التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الغولة والمغامر .. عن فن الأداء


_نُشر فى موقع الجزيرة الوثائقية_





شخصيتان كان من الضرورى أن يتم الحديث عنهما، بمعزل عن الأفلام التى لعبا فيها دوريهما. شخصيتان ملفتتان، كل منهما تملك أسبابا مغايرة للتفرد، وهذا أيضا واعز آخر للكتابة عنهما معا، على الرغم من عدم وجود رابط ملحوظ بينهما، سوى حداثة الأفلام التى قدمتهما والتى أُنتجت فى العام ذاته 2016. ولكن فى اختلاف منظور جمالهما، قد يسعنا بلوغ مفهوما ما بخصوص فن "التمثيل" عموما.

"إيزابيل"من فيلم.."the light between oceans"

أفضل دائما استخدام اللقبين "مشخص" و "ممثل". ليس لأنهما يعبران عن المعنى ذاته، ولكن لأن كل توصيف منهما يروج لخانة بعينها من الأداء، حالة مستقلة من شكل التجسيد. فثمة من يُشخِص، وثمة من يمثل، وحتى وإن كان الممثل عبقريا، يظل المشخص هو الأعلاه منزلة.

و"alicia vikander" مشخصة من الدرجة الأولى، فنانة تجيد بلع الشخصية التى تؤديها برمتها، مضفية عليها من دمائها ولحمها تفاصيل قد لا تكون مكتوبة على الورق من الأساس.

"alicia” لعبت فى فيلم "the light between oceans" شخصية تبدو سهلة المنال، لكنها فى الحقيقة كومة معقدة من المشاعر والتباينات، تحوى كثير من التبدل والتنقلات، والتى لن يحكم عنقها سوى مؤدية محنكة بالفطرة مثل "alicia".

"إيزابيل" فتاة مفعمة بالحياة، وفى الجملة السابقة يكمن نصف عبأ أداء هذه الشخصية. ولهذا كان من أفضل قرارات"derek cianfrance" مخرج الفيلم، هو إسناد الدور ل"alicia"
التى صاغت حيوية "إيزابيل" فى سلالة وغريزية مفرطة فى الجمال، فبدت فى المشاهد الأولى من الفيلم، صاحية بعينيها ولغة جسدها، حاضرة بتكوينها الشعورى الانفعالى والمتطرف.


فبدت بارعة فى أن تحملنا على تصديق "إيزابيل" وهى تمط ابتسامتها تغزُلا فى الغريب القادم إلى البلدة، متأهلا للعمل فى المنارة البعيدة. ومن ثم وهى تنَشِب نظراتها المتصيدة داخله لتجبره دون خيار على مبادلتها الإعجاب، ومن ثم وهى تسهب دامعة فى أغلب الأوقات تعبيرا عن فرحتها بزواجهما، وبالحياة الهادئة المعزولة التى اعتاشاها على الجزيرة التى تنتصب فوقها منارة عمله، وهى تقبله بنهم، تراقب الأجواء من حولها بروح رحبة، وتغمس ذاتها فى الجمال الذى يضم حياتها الجديدة.

هذه المشاعر المكثفة والضرورية جدا للمرحلة الأولى فى الحكى عن شخصية "إيزابيل" كانت معرضة لخطر بيّن، إن لم تقم "alicia" بضبط معاييرها عند نقطة محددة، لم تبلغ حافة المغالاة، أو تتراجع إلى حد الحاجة إلى المزيد. "Alicia" كانت "إيزابيل" بكل غجريتها وطفولتها وشجاعتها وهشاشتها كما لو أن كاتبها نفسه لم يعرفها.
بعدها تتصاعد الشخصية لمنحى آخر، أشد صعوبة، وأكثر التفاف.

ينخدش عذرية صخب  "إيزابيل" نتيجة لتكرر عملية اجهاض جنينها، فتعانى بذات التطرف الذى كانت تمارس به سعادتها، تتركز كافة ضجة أحاسيسها على الألم والتوتر والرعب.


ثمة مشهد ملحمى تجلس فيه "إيزابيل" أمام البيانو لتعزف لزوجها مقطوعة موسيقية، بينما يقع هو خلفها مصتنتا بلذة، ومع آخر دقات لأنامل البيانو، تكبس بكفيها على سطحه فزعا وألما، وتتمادى فى محاولة حبس أنفاسها وأوجاعها، وكأنها قد تفلح بذلك فى إنقاذ طفلها الثانى الموشك على الموت فى بطنها. تظل تروح وتجىء بوجه مختلج باهت، وصريخ مبحوح مقهور تقول فيه لزوجها "انقذه، انقذه توم". هذا المشهد مهما أدرك شىء من البلاغة فى كتابته، فأداء "alicia" هو الذى وهبه حالة المرثاة الحية التى ستراه عليها.

