_نُشر فى مجلة أبيض وإسود_
تود يقرر العودة لينتقم، وكما يقولون "طبق الإنتقام
لابد وأن يُقدم باردا"، تماما كلون المدينة الكئيبة التى خانته، لندن
المتباهية بسحبها الجاثمة فوق السماء البعيدة، وكأن النهار لم يطأ ولو ساعة على
أيامها المظلمة دوما.
"ثمة فجوة سوداء فى هذا العالم يسكنها حثالة، فاسدون،
هذه الفجوة تسمى لندن"
يقول تود وهو ينظر إليها من بعيد، يعى أنه بعد دقائق سيضيع
فى غياهب جُبها تارة أخرى، سيلقى نفسه فى قاعها المتعفن، وهو يتحسس مكان ابتسامته
القديمة، ومحجر عينيه التى كانت ترى الأشياء جميلة يوما ما. يوم زاولت الشمس
اشراقها على ابنته وإمرأته الجميلة، قبلما يطمع فيها القاضى، فيقرر نفى زوجها،
واغتصابها بقسوة، ومن ثم الإستحواذ على ابنة يتيمة، قتل أبويها أحياء، وبقى منتظرا
لتنبت أنوثتها لحين موعد القطف.
غِل..قهر..ألم..نزيف
هل لنا أن نتخيل مثل هذه المأساة مغناه، نرى ألوان الدماء
والشحوب وهى محمولة فوق لحن مشحون، مُسهبا فى القول والبكاء. أغنيات تُفَصِل كِنزة
الهم على مقاس شخوصها، على لسانهم وفوق حناجرهم، تتحمل عنهم عبأ البوح، وتمتلأ عن
آخرها بتفاصيل درامية حقيقة.
المخرج تيم بورتن فعلها، لم يستهن بمعنى السينما الغنائية
كما قدمها البعض، متمادين فى اتقان مناظرها،
ألحانها، أداءاتها، ومسقطين عنها طابعها الدرامى، فنجدها أقرب إلى جعبة قد جُمعت
فيها أغانى جميلة، بينما يبقى باطنها خاويا مخوخا، إن فصلت عنه أغنياته، يظل كأرض
عاقر لا تسر الناظرين. بينما هنا، نجد الأغنيات مزروعة فى قلب رحم الحكاية، لن
يسعنا انتشالها على مبعدة، فهى تماشى الحدث خطوة بخطوة، تحكيه، وتعيش معنا فيه.
سوينى تودد تيم بورتن، ليس كبؤساء توم هوبر الذى سلخ رواية
فيكتور هوجو عن جلدها الدرامى، وقدمها مُبهرة فى ثوب أغنيات مسرحية قديمة، يتمحور
كل جمالها حول افتتانك بالغنوة، وكادراتها البانورامية، وأداءاتها الرنانة. بينما
بقيت حدوتة هوجو تنتحب بين سطورها.
بالأغنية رأيت الملحمة
كل شىء هنا متناغم، ليس فقط لأنه محمولا فوق الألحان، وإنما
لأن بورتن وظف كافة أدواته لخدمة بعضها البعض. الصورة التى تقرأ وجوه الشخصيات،
تقترب منهم وتُفصلهم، تُعرى برود موات مدينة لندن المُغتصِبة براءة لوسى سابقا،
والساعية لسلب عذرية ابنتها مستقبلا. الغيمات متراكمة دوما فى السماء، حاجبة
النور، الإضاءة تكاد تكون منعدمة. والكلمات تتراقص فوق موسيقى جنائزية مُخيفة،
تُعرفك إلى السيد تود (الحلاق بنجامين باركر الذى كان). تُبرز لنا معاناته
المعقدة، ومن ثم ترسم للسيدة لافيت بورتريه غامق، مُرتبك، يُشبه شخصيتها
المتناقضة، التى تبلغ من القسوة حدها، ومن الرحمة سقفها. بينما حركة الكاميرا،
تتحرك وفقا لمتطلبات النغم، تطير أحيانا، وتخطو بقدم ثقيلة فى أحيان أخرى. تلف
الأغنيات بشباك محكمة الرؤية، وحِس موسيقى بصرى يقظ.
الموسيقار ستيفن سونديم، صنع موسيقاه فوق قلب الحدث.
فأربكنا، لا نعى حقا أيهما يسبق الآخر، أيهما يُشعل الآخر، يحفزه، ويدفعه على
التقدم. من خلال الموسيقى، شعرنا بحب لافيت لتود المنشغل عنها بالإنتقام. لم
نستغرق وقتا فى أن نشتم رغبتها فيه، وعينا إليها بنفس السرعة التى لم تمهلها الوقت
لمعرفته جيدا قبل أن تقع فى هواه. أعد لها بورتن مكانا خلف تود وهو يشدو بنشيد
التوعد، وقفت فى ظِله تتمسح كقط عاد لتوه إلى صاحبه، فى ثانى مشاهد لقائهما الأول.
