_نُشر فى مجلة أبيض وأسود_
ثمة أفلام تبقى لقيمة إسم مخرجها، وثمة أفلام
تبقى لأن هذا المخرج ذو الشأن العظيم حينما قرر أن يقوم بإخراجها فى بداياته، لم
يبخل على موضوعها البخس بشىء منه، ولم يضن على حبكتها المعدمة بصورة تحمل إمضائه.
لم يدع يده فيها بحسبة تجارية بحتة، وإنما طوّع مادتها حلبة فضفاضة لكى يدمغ على
أرضها بصمته، فبقيت هذه الأفلام رغما عن أنف مهابة إسمه، بقيت بحبات كَدّه وتعبه
فى نحت كادراتها، وأناقة المعادل البصرى الموجود داخلها.
من هؤلاء المخرجين "يوسف شاهين"...
ومن هذه الأفلام فيلم "نداء
العشاق"....
"نداء العشاق" من الأفلام الفقيرة
على مستوى الحكى، المبتذلة على صعيد الطرح. التى تلوك فى بؤس أيقونة الغواية فى
إسطوانة مشروخة، تلعب على مثلث المرأة الفاتنة، التى يقع تحت سطوتها رجلين، أحدهما
زاهد والآخر فاجر. وبين الرغبة فى تطوير المعالجة، والقفز بها إلى نوع آخر من
التعقيد، يتوه سيناريو الفيلم، ويخفق بخزى فى أن يُلم بغاية محددة مفهومة، يصيغ
على أساسها الصراع الدرامى ويصل به إلى ذورة ما. فتحول وبدون مغالاة إلى مسخ، لا
يُفهم له وجه من ظهر. ولولا وجود "يوسف شاهين" بشحمه ولحمه_ وليس مجرد
إسما رنانا مجردا من وقعه الحقيقى_ لبدا هذا الفيلم عصيا على الفُرجة من الأساس.
نبذة عن السيناريو المهترىء
"ورد" "برلنتى عبد
الحميد" المرأة الشهية، التى أينما ذهبت تجر من خلفها الصراعات المُّهيّجة
للمصائب. تذهب هذه المرة إلى العمل فى محلج، يديره شاب زائغ الغريزة _"متولى"
"فريد شوقى"_ تحت نظر أبوه الذى لا يختلف عنه كثيرا، وبمساعدة شاب آخر
عفيف رصين _"عبده" "شكرى سرحان"_يتقطع ضميره إلى أشلاء دوما،
حينما يضطر لمواجهة مواقف يتطلب فيها الوقوف إلى جانب أرباب عمله ضد كلمة الحق.
يوهمنا السيناريو فى البداية أن متولى سيسعى
بجل طاقته لينال ورد، وأن عبده سيقف حائلا بينه وبينها بعدما إمتللأ قلبه بحبها،
ولكن الدراما تظل على تأرجحها المُبهم، لدرجة يتحول فيها الحكى إلى حلقات مستقلة،
ما إن تفرغ حلقة تبدأ أخرى لا علاقة لها بما سبقتها. "ورد" تسعى لتنال
قلب "عبده"، ومن ثم تتفق مع "متولى" على إثارة فضيحة تلوث
سُمعة "عبده"، ومن ثم يُسقط السيناريو تماما هذه التفصيلة وكأنها لم تكن،
ويركض صوب خلق واحدة أخرى (موت بدرية، أحد عاملات المحلج)، ومن ثم يدهس هذه أيضا
ويصعد فوق ركامها الحي إلى حادثة موت أبو "متولى". إنها حقا سلسلة من
الهراء لا تنتهى.
صورة يوسف شاهين فى الفيلم
ظهرت بلاغة صورة يوسف شاهين فى الفيلم فى
طلات متنوعة، مرة من الناحية الجمالية البحتة، وأخرى بخصوص توظيف بعض المعانى
مرئيا، وغيرها فيما يندرج تحت خانة إدارته لأداء الممثل، والتكوينات، وأذنه
الموسيقية المُرهفة والتى تترجم إيقاع الأغانى الموجودة فى الفيلم فى صورة بصرية
مغزولة بنبض المزيكا ودربها النغمى. وقد إنتقيت بعض المشاهد للتدليل على هذه
المجهودات البصرية المتنوعة، والتى لا تمثل إلا نموذج مختصر لما تضمنه الصورة على
مدار الفيلم.
