التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الموت بين هواجس سينمائية وأخرى بحثية



_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_




"بالنسبة لى، حينما أدخل بكل حميمية فيما أسميه نفسى فإننى أقع دائما على لون من الإدراك الحسى بالحرارة أو البرودة، بالنور أو الظل، بالحب والكراهية، وبالألم واللذة، فأنا لا أستطيع أبدا أن أمسك بنفسى دون إدراك حسى، ولا يمكن أن ألاحظ سوى هذا الإدراك الحسى، وعندما تستبعد الأحاسيس كما يحدث عندما أنام، فإننى لا أكون مدركا، حاسا بنفسى، وقد يقال عنى أننى غير موجود"
دافيد هيوم
(الروح، الجسد، الموت)
ثلاثية شديدة التورط، وفى مفرد ومغزى كل منهما قد يكمن انفصال تام، فكل عنصر من هذا الثالوث قد يكون قائما بحد ذاته، له ألغازه وغموضه وتكهناته، وقد يكون مذيلا فى طرف سابقه، أى جزء من مؤدياته أو نتائجه.
البحث وراء تراص هذه الكلمات الثلاث التى تبدو مستكينة طيعة، قد يهلك أعمارا بأكملها من دون جدوى، ولكنه فى النهاية يستحق الندر الحق بعدم الانقطاع عن السؤال، والربط، والتحليل، والقراءة، والاستنتاج، سعيا وراء حقيقة ما، مُجهلة الهوية، لكنها قد توفر تفسيرا ما عن ماهية الوجود.
ولكن المعضلة تقول، أن السعي حول هذه المسألة اقتصر على فئة محددة، متناهية الضيق والمحدودية، وكأنها قضية هامشية لا تعنى العامة، والنبش فيها لا يقدم ولا يؤخر، وبالتالى، البعض منا نساها، والآخر تناساها، والأخير لم يجد فيها من يشاركه فزهدها.
وهنا يأتى دور السينما، فنجد أفلاما قد توقظ صيغة السؤال، وتنفث فى المتفرج من روح الإرباك حول ما هو متفق عليه، تطرح إشكالية مغايرة تخصنا قد أغفلناها منذ زمن، كمن دلف إلى منزله الخاص دون تخطى عتبة الباب.
ففى فقرة "ديفيد هيوم" المنصوصة فى أول المقال، نرى الدهشة البينة حول مدى حقيقة وجود الروح، والتصور عنها بالمفاهيم السائدة، ذاك الكيان الغير ملموس، والذى لا نعرف حقيقتة حتى الآن هل موجودا بالفعل، وإن كان موجودا، فهل وجوده يتجسد فيما عرفناه عنه، هل لا يجوز فصله عن الجسد كما يقترح "هيوم"، أم أنه منفصل تماما ونهائيا كما يدعى "سقراط"، هل هو زائل، أم أنه خالد لا يعرف الفناء، وهل إن كانت أرواحنا خالدة، فهل ثمة ما يمكن أن نسميه الموت.
فى السطور القادمة، سأحاول الاجتهاد فى التفكير حول صورة الموت التى ناقشها فيلمان، محاولة ربطها باستقصاءات فاتت حول ذات الموضوع، أملا فى افراز أسئلة جديدة، أو بلوغ إجابات محتملة، لا يقين فيها ولا بت.

Personal shopper أشباحنا الذين هم نحن!

فيلم "personal shopper" للمخرج "أوليفر أسايس" يبحث فى هذه الدائرة المفرغة، والفضفاضة أيضا. يخبأ كل هذه الاستفهامات بداخل حدوتة ذكية وبسيطة، تقودنا للمتعة، المعايشة، وإعادة النظر فى كنه وجودنا و اعتقاداتنا عن حيواتنا وموتنا.
"مورين" فتاة عشرينية، تمر بفترة عصيبة بعد وفاة أخيها، الذى سبق وقد اتفق معها فى حياته على أن كل منهما ملزم بالعودة إلى الثانى بعد وفاته، فقط لكى يطمئنه أنه بخير، وأن ثمة حياة حقيقية بعد الموت.
بينما كانت "مورين" تسعى وتنتظر إشارة أخيها، صادفت أشباحا أخرى، وقادتها مسارات حياتها لأمور أكثر تعقيدا وغرابة، حدثت بالتناوب، وبشكل مكثف.
لا نستطيع إنكار أى حدث خارق للطبيعة تتعرض له "مورين"، لأننا نشهده معها بأعيننا، ولم يكن فى السيناريو ما يدع مجالا للشك فى صحة قواها العقلية والنفسية بما يستدعى هذا النوع من الهلاوس.



