن فى الأساس أمام "سينما غنائية"... تصنيف من كلمتين.

أما الصراع الداخلى لكل من "جان فالجان" و"جافير"، والصراع الخارجى الذى يجمع بين كل منهما إلى جانب الصراع الرمزى الذى يشير فيه تصادمهما طوال الفيلم بالتوازى فى رأيى يحتاج إلى معالجة أعمق بكثير مما رأيته فى نسخة "توم هوبر" الذى رغم كل شىء كان جديرا بأن يرسم اسمه من ذهب كمخرج لديه القدرة أن يفرض سماته وموهبته وخصوصية أدواته بتلك الطريقة فى فيلم غنائى.
آخر كلمتين:
 أستطيع أن أطلق على ألحان وموسيقى الفيلم أنها سماوية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...