التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"أرجو"..سينما التاريخ التى لا تُعلن عن نفسها

نُشر فى مجلة مصرى

كتبت_إسراء إمام
ثمة نوعان من الابداع ...
إبداع يأخذك لأرضه وبين عوالمه الخاصة ،يخلق لك دنا من مخيلته يجسدها لك واقعا مرئيا تعترف بعدم كينونته وتُقر بافتراضيته وتصدقه وتعيشه فى آن واحد ..تشيد بصدق كذبة افترش لك بها وقتك الذى اقتطعته شاغرا حواسك وكيانك لمتعة أنت لم تعهد كنهها بعد ..
يقابل ما سبق إبداع آخر يبدو عند المقارنة بسابقه مقيد مُكبل اليدين لا يملك ما يحتكم عليه نظيره من مساحة فضفاضة يتنسجها ليخلق لك حياة أخرى تخطتفك فى جوفها ...وهو ما يمكن أن يسمى ابداع الرصد لوقائع حقيقية لا سيما وإن كانت سياسية بحتة ...
هنا تبدو المهمة شاقة ..
أنت بصدد إعداد سيناريو من حادثة تاريخية سياسية جافة ..يُحتم عليك أن تسرد فيها أكثر مما تتأمل ...
وهذا يجافى منطق السينما الروائية ويبدو أشبه بالسينما التسجيلية ..مُعضلة تُنتج معادلة إن أختل أحد عناصرها ستودى إلى الهلاك ..
ولكن عندما تشاهد فيلم "argo" .. ستشعر بسلاسة لامثيل لها فى التعامل مع واقعة تاريخية النص مُلزم أن ينقلها لك كما هى بتفاصيلها الحيوية التى قد تبدو واقعية أكثر مما تحتمله طبيعة السينما الروائية ، فتشاهد هنا سيناريو فى نظرتنا العامة له ينم عن وعى وحرفية فى سرد حادثة تنتمى إلى السعبينيات وقت ثورة إيران وإقتحام أتباع الخمينى للسفارة الأمريكية مُتقبضين على موظفيها رهائن إلا ستة منها إستطاعوا الهرب ولجأوا للإختباء فى منزل السفير الكندى بطهران منتظرين أن تمد لهم حكومتهم يد العون وتخلى وفاضهم من أرض إيران فى اقرب فرصة ليعودوا إلى بلادهم وينجوا بحالهم من محكامات الخمينى الغاشمة وقتذاك ..
الفيلم يبدأ بسرد مُفصّل عن التاريخ السياسى لإيران ..يأخذك فى رحلة تمزج بين الرسومات الكرتونية والأحداث المصورة الحقيقية لتولى الشاه واندلاع الثورة اثر بطشه بالشعب وتمرغه هو وزوجته فى ثرواتهم وتحاميه فى شرطة السافاك ..بداية مقبضة يقصها عليك صوت نسائى ذو طبقة هادئة يعمّها استهلال غامض يُعدك للمشاهد الاحقة التى تصّور تفصيلا كيفية إقتحام اتباع الخمينى السفارة الامريكية ..
وعند مشاهد اقتحام السفارة يكمن نصف سحر الفيلم ...
فى بدايتها تداخلك نفس الحالة التى تكمن فى أنفس كل من يتواجد بالسفارة ، مراقبة الفوضى التى يُحدثها الجمع من بعيد يُبدى أحد الفارين الستة ملاحظة لزميلة بتزايد عدد الحشد اليوم أمام السفارة ومن بعدها يتساءل "الزجاج مضاد للرصاص أليس كذلك ؟؟" يجيبه زميله "لم يتم إختبار ذلك بعد"...وبرغم القلقلة المحيطة إلا أنك تلمس قدر من الاستقرار فى الاجواء لحين مجىء تلك اللحظة التى يعبر فيها أحد الغاضبين سور السفارة ليجترىء الجمع من بعده على المضى قدما ..لترى أمام عينيك الواحد تلو الآخر ينفذ ليصبح فى الداخل ومن ثم يأتى الآخرون بما يحلون به عقدة الباب الحديدى لينفتح على مصراعيه ويتوسط الحشد بأكمله الساحة الخارجية لتجد كل مجموعة منفذها الداخلى إلى جوف السفارة ...
بين الحالتين تلمس التغير فى حركات الكاميرا وتضع يدك على كم التوتر الذى تسربه إليك ، حالة من الذعر تشعر بها مع كل المتواجدين فى السفارة ..تترقب بعض المُقتحمين وهم يحطمون زجاج نوافذها والبعض الآخر الذى يجد لنفسه طريقا من السطح، تحتار بفزع مع المُتناقشين بين خيار الهروب والخروج من السفارة والرأى الآخر الذى يرى الخارج أرض غير أمريكية وأن السفارة هى الملاذ الأخير والانتظار هو الأسلم لحين مجىء الشرطة أو الجيش ...
تقتحمك اللحظة وأنت فى مكانك جلبة الحشد الهائج تثير ذعرك وهى تبدو جلية واضحة تختلط بطرقات البيبان وتحطيم النوافذ وتهافت أنفاس المُعتدى عليهم ..كلا ينقله لك المخرج "بن أفلك" بحرفية واعية ومن دون استخدام موسيقى إلا فى اللحظة الأخيرة التى إنتهى منها من تلك المعركة الضارية التى خاضها ليسرد لك لحظات كهذه ...فترى عدد من الجمع يسدل على أعين الرهائن رقعة قماش بيضاء فى الوقت الذى تُخطى فيه قدم واحدة من الفارين إلى خارج السفارة على بقعة مُلفتة من الدماء تدّر إليك إحساس تشاطرهم فيه الغربة والتيه وتطبع فى ذهنك مظهر وحشى للأرض التى دلفوها من دون وجهة أو مقصد ..
