_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_
فى فيلم dangerous
method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة
الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه
أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده".
فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى،
من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة
خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق
والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور
تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق
وأن أغدق عليك بها.
تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى
انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة.
أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك.
سيناريو
الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما
المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا
مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما الفيلم ودعمها حتى آخر دقائق. مع مراعاة العناية
بالحبكة نفسها، والعمل على كل من مشتقاتها بإجتهاد وبساطة.
فبعد العرض المُلّخِص التعريفى بهذه الفِرقة
الريفية الطامحة، والتى أتت من طنطا خصيصا لكى تشارك فى كاستينج فيلم مصرى بعنوان
سوق بغداد، نفاجىء بمشهد إهانة قاس وغير متوقع من منتج الفيلم عادل صبرى
"أحمد مظهر"، والذى يبدى اعتراضه بوقاحة حول مظهر بطلة الفرقة سعاد شلبى
"شادية"، واصفا إياها بالجملة الشهيرة " كاوية شعرها عند مكوجى
رجل، وشرابها مدلدل".
فبالرغم من جو المرح الذى أطلت به المشاهد السابقة لهذا
المشهد، نجدنا قد اُتخِمنا حينها بمشاعر نقيضة تماما، نجح المخرج فطين عبد الوهاب
فى تسريبها إلينا، حيث مسّنا شىء من الإحراج الموجع الذى ترسب فى نفس سعاد،
والمقصود تجسيده بهذا الشكل لأنه ذاته نفس الدافع القوى الذى ستتحرك الأحداث وفقا
له فيما بعد. فالعاشقة المُعدمة هنا لن تتنكر فى ثوب أميرة لكى تُبهر الفنان
وتستميله (حتى وإن كان ذلك سببا مُرجئَا)، أو لتغوى العاشق وتحصل عليه (حتى وإن
وقع ذلك كحدثا عارضا)، ولكن تيمة الإنتقام هى الأولوية الحقة فى هذا السيناريو.
فكل الملابسات اللاحقة، تُلِح علينا لكى نتذكر مشهد الإهانة الذى كان، يكفى تأمل
مشهد إذلال عادل صبرى، حيث انبرى رجلى فرقة سعاد "حسن مصطفى" "عبد
المنعم إبراهيم" بالتمادى فى التقليل من مهنته، وقدراته.
جالسين فى حُلة
الأمراء يُتابعان فى سقم ذاك البهلوان وهو يمتثل لأوامرهما مهوهوا، منونوا، مؤذنا،
مغنيا، ومتقمسا لدور فرخة تبيض، طمعا لنيل رضا ابنتهما الأميرة المبجلة. وهنا تجلت
من جديد براعة المخرج فطين عبد الوهاب، فى إخراج هذا المشهد على صورته العفوية
والمركبة فى آن، حيث يراودنا إحساس غريب بحرج موازى شبيه بما تعرضت له سعاد من
قبل، ولكن فى الوقت ذاته لا يسعنا سوى أن نطلق ضحكاتنا دون أن يزول الأثر الجَدِى
للمشهد.
لم يقف السيناريو عند هذه المساحة من التميز،
بل طرح نقطة أخرى للقوة جعلته يحتفظ برونقه، ورشاقة إيقاعه إلى نهاية مشاهده.
فإتخذ إحتياطاته المُسبَقة، كلما انتقل بالدراما إلى مستوى فانتازيا، غير منطقيا
فى التصعيد. فمثلا، رتب ظهورا مُرضِيا للأمير الساكن بالصدفة فى نفس الفندق الفقير
الذى تمكث فيه الفرقة، إذا فالمُتفرج قد اُعِد سلفا لمشاهد القصر الفاره، وخلافه
من المناظر الحالمة. لم تتبدى التمثيلية التى تورطت فيها الفرقة لكى تذِل عادل
بعيدة المنال، ولم يكن كل شىء حصلت عليه أيديهم من أجلها مُلفق مبتذل.