مشهد الخناقة الأولى "متولى ورجال
السوق" (خِفة)
فى هذا المشهد تبدو الكاميرا وكأنها ريشة
صغيرة، تتحرك بمبدأ خِفة لا مثيل له، يضرم الأجواء ويضمنها التوتر المطلوب، فبداية
يأتى كادر كبير، عيون الكاميرا فيه أرضيه ومتوارية خلف عجلة عربة أبو متولى، ليظهر
من خلفها الجمع يتشابكون بينما العجلة تروح وتجىء فى أزيز غير مسموع، مُلهب لشكل
اللبش الذى يسيطر على ما يحدث. ومن ثم يظهر كادر آخر، يلتقط متولى من بعيد فى
عُمقه، يقترب متولى ويظل الكادر محتفظا بهدوءه ورصانته رغم تحركه الطفيف السريع،
لتستقر الرؤية على قدم متولى ومقدمة البندقية التى يحملها فى يده، والتى يضرب بها
عيارا، ومع صوت ضربة العيار بالضبط يدخل رجلا من يسار الكادر ليملأ الواجهة وهو
يمسك بعينه التى يبدو وكأنها أصيبت بشكل أو بآخر. فى المرة الأولى التى تبدو فيها
مكونات الكادر مذعورة بشكل ما، يتسرب إلينا إحساس حمية الأجواء، الذى يظل كما هو
وبنفس التأثير فى طريقة التناول الأخرى للصورة، والتى بدت فيها التكوينات متعقلة
وهادئة بينما إيقاع حركتها وشكل توظيفه إحتفظ بإحداث ذات الإرتباك.
مشهد الخناقة الثانية "ورد وبدرية"
(خِفة، تكوين)
نفس مبدأ الخفة يتكرر فى بداية هذا المشهد.
فبدرية تقف فى عمق الكادر، تكيد ورد وتسخر منها وهى ممسكة بحُلة عملها كراقصة فى
الماضى، تتقدم ورد ناحيتها فى محاولة لإنتشال الحُلة منها، فتظهر لقطة أخرى تلف
فيها بدرية على الناحية المقابلة وتعيد نفس الحركة الساخرة التى تُشبه حركة مصارع
الثيران وهو يلوح للثور أمامه بالقماشة الحمراء. الكاميرا رصدت حركة بدرية بنفس
هذه الرؤية وكأنها تحقق المعادل البصرى للرمز، بدرية تحولق ورد وهى تلوح بحُلتها
بنفس خِفة مصارع الثور ولكن على أجزاء وبشكل غير مفضوح، لا يُمسّخ من قيمة الإحساس
بالحركة على حساب إداركها.
وبنفس الخفة تأتى حركة ورد، حينما تباغت أحد عاملات
المحلج التى تتقدم لها "بشبشبها"، بعدما تُعلن ورد إستسلامها لرغبتهم
جميعا فى الذهاب، فتُظهِر جانبا خانعا مكسورا، وتتبدى فى كادر تقف فيه بخلفيتها، يلتقطها من مستوى نظرسفلي، بينما يستقر فى عُمقه
تلك الفتاة التى تتقدم خطوات من ورد لتعطيها " الشبشب"، ولكن فى حركة
فجائية تركب ورد فوق الفتاة وهى تتصدر الكادر بوجهها بعد أن إلتفت وباتت توجعها
ضربا، ومن ثم وبنظرة جانبية مقصودة تتذكر بقية البنات من خلفها فتهرع لقتابلهم
بلقطة أمامية يتبدى فيها وجهها متنمرا، مُرحبا بالفتك. نفس الأداء الإنتقالى
الخفيف، الذى لا يخلو من ريبة ورعدة، يتكرر حينما تضرب ورد بدرية، فتستلمها
باللطمات بداية من لقطة أمامية فوقية ومن ثم تنزل معها لأسفل، وثم تدور بها لترميها فى عمق الكادر فى
جهة مغايرة تماما عن التى بدأ منها الضرب. لقطات مشحونة مليئة بالصخب والعنف، حتى
مع بدائية اللطمات.