كل هذا ولم نستهجن إغفال المنطق، فلا مجال هنا لأى عقل. أنت أمام حالة شعورية
جمالية بحتة. قوامها الحدوتة وتاجها الأغنية.
بالأغنية شهدنا تصابى القاضى الشهوانى، تصنع الشماس الفاسد
الذى يعاونه، وإدعاء كليهما بتحقيق العدل. وبالأغنية برزت العلاقة الحميمة التى
ربطت السيدة لا فيت بالفتى الصغير، الذى اضطرت بعد أن قطعت شوطا كبيرا فى التعلق
به أن تُقبل على قتله، حتى لا يكشف سرها الصغير مع السيد تود. سر القتلى المفرومين
فى شطائر متجرها، والذى يهبهم تود ذبحة سريعة بينما يجلسون على كرسيه ظانين أنهم
بصدد الحلاقة، ومن ثم يلقى بهم فى المخزن ليملأوا معدة مرتادى مطعم لافيت. ذات
الألم والغِل، لافيت تنعى صغيرها الذى تيقنت بأنها ستقتله، وتهابه فى الوقت ذاته.
وتود يتجشأ شحنة قهره على أعناق الزبائن، وفى كل مرة يقتل جزءا طيبا منه إلى
الأبد. لم نكره تود وهو يجز رقاب الأبرياء، ولم نمقت لافيت حينما رأينا فى عينيها
دماء الطفل. وإنما غالينا فى الإشفاق عليهما. شعرنا ونحن نستمع، التقطنا الخيوط الدرامية
واحتدمت فى قلوبنا وقعها الموسيقى. انت لا تصتنت فقط، أنت تحيا الملحمة.
عالم بورتن
شحوب وجه تود، مساحة اللون الدامى
تحت عينيه، تصفيفة شعره، وخصلته البيضاء الجانبية. ملابس لافيت، واتساخة أناملها،
ألوان حُلمها الأسطورى وقت قضائها الحياة على شاطىء البحر، جوربها المخطط، وبذ لة تود المجتلس بجانبها على الشاطىء
استعدادا للسباحة. الكادرات الشاحبة لوجوه تود ولافيت. الطريقة التى تم بها تقطيع
مشاهد الموت (وخصوصا مشهد موت القاضى). الإضاءة التى تتغير وفقا لإحساس المشهد،
فنراها موردة ومورقة فى مشاهد ذكريات تود مع ابنته وزوجته، شاحبة وقت عودة تود،
وآخدة فى التمادى فى الشحوب كلما طالت مدة انتظاره للإنتقام، بينما تبعث بعض الدفء
والرهبة فى مشهد مصارحة الطفل بمخاوفه للسيدة لافيت، مانحا إياها فرصة لتحفر له
قبرا بجانب جثث المخبز.
إنه عالم بورتن المهيب الذى لا
يخلو من لمساته الهزلية، وتفاصيله المخيفة.
هذا الرجل يتجلى ويبلغ أوج إبداعه
هنا مع حلاق شارع ليفيت الشيطانى تود. جامعا كافة مفردات عمله التى اعتدناها فى
قالب واحد، الغنائية منها، والمُضحكة، الكرتونية، والقابضة المثيرة للرجفة. بورتن
يكتمل فى هذا الفيلم تماما.
آخر كلمتين
_ جونى ديب، طلب خصيصا من الإنتاج أن يصنع له شفرة حلاقة
أتوماتيكية، لكى يسعه فتحها بسرعة، حيث كان يعانى من مشاكل فى التعامل مع الشفرة
العادية.
_ آن هاثواى كانت مُرشحة للعب دور
جوانا (ابنة تود) ولكن بورتن أصر على اسناد الدور إلى ممثلة شابة لم يراها أحدا من
قبل.
_ كيت وينسلت، نيكول كيدمان، وميريل
ستريب أيضا كُن من المرشحات للعب دور السيدة لافيت، ولكن بورتن إختار فى النهاية
هيلينا بونهام كارتر.
_ ظلت هيلينا كارتر مصرة على عدم
رؤية الفيلم حتى عام 2010، لأنها كانت تخشى مواجهة أدائها، وحينما كانت تسأل عن
موعد مشاهدتها، تقول فى بساطة " سأراه يوما ما بالتأكيد".
_ أصر بورتن على أن يُبقى على روح
الدموية فى الفيلم بأبشع صورها، قائلا " إن كل هذه الدماء كانت بمثابة إطلاق
سراح لمشاعر تود المعتملة بداخله منذ زمن".
تعليقات
إرسال تعليق