التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فان جوخ ومعضلة النجاح الخفية

_نُشر في مجلة فنون_




"النجاح" 
مفرد مرعب، من فرط هيبته تَفَرَعَت تعريفاته، وتَشَعَبَت توصيفاته، تَحَرَفَت معانيه، واُوِلَت غاياته. ماذا يعنى أن تكون ناجحا؟ أن تكون مشهورا؟ أن تملك القدرة لإعالة نفسك؟ أن تصبح مليونيرا؟ أم أن تفنى عمرك فيما تحب وتهوى؟ المجتمع بات يرى النجاح بطريقة، والنخبة تروج له بمنهاج آخر، بينما الفطرة مازالت تملك فيه الكلمة القاطعة. كثيرون من الفنانين نجحوا بالمعنى الذى يحترمه المجتمع، وقليلون منهم نجحوا وفقا لقوانين الطبيعة، ولكن الأخيرون عانوا أكثر، وُضِعَت تيجان الشوك على رؤؤسهم فى حياتهم، ومن ثم كتبت أسمائهم بالذهب فى مماتهم. من هؤلاء "فان جوخ" الرسام الذى غلبته طبيعته، فأهلكته فى محياه، وخلدته فى رقوده الأبدى. 

"فان جوخ" الذى لن تقرأ عنه 

لن أحدثك هذه المرة عن "فان جوخ" الفنان، عن التأويل الحاد لضربات فرشاته، ومحاولة توصيف الثقل والعشوائية التى تتسم بها ألوانه. وإنما سأتحدث عن صفاته الآدمية، وتكوينه الروحانى، والذى هو بالضرورة قد خدم مسيرته التشكيلية وساهم فى كونها استمرت من الأساس، لأن الظروف الحياتية ل "فان جوخ" كانت كفيلة بهدم أى قدرة على التحدى. 

يمكننا الاستعانة بمشهد من فيلم 1956 lust for life، الفيلم الذى يحكى بعض من وقائع حياة "فان جوخ"، مستندا على رواية لـ "إيفرينج ستون". هذا المشهد يعد كافيا للدلالة على النفسية المتفردة والمُلهِمَة والمُتعَبَة أيضا التى يمتلكها "فان جوخ"، فنراه عند دخوله منزل المرأة التى يحبها، يقابله أهلها بعدم إبدائها الموافقة على مقابلته، فيلح مرة أولى وثانية وبعدها ثالثة، ومن ثم يضع بطن كفه فوق شعلة شمعة موضوعة على طاولة الطعام، ويقسم أنه لن يسحب يده إلا بعد خروج حبيبته لمقابلته، لا يبالى هذا الرسام المعذب بألم احتراق جلده فوق النار، ولا بمظهره الذى يبدو ضعيفا مخزيا أمام جميع من يرونه، وإنما يموضع غايته نصب عينيه، ولا يضع فوق هامتها أية أولوية أخرى يميل إليها المنطق. هكذا بالضبط عاند "فان جوخ" وجه الدنيا القبيح الذى حدق فيه بقوة، وداوم على الشروق فى سمائه حاجبا عنه الشمس إلى يوم مفارقته الحياة. 

لم يُذعِن هذا الفنان البائس لفقره المدقع، وثابر فى تجاوز قلة رواج لوحاته، وعدم التفات الجمهور والمعنيين إليها، وجعته المحاولات المخفقة فى بيعها، والحصول منها على قوت عيشه، ولكن على الرغم صرخ فى وجه معاناته، ومارس الرسم، ثم مارس الرسم، ثم ظل يمارس الرسم، وحتى عندما كاد أن يغلبه اليأس، قتل نفسه أمام لوحة كان يرسمها. "فان جوخ" فى الحقيقة قويا، أقوى ممن يتظاهر بالقوة، قويا لدرجة مؤلمة، لدرجة لم تمهله وقتا ليفكر فى التخاذل، لدرجة أهلته لكى يقطع مسافات كبيرة فى معركته مع الحياة وهو يحمل آلامه المضنية فوق ظهره. لا يكل، ولا يلوذ بالأوقات المستقطعة. 