ثم تأتى فكرة مغايرة لإدارة الصورة، فيطل
تكوين جميل ومزوون عند منتصف المشهد، مع قدوم عبده، ومحاولته فض إشتباك بدرية وورد
الرابط عن واجهة الكادر، فتسحب ورد يدها من بدرية وتتطرف للوقوف يمين الكادر،
ويحتفظ عبده بمكانه على يسار الكادر على خط موازى، بينما تظل بدرية عند مقدمة
الكادر وواجهته، مع انتصاب بنت من بنات المحلج فى عمق الكادر من مكان عالى فوق
شوانة الخزين، ليتسق شكل الصورة بشكل محسوب ودقيق.
بعدها يأتى كادر آخر قبيل إنتهاء المشهد،
حينما تقع ورد على أقصى يمين الكادر بعدما يلطمها عبده على وجهها بقوة، بينما يقف
هو على اليسار، يفصل بينه وبينها شوان المحلج، ويظهر كل منهما بعدسة مكبرة والمحيط حولهما ساكن
موحى، كأن كل اللغط الذى كان ومازال موجود بقدر ما تلاشى، ولم يعد فى هذه الناحية
غيرهما.
مشهد المواجة بين عبده ومتولى (مهابة الثأر)
هذا المشهد يمتلأ بمعانى مرئية مُتبطنة.
بداية من الكادر الذى يظهر فيه عبده وهو يلملم ملابسه بنية الهرب، فتتوارى حركته
خلف نافذة الفراش الحديدية، وكإنه اِحتُبس لأجل غير مسمى فى دوامة الهلع من هرولة
متولى ورائه. وحينما يُدَق الباب، تظهر أم عبده وهى مُحيَّدة عند يسار الكادر والصورة
واسعة فضفاضة حولها، يقع منها الباب فى العمق على مبعدة، فنشعر حينها ببلاغة
الصورة وقدرتها على تهويل الموقف.
يأتى عبده ويختبأ بجانب النافذة التى ينعكس
على زجاجها صورة متولى والنار من حوله. يتكرر نفس الإنعكاس فى آخر المشهد حينما
يقف متولى فى النافذة ويوصى رجاله بعدم قربهم من عبده، الذى نرى إنعكاسا له وهو
واقفا بين أفكاك رجال متولى متوجسا من ردة فعلهم لكنه لا يظهر إلا رباطة الجأش.
مشهد ما بعد مطارحة الغرام (جمالية)
يأتى هذا المشهد قصيرا، خاليا من أية دلالات
مرئية، ولكن شاهين لم يمرقه عاديا على المستوى الجمالى فى الصورة. فنراه يبدأ
المشهد بحركة منطلقة من ضوء النافذة المُلقى على نومة ورد، حتى يستقر الكادر على
ورد وهى متموضعة بأريحيه على الأرض، بينما تطل قدم عبد من يسار الكادر وقد جلس فى
مستوى أعلى من نومتها على الأرض، بعدها يدخل عبده الكادر وتُلتقط الصورة من مستوى
واطىء أكثر، بحيث تُظهِر جزء من القرب بين عبده وورد من بين فرق الأخشاب التى تُرصع
أرض السقيفة المُستقرين فوقها.
مشهد مبارزة متولى وعبده (إدارة أداء الممثل)
يستخدم شاهين هنا صوت الممثل بحرفية ملحوظة،
فيبلغ به ذورة الإيقاع الذى يبغيه لمشهده. ففى بداية المشهد يتحدث كل من متولى
وعبده بصوت خافت هادىء، يُحرض المتفرج على الترقب والحذر، وقتها يتم الإتفاق
بينهما على المبارزة. ويظل كل منهم ملتزم بذات النبرة حتى يُذكر إسم ورد، حينها
تتعالى نبرة صوت عبده، وتخرج عن إطارها الرصين مُحققة أعلى مؤشر للتوتر المطلوب
بعينه، والذى يتلائم مع إحتدام حركة المبارزة القائمة بينهما.