أنت فقط أمام فتاة بائسة، تمتهن التسوق لحساب عارضة أزياء مشهورة، تخشى الموت بشدة، فتبحث بهلع عن إشارة أخيها لكى تسد فوهة تصوراتها الموحشة عن الحياة الأخرى.
تبدو "مورين" معلقة بين عالمين، عالم لا تستطيع عيشه بحقيقية، وعالم تتطلع إليه ولا تعى عنه شيئا، وقد قدم السيناريو فى هدوء عدة دلائل تدين هذا التيه الذى تمر به "مورين"، وأعاد إليه أسباب كل ما يحدث فى حياة "مورين"، بداية من الأشباح التى تراها وحتى حادثة تورطها فى قضية مقتل السيدة التى تعمل لديها كمتسوقة خاصة.
"أوليفر أسايس" وضع فى هذا الفيلم رؤية ما عن مدى استحضار المعتقد لحوادث بعينها فى حياتنا، ف "مورين" تتقصى طوال الفيلم عن الموت، تؤمن بالروح وبإمكانية عودتها إلى الحياة مرة أخرى، فإذا بها تعايش تجسيدا لمثل ما تعتقد فيه، من وقت لآخر تصادف كيان غير مرئى يعبث معها، ومن ثم تصادف بشريا دنيئا يستغل روايتها عن قصة أخيها، و يزاولها باعتباره شبحها المجهول ليستدرجها لتكن متهمة بدلا منه فى جريمة قتل.
ففى نهاية الفيلم يجترأ "أسايس" بأن يضع "كريستين ستيوارت" أو "مورين" وهى تنظر إلينا وتسأل حينما عاودت الأمور الخارقة العبث معها، "لويس، هذا أنت؟ ..أم أنها مجرد أنا؟".
"أسايس" هنا يصارح المشاهدين ببساطة، بأن "مورين" هى من تطوع لنفسها كل هذه الأمور الشبحية الملتبسة، والحقيقية أيضا، بمجرد كونها روح بائسة عالقة بين الحياة التى زهدتها لأنها لم تتحقق أبدا فيها، وبين الموت الذى تخشاه ولكنها تتطلع إليه بهاجسية.
وقد تحدث سقراط عن مفهوم مشابه للتيه الذى قد تقع فيه الروح، صحيح أنه يخص حياة ما بعد الموت، لكنه يظل نموذجا قائما بحد ذاته ليدلل على مساوىء عدم التحرر الكامل، فقال" إن الأرواح التى تقع فى خطأ ربط ذاتها بموضوعات مرئية وملموسة ومتغيرة، ولا تحقق عناصر ارتقاء الروح الثلاثة الهامة فى (الإستقلال أوالحرية، الاستبصار، الارتفاع عن الزمن)، فإنها لا تتحرر تحررا كاملا ساعة الموت، ولكنها تسحب أشباح من وجودها الأرضى، ولا تتحد اتحادا كاملا مع الحقائق الغير متغيرة".
وما يقصده سقراط ب"الموضوعات المتغيرة" هو أمور الحياة التى لا حقيقة ثابتة فيها، أما يقصده ب"الحقائق المتغيرة" فهى أسرار الكون المحجوبة عنا، والتى ما إن سعينا إليها بتصورات مجردة، ستفتح نفسها لنا بهويتها المطلقة، وحينها سنحقق آخر مرتبة من مراتب ارتقاء الروح وهى الارتفاع عن الزمن.
ولكن ما فعلته "مورين" فى نفسها أنها انحبست داخل تصورا يخصها عن الحياة الأخرى التى تحوى السر، فأضحت أسيرة له، وتجسد كل شىء من حولها، كما يبدو عليه فضولها النهم وارتباكها الحاد. فهى كما وصفت الروح التى ظهرت لها فى ذات مرة، والتى تعكس صورتها الذاتية فى الأصل "مجرد روح غاضبة تحمل الكثير من الشطط".
The others ماذا لو لن نمت يوما؟