مشاهد أكثر من رائعة لوهلة ستجد نفسك مشوشا من فرط حقيقيتها،فبعض اللقطات القطعية التى يقل حجم الشاشة فيها يمكنك أن تخمن أنها من التصوير التاريخى الحقيقى للواقعة.بداية كهذه تقلد الفيلم هيبة وإجلال تتمعن بيها مشاهده من بعد فى فضول ومتعة وإحترام وهى عناصر من القليل أن تجتمع بمثل هذا الشكل فى السينما،تظل محتفظا بما أنت عليه حتى يتم طرح فكرة افتعال كذبة الفيلم "argo" الذى تُنتجه الولايات المتحدة بإنتاج ضخم ودعايا هائلة ويقوم طاقمه باستكشاف عدة أماكن فى بعض الدول للتصوير منها إيران بهدف تهريب المواطنين الأمريكان الستة الذين انتهى بهم المطاف للإختباء فى منزل السفير الكندى فى طهران...
يفقد الفيلم قدرا لا يستهان به من وقاره وحالته التى بثها إليك بداية،حيث يمضى "هاركينز" الرجل المُكلف من وكالة الاستخابارات الأمريكية فى رحلته إلى هوليود_ والذى يلعب دوره "بن أفلك"_ لاجئا إلى منتج يساعده فى صنع كذبة "argo" بما يليق بإقناع العالم كله بوجوده ،فى هذه الجزئية من الفيلم تجد نمطا آخر من الموسيقى وطريقة التصوير وصياغة الحوار يُذكرك بأجواء أفلام مثل "ocean eleven" وأخواتها ..بما ينافى تماما الاحساس العام الذى سلله الفيلم إلى نفسك من البداية ..وفى رأيى هذا الجزء نقطة ضعف قوية جدا أكلت من حضوره وحالته ووضعته فى مصاف المقارنة فى وقت كان من الممكن أن يكون فيه الحصان الرابح ..
بعض مشاهد وتعود الحالة الأولى من جديد،تعود لترى بعين "هاركينز" ايران.. تلك البلاد التى يلقى بنفسه مخاطرا على أرضها وإحتمالية عدم عودته تساوره أكثر من خروجه منها سالما.. مشاهد قوية لخصت الحالة من دون كلمات رأيتها أنت فى لوحة عريضة يمر بها "هاركينز" تحمل صورة الخمينى وتحتها جملة "قاهر الوثنيين" ..وتصل ذروتها فى اللقطة التى تقع عينيه فيها على رجل يتدلى مشنوقا فوق رافعة نقالة علنا أمام الجمع فى الشارع  !!، لقطات تشاهدها وأنت تعجب من فرط مجهود هذا العالم الذى أعاد إليك بصورة مذهلة حقبة أواخر السبعينيات فى صورتها الايرانية ..
ويستمر الفيلم على هذا المنوال حتى تأتيك الملحمة النهائية التى يتسارع فيها "هاركينز" ومجموعته فى الخروج من مطار طهران ، مشاهد تنحبس فيها أنفاسك بين كل لجنة تفتيش وأخرى فى الوقت الذى يجمع فيه عدد من الأطفال صور مفرومة توضح هويات الأمريكان الفارين من السفارة ..تلهث من فرط التشويق فى هذا الجزء على الخصوص ولا يطمأن قلبك حتى وأنت ترى الجمع وقد صعد على متن الطائرة بعد بعض المضايقات ولن تخف وطأة الضغط إلا وأنت تستمتع إلى مضيفة الطيران وهى تقول فى نبرة رقيقة "نعلم السادة الركاب أنه الآن قد بات مسموحا بالمشروبات الكحولية بما أننا الآن قد خرجنا من المجال الجوى لدولة إيران" فى تفصيلة جميلة عنا بها السيناريو ومثلت فارق رائع عندما تذكرت أنت نفس الجملة التى قالتها المضيفة بشكل معكوس فى رحلة "هاركينز" وهو مُقدم بمفرده إلى إيران ...
"argo" فيلم قدم لك التاريخ بعين سينمائية مختلفة ستجعل من الواقعة بأكملها حكاية تعلق فى الذهن بصورة بصرية تليق بها ...
آخر كلمتين:
_ أجمل جزء جاء ليقطع الايقاع الهزلى الهوليودى الذى تنصف الفيلم هو اللقطات الفوتومونتاجية التى توازت بين المؤتمر الصحفى الذى يسرد عن سيناريو الفيلم "argo" وبين اللقطات التى توضح كيف كان يتصرف أتباع الخمينى مع الرهائن المعتقلة بأرض السفارة..

_"بن أفلك" ممثل غير قوى بالمرة وكمنت عبقريته فى إخراج الفيلم والعناية ببصرياته والاشراف على كتابته، ولكن رغم كل شىء تشعر أنك تحب وجهه وروحه التى يطل بها عليك حتى وإن كانت تلتزم فى جميع أوقاتها ملامح جادة بائسة واحدة على الدوام ..

اللينك

http://www.myegyptmag.com/index.php/component/content/article/120-%D8%A7%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D9%81/archive-2013/1662-%D8%A3%D8%B1%D8%AC%D9%88-%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%89-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9%8F%D8%B9%D9%84%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%87%D8%A7

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...