مشهد غنوة "لما ندانى"
(عندما
تتطواطىء الكاميرا مع اللحن)
يُرسى شاهين مبدئيا عدة خيوط لإدارة هذه
المنظومة الغنائية، بداية من إدارة حركة متولى، ومرورا بإلحاح مُساعد متولى"حسن"
"توفيق الدقن" على عبده بكوب من الخمر، ونهاية برغبة "ورد"
الموحشة فى إغواء حسن.
تبدأ الغنوة بصوت كورال من النساء ومن ثم
يتبعه كورال الرجال من دون موسيقى، فى هذه الأثناء يٌقسم شاهين حركة الكاميرا التى
يقف متولى مواليا ظهره لها، وهو يدير بإشارة هزلية صوت النساء، ثم تتحرك معه
الكاميرا حركة طفيفه ليكرر نفس الإشارة تجاه الزاوية الأخرى التى يتواجد فيها
الرجال، والتى لا يفصل بينها وبين أماكن تواجد النساء سوى مشرابية. يعتدل متولى
ليواجه الكاميرا بملامحه متراقصا متماديا فى خطواته نحو الأمام ومن ثم يعود ليسير
نفس الخطوات عائدا بظهره نحو ورد. الحركة المشروحة سابقا، تطأ قدما بقدم تيمة
إيقاع دخلة الغنوة، وطريقة إلقاء الجُمل الغنائية الأولى . بشكل يُبرز جمال اللحن
بصيغة جنونية، وينثر إحساسا قويا بنشوة الغنوة ووقع أثرها.
بعدها تظهر ورد _بعد أول قطع، من مكان وصول
متولى إليها_فى لقطة كبيرة، لتظل تتحرك جانبيا حتى تصل لجلسة عبده، تلف أمامه لفة
دائرية بغنج ومن ثم تخرج عن إطار الكادر، فى صورة متوازية كالعادة مع بداية الجملة
اللحنية وإنتهائها. بينما فى الشق الثانى منها، يتحرك حسن مساعد متولى ليعرض على
عبده كوب الخمر فيرفضه عبده، وتمتلأ الصورة بحركة حيوية ُتتَمم الجملة اللحنية ولا
ترك لها ذيلا، فحركة حسن ومشيته المتراقصة هى الأخرى، وحالة عبده المتوترة تُحقق
هذا الغرض بجدارة.
وفى الكوبليه الثانى تتصدر صورة ورد الشاشة
فى حركة دورانية تنتهى مع إنتهاء الجملة الغنائية الأولى، يظهر متولى من خلفها
لينطق بالجملة الثانية، وينتهى الكوبليه على نفس المنهاج الإلمامى باللحن. ومن
بعده يطل الكوبليه الثالث مع كادر واسع لا يظهر فيه أى من الأبطال، يبدو من خلاله
وضع الكاميرا سُفليا ومع ظهور كلمة "خلخال" تتبدى قدم ورد من زاوية يسار
الكادر والخلخال ملتفا حولها، ومن ثم تتوارى خارج الكادر من جديد، ويتم القطع على
وجه عبده وهو ينتفض إثر هذه الحركة المداعبة لرغبته فى ورد. ومع الكوبليه الرابع،
يظهر كادر متوسط آخر تتكأ فيه ورد بركبتيها على الأرض ناظرة إلى محل جلوس عبده
ومتقدمة صوبه، تظل تتحرك بحركة أفعوانية وئيدة حتى تصل لجلسته التى لا يظهر منها
سوى خلفيتها، ليبقى عبده وجلسته المواجهة لقرب ورد واقعا فى منطقة مُظلمة عند
مؤخرة الكادر، لا تضاهى أبدا الضوء الذى يأتى من مكان ركوع ورد أمامه ومحاصراتها
له. كل هذا يُشرق منضبطا بحركة موزونة مع اللحن.
تعليقات
إرسال تعليق