"ثيو" وطوق النجاة

ولكن ما إن ننوى الخوض فى عرض تجربة "فان جوخ" الحياتية والمرتبطة بالضرورة بإنتاجه الفنى، لابد وأن تحل سيرة "ثيو" الأخ الذى ارتضى أن يستمر فى تمويل "فان جوخ" ماديا حتى نهاية حياته، الأخ الذى كان يدعم أخيه كما لو كان نفسه، يؤهله لكى يرتمى فى حضنه عند المِحن وقبلها وبعدها، يسعى لبيع لوحاته لكى يسعده ويمده بالطاقة الكافية للمعافرة، ويستبقيه قريبا إن فكر فى الانغلاق على حاله البائس، وظروفه المُعانِدة.

 ف"ثيو" لم يكن ل"فان جوخ" مجرد أخ بار محب، لكنه كان مرآة لا تكتفى بعكس الصورة الذاتية الصادقة لأحدهم، بل تُجَوّد عليها لكى تدخر الحسنات وتُذهِب السيئات. "ثيو" حمل أخيه على أكتافه لسنوات، ومن ثم كافأه القدر بثروة مجزية حققتها لوحات "فان جوخ" بعد مماته، جزاء صنعه.

 وكأن الله كتب ل"فان جوخ" الشهرة خصيصا لكى يمرغ هذا الأخ الطيب فى نعيم مردود الثواب، لكى يجعله يحصد ما زرعه فى أخيه الفنان من طمأنينة وسلام، لكى يؤكد له بيقين أنه ساهم فى نجاح أخيه بطريقتين مختلفتين، الأولى كانت فى مد له العون دوما لكى يظل على دين موهبته حتى آخر لحظة فى حياته، والأخرى تمثلت فى تمكنه أخيرا من إرغام المجتمع على احترام مجهود أخيه حتى ولو بعد موته. 
للمفارقة الفنية الجميلة، "فان جوخ" لم يُخَلِف ورائه إرثا من اللوحات التشكيلية وكفى، وإنما الكثير من الخطابات الملهمة والمؤلمة التى تبادلها مع "ثيو". 



الموهوبون بلا ثيو

على الرغم من معاناة "فان جوخ" النفسية، المعيشية، والعقلية، والتى تأتت فى الأساس من تعسُفه الحاد مع مُعرقِلات الحياة التى عاندت موهبته، وإصراره الجاد على التشبث بالفرشاة لآخر رمق فى روحه. إلا أن ثمة سؤال لابد وأن نطرحه على أنفسنا ونحن نقرأ هذه الملحمة الفان جوخية التى كانت، ماذا لو لم يحصل "فان جوخ" على أخ مثل "ثيو"؟ هل كان سيتثنى لنا رؤية هذا الإنتاج الفان جوخى الغزير؟ وجود "ثيو" فى حياة "فان جوخ" سند ظهره، وأخر لحظة اكتفائه من الدنيا، فمنحه القدرة المالية لكى يبتاع أدوات الرسم ويفنى نفسه فيها بهوس، متجاهلا السوداويات المنطقية المحيطة به، والتى لا تشبه تكوينه النفسى النارى. لو لم يوجد "ثيو" فى حياة "فان جوخ" لكان الأخير قتل نفسه أمام أول لوحة، نفذ فيها كل ما يملكه من مال للرسم. سؤال آخر سيطل برأسه علينا إذا، ماذا عن الموهوبين بلا "ثيو"؟ عن أولئك الذين يموتون كل يوم على الطرقات الوعرة لحلمهم، لأن الحلم الآن وقبلا يحتاج إلى أن نشتريه بالمال، فإن كنت موهوبا بلا "ثيو"، أمامك خيارين أن تفلت يدا من موهوبتك لتُشَغلِها فى أمور أخرى، ومن ثم تعيد تدوير المال لصالح حلمك، وهذا خيار لم يكن ليناسب طبيعة نفسية محتدمة مثل نفسية "فان جوخ" وغيره وغيره، أما الخيار الآخر يتمثل فى خوض المعركة الجائعة السيوف، وأنت أعزل قريب جدا من رائحة الموت.


آخر كلمتين
_ يقول فان جوخ "ما نفعله بالحب، نستطيع أن نفعله على أكمل وجه"، والحقيقة أن "ثيو" أحب أخيه حبا طيبا، نقيا، بذل فيه نفسه كلها، خطا إليه بقدم من ثبات وعِند، بينما استقبل "فان" خطواته برحابة صدر، وثَق بها، واستدل منها إلى طريقه، فعمل بالحب وأتقن عمله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...