فى مرحلة أخرى تتحول "إيزابيل" إلى إمرأة عنيدة تدافع عن غريزة أمومتها بشدة، فتقنع زوجها بالاستيلاء على رضيعة حدفها البحر مع  جثة والدها فى قارب، وفى مرحلة أخيرة تتعاظم قوى "إيزابيل" النفسية وتناطحها، خالقة منها لبؤة شرسة تنتقم بغل من زوجها الذى قرر مصارحة العالم بحقيقة فعلتهما، وإعادة الطفلة التى ربياها لمدة أربعة أعوام إلى حضن والدتها الحقيقية المعذبة.
وفى كل مرة من المرات السابقة يستفحل أثر أداء "alicia" على الشخصية، لدرجة قد تجعلك لوهلة تظن أن "إيزابيل" المكتوبة نصا تلاشت أمام "إيزابيل" التى تظهر لك فى هيئة "alicia"  
ف"إيزابيل" الأخيرة أصدق وأكثر هيبة واكتمالا.

"مانى"...من فيلم "swiss army man"

كلمة "فن" قريبة شكلا من كلمة "فناء"، وكأن من يَفِن يَفنَى، والأداء فن من الفنون، وهو فى رأيى مرتبط شرطا بالفناء، فمن يؤدى وجب عليه التفانى، بل إفناء كل ما يحول بينه وبين الشخصية التى يقدمها، عكس ما قد يصرح به البعض فى كل الأوقات والأزمان، حول ارتباط الاحترافية بقدرة المؤدى على الفصل الواعى بين ذاته وذات الشخصية التى يلعبها، إن هذه النظرية قد تكون صحيحة خارج عتبات الاستديوهات، ولكن إن حدث هذا التفنيد أمام الكاميرا فهو وجه من أوجه الزيف، حتى وإن كان بنهج غير محسوس، و حتى وإن أحب العالم بأكمله هذا المؤدى وأثنى عليه، سيظل فى تقدير اليقظين مجرد محتال ماهر.


هذا المؤدى الفانى نفسه فى سبيل مهنته، نادرا عربيا، متواجدا عالميا وبكثرة. لكن ثمة نوع من التفانى الخاص، ظهر فى شخصية "مانى" التى لعبها "daniel radcliffe"  فى فيلم "swiss army man"
ليس لأنه قدم شخصية جثة، تتبدى طوال الفيلم بمظهر بارد شبحي، لا حول لها ولا قوة فى حركتها، بل وتفعل عدد من الأفاعيل المقززة على الدوام، مثل إطلاق الريح.

لكن المدهش فى "daniel" أنه اجتهد بضراوة ليصل إلى هذا التكنيك الميكانيكى اللين لجثة "مانى"، ورغم كل هذا الاجتهاد ظل هو متواريا خلفها، فكان لزاما عليه ألا يعرى ولو جزء بسيط من منظومة أحاسيسه، أن يكن مجرد دمية، دمية خارقة القوى، تنقذ البطل من ضياعه على جزيرة نائية، فيستعملها كقارب دفع لينجى بها مرة راكبا إياها فى عرض البحر، وكخزان مياه يضغط على صدره فيصب منه ما رغب، كمدفع يقذف من فمه الأشياء بسرعة البرق لتصيب أهدافا يحددها، كماكينة حلاقة يحشر بين أسنانها شعر ذقنه ليتخلص منه، وأكثر من هذا.

الأغرب هو إصرار" daniel" على العمل على معظم هذه المشاهد العسيرة بنفسه، العادى منها والمثير للغثيان أحيانا، على الرغم من توفير دمية حقيقية بديلة، وجاهزة لأن تخوض بدلا من جسده الحقيقى فيما قد تعف عنه روحه.

"daniel" كان دمية متكلمة ببله، مُحتجِبة التعبير، فى فيلم يشاركه فيه مؤديا آخر، يسعه بحرية التحدث والشعور والتشخيص بانفعالات حرة، بينما ظل هو يُلقَى أو يُحمَل أو يُركَب متجردا من سلاحه كممثل، ليبلغ فى تفانيه حد براعة الأداء، إيمانا بجملة قالها له صناع الفيلم أراد أن يكون جزءا من تحقيقها بشدة "نريد أن نصنع فيلما المشهد الأول فيه يحملك على الضحك، أما المشهد الأخير منه يبكيك".


دورا بارعا، قد يلفظه أقوى مؤدى لأنه سيكيل مقدار معاناته أمام مساحة تأثيره، وحتى وإن طبت الكافة الأخيرة، قد تظل بالنسبة له بخسة مقارنة بكيفية بلوغها.
ولأن "daniel"  يعى قيمة بصمة دوره جيدا، فقد أعلن مرة أنه أحب الأدوار التى قدمها إلى قلبه، إضافة إلى أن "swiss army man" أصبح أيضا من أفلامه المفضلة.

آخر كلمتين
_ "Alicia vekander" هى الأخرى من سعت لنيل دور "إيزابيل"، وقد صرح مخرج الفيلم بأنها "حدفت نفسها على الدور حدفا".





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...