فى فيلم the others للمخرج "أليخاندرو أمينابار"، نجد افتراضا آخر، أكثر حسما فى طرحه عن الموت. فيقدم "أليخاندروا" معالجة شيقة للفترة الزمنية التى يعتقد أن أرواحنا تمر بها بعد موتنا، ونحن لسنا بالإدراك التام بأننا ميتون، وأن موتنا عبارة عن انتقال يكاد غير محسوس من المحيط الزمنى الحالى، لمحيط زمنى آخر، بغض النظر عن شكل الأماكن ومسار الحياة الذى يظل كما هو!
فالقصة تدور حول سيدة منزل عتيق، ترعى طفلين ذهب أبوهما إلى الحرب منذ زمن ولم يعد. تستقبل السيدة فى صباحا ما، خدما جدد، بدلا من الخدم الذين رحلوا فجأة فى ليلة سابقة، بدون سابق إنذار، مما أصابها بلوثة عقلية عاصفة، يتحاكى الطفلان بها طوال الفيلم على استحياء من دون أية تفاصيل، وهى تظل تعتذر عنها مرارا، ليدخل فى قلبك مدى فداحتها حتى وهى نصف مجهولة.



وفى هذه الأثناء تبدأ نشاطات غير طبيعية فى المنزل بأكمله، أصوات، ووقائع نشهد لها بالغرابة والريبة، حتى نبات على شبه يقين منها.
وفى نهاية الفيلم نكتشف أن السيدة قامت بخنق أطفالها فى تلك الليلة، ومن ثم قتلت نفسها، وحينما رأتهما أحياء ثانية، تجاوز عقلها تفاصيل الفاجعة، واستمرت فى عيش حياتها، معتقدة أنها لم تمت. أما بالنسبة لما كان يحدث فى المنزل، فما هو إلا نشاط لآدميين أحياء، مجرد أسرة ابتاعت المنزل على اعتباره قابل للسكن، نشاط فى بعد زمنى آخر، البعد الزمنى للحياة، الذى لم يتماس مع البعد الزمنى للموت سوى فى ثغرات بسيطة، حدثت بين ابنة السيدة المتوفاة، وطفل الأسرة التى كانت على قيد الحياة.
الخدم الذين استقبلتهم السيدة فى بداية الفيلم، ميتون بدورهم ولكنهم يعلمون عن موتهم، لأنهم ماتوا منذ نصف قرن، وبالتأكيد حدثت واقعة ما نبهتهم إلى كونهم لم يعودوا أحياء منذ زمن، أى انهم مروا بتلك الفترة التى مارسوا فيها عيشهم وكأنهم أحياء من دون إدراك.
إذا، هذا التصور المحبوك للغاية يعنى فكرة واحدة "أن الموت بمعناه الدارج مجرد خرافة، وأنه مجرد جراب زمنى نمارس فيه ذات الحياة مختبئين عن أعين من لم يدركهم ذات المصير".

بعض النظريات المجردة عن الموت

ثمة العديد من البحثيات الفلسفية والإنسانية التى اهتمت بالموت، ونقبت خلفه، خمنت، ووضعت احتمالات، ومنهجيات، أو تعاملت مع اعتقاداتها عنه باعتبتارها يقينيات.
وبما أننا هنا، بصدد الحديث عن الموت، يمكننا أن نتطرق إلى البعض منها، حتى وإن لم يرتبط بنموذجه السينيمائى.
فمثلا من النظريات التى تستحق الذكر، نظرية لفيلسوف يدعى "أبيقور"، المواطن الأثينى الذى ولد بعد وفاة "أفلاطون" ب 6 سنوات، وبعد وفاة "سقراط" ب 42 عام، وهو الفيلسوف الذى حظا باحترام موازى لما كانا يلقياه كلا من "سقراط" و"أفلاطون" بين الناس، ف"أبيقور" قد بلغ الأمر فى تقديسه وقتها مبلغ رجل الدين، على الرغم من أنه لم يكن يؤمن بالأديان من الأساس.
"أبيقور" يرى أن الكون عبارة عن مجموع من الذرات التى تختلف فى الشكل والحجم والوزن ولا تتماثل إلا فى السرعة، لذا فإن كل الأشياء والأحداث التى تدركها الحواس عند "أبيقور" ما هى إلا مجرد تصادم عشوائى لهذه الذرات التى تتقادم من اتجاهات مختلفة.
فالحياة بالنسبة ل"أبيقور" مجرد مصادفة وحادثة، فهو يعترض تماما على ما يدعيه "أفلاطون" بخصوص خلود الروح، ف"أفلاطون" فى وجهة نظره تجاهل المصدر الذى تحصل منه الروح على طاقتها، إن كانت هى بحق المؤثرة والمحركة للبدن. ومن هنا يأخذنا لاعتقاد بأن الروح والذهن ماديين، ما هم إلا مجموعة أخرى من الذرات، وإذا افترضنا صحة أن الروح هى التى تتحكم فى البدن، إذا فهى الأخرى لابد وأن تكون مادية مثل البدن، لأنه لا يجوز لشىء مادى أن يتحرك بواسطة شىء غير مادى.
ولهذا فإن الروح لن تحيا بعد موت الجسد، بل ستتبدد ذراتها الدقيقة فى الهواء مثل الدخان.
فالموت عن "أبيقور" هو ببساطة التشتت الذى لا مفر منه للذرات التى نتكون منها، أى أن كل من يموت يفنى كاملا، وليس ثمة عوالم أخرى سيضطر للذهاب إليها، سيختفى بعشوائية تماما كما حدث وانوجد الكون بعشوائية!
وبعيدا عن التنازع حول خلود الروح من عدمه، يأتى الصوفيون بتصور مختلف عن الموت، بحيث يعتبرونه مجرد انفصال لا يحدث إلا بإرادة صاحبه، فالمرء عند الصوفية لا يموت إلا عندما يختار أن يموت. فالعمر الذى يملكه الصوفى يسعى فيه للكمال، للهروب من مناقضة ذاته، من روحه التى فرضت عليه من العالم الخارجى، للروح الكامنة فى داخله، والتى يجتهد بهاجسية فى أن يتعرف عليها منفصلة عن المعرفة المعهودة أو المتوقعة عنها، وما إن يتعرف إلى حقيقته، يرى الله فى نفسه، ويصل لمبتغاه ونهاية رحلته الشاقة إلى داخله، فالصوفية تعرف الموت بأنه "دخول لله فى مكان الروح، أى أن المرء يتلاشى فى الله ولا يعد موجودا بعد الآن، أو بمعنى آخر معرفتنا المكتملة لأنفسنا والتى تصل إلى حد يشبه فى رقيه الألوهية."
وإذا تمعنا هذا الاجتهاد الصوفى عن الموت، نجده لا يعتبر الموت الذى نشهد عليه كل يوم موتا حقيقيا، أى انه ليس نهاية تقف عندها متاهة التيه البشرية، فالمرء سواء كان بيننا أم لا، فهو مستمر فى رحلته الداخلية الشاقة إلى داخل نفسه،حتى يدركه الموت، هذا الموت الذى يختاره هو، والذى تحدثنا عنه فى الفقرة السابقة!
أما "فرويد" فقد قدم وللمفارقة، اعتقادا مشابها للنهج الصوفى فى الموت، من حيث نقطة الاختيار، والانفصال.
ف"فرويد" يرى أن بداخل كل بشرى طفلا صغيرا، يظل محبطا، لأن الحياة بملابساتها الحالية لا تشبعه أبدا، فهو دوما تواقا لصورة أبسط للوجود، لذا فإن المعيشة تدفعه لأن يكون قلقا، ومع تراكمات هذا الحمل المتخم من القلق، تتولد رغبات خفية فى تحطيم الذات، لا يشبعها إلا الموت.
فكلنا نتطلع إلى الموت، ونرى فيه الكمال الذى لا نجدنا على مثله فى حياتنا اليومية، حتى وإن لم نكن على وعى بذلك.
لذا فإن الموت بالنسبة ل"فرويد": دافعا داخليا غريزيا فى الكائنات الحية يستهدف النمو.
آخر كلمتين
_ الحديث عن الموت لا ينتهى، ولابد أن لا ينتهى، فكل فكرة تستحضر حوله معتقد، وكل معتقد يستتبع تفسير، وكل تفسير يستأتى بخيال. وكلما نما خيالنا، زادت قدرتنا على تقبل حقائقنا، واختلافاتنا، وتعقيداتنا، ونضجت دسامة فنوننا، وارتقت لكى ترتقى بنا، فكلما عرفنا عن الموت، سعت إلينا الحياة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...