حيلة أخرى لجأ إليها السيناريو للتعامل مع
التصعيد، وخصوصا فى صورته المُغالية بعض الشىء، مثلا عندما اضطر عادل صبرى أن
يتنكر فى زى المهراجا الهندى ليكسب قلب محبوبته الأميرة، قد يكون هذا الجزء فى
الحكى، نقطة ضعف كثير من الأفلام الجيدة المماثلة، ليس فقط من ناحية التخاذل عن
ابتكار أحداث أشد منطقية، ولكن على مستوى التنفيذ أيضا. وهو الأمر الذى بدا مُحنكا
مُتقنا فى فيلم أضواء المدينة، حيث حرص المخرج فطين عبد الوهاب على معايشة الموقف
بحقيقية إلى نهايته، لم يكتفى بملابس مظهر الهندية، وإيفيهاته المتبادلة هو وسمير
غانم، بينما هيأ قدومه إلى السرايا فوق ظهر فيل، وأخرج بعض الإستعراضات البديعة
الجامعة بين الثقافة الهندية والشرقية. فلوهلة، ترانا تناسينا هشاشة اختلاق الموقف
نفسه، وانشغلنا بما دونه من المُغيبات المُلحَقة به بخبث وإبداع.
شخصيات
أنت هنا أمام شخصيات تملك طلتها، وتفاصيلها،
رغم ضآلة حيز تأثيرها الدرامى. فنجد مثلا شخصية "عادل إمام" متورطة مع معاناتها
الطفيفة مع اشتهاء السجائر، وهى التفصيلة التى يستخدمها السيناريو على مدار
الفيلم، لينعش بها مخيلتنا وإدراكنا حيال الشخصية من جهة، وليصنع منها موقفا
كوميديا من جهة أخرى. يتكرر الأمر مع شخصية "جورج سيدهم" فيما يخص
علاقته بالطعام.
شخصيات أخرى، قد لا يرتبط بظهورها أية
تفاصيل، إلا أن فطين عبد الوهاب وضعها فى مكانها، وحفظ لها الشعور الواجب لطلتها،
كشخصية بابا شكرى "حسن مصطفى"، الرجل الحكيم القائد للمجموعة، والذى لا
يخلو شخصه من خِفة دم خفية، ممتزجة ببعض الحكمة والحنو. لم يكن ثمة متسعا للوقت
لكى تعلم كل هذا عنه عزيزى المُشاهد، ولكن طريقته فى الحديث، أسلوبه فى التوجيه
والإنتقاد، قسمات وجهه وتعبيرية حركات جسده وهو يحتضن سعاد بعد انتكاستها النفسية،
جعلتنا ومن دون وعى، نعلم بقدر بابا شكرى وقيمته، ونتأكد أنه لم يكن ليحل محل حسن
مصطفى نجما آخر ليقوم بهذا الدور. تماما كما نعلم ذلك، بخصوص دور عبد المنعم
إبراهيم، فالشخصية التى قام بها إبراهيم، إن لاحظنا مدة تواجدها، أو عدد الكلمات
التى تفوهت بها على مدار الفيلم، سنجد أنها فى حكم المعدومة، المعدودة على
الأصابع.
ولكن إن حاولنا تخيل ممثل آخر، وهو يرتدى ملابس إمرأة مسنة قرشانة، تتلذذ
بإمتهان الرجل الذى سبق وكسر بخاطر زميلته المقربة، بالطبع لكان هذا المشهد، وهو
مشهدا من أقيم مشاهد الفيلم، مهددا بالخطر، مُستعِدا لفقد قدرا بليغا من حيويته
وبهجته.
فيلما غنائيا على طريقته
صحيح أن هذا الفيلم، اختزل كثير من مساحات
الحكى بالأغنية، بحيث إن شرعنا بفصل أغانيه عن سياقه، سيختل المضمون، وهو أفضل
تكنيك لفيلم غنائى، لكنه تكنيكا ليس بجديدا، قد اُستُهلك قبلا فى أفلام ناجحة على
مستوى العالم. ولكن المتفرد فى طريقة تنفيذ فيلم أضواء المدينة، أنه لم يتكبل
بالتكنيك السابق وحده، فإن تمعنا النظر، سنجد أن ثمة أغانى منفردة يمكن اقتطاعها
بعيدا دون أن تطرف عينا للدراما، إلى جانب الإستعراضات التى اهتم بها المخرج فطين
عبد الوهاب، وأفسح لها مجالا فى أكثر من مشهد، معتبرا إياها مكونا رئيسيا لابد وأن
يتم على يد محترف مثل مصمم الاستعراضات "محمود رضا". فضلا عن أن أغانى
الفيلم ذاتها، شملت بين طياتها أنوعا عِدة من الغناء، منها كان المونولوج،
والإسكتشات.
فأضواء المدينة، لا يجوز أبدا تصنيفه على
كونه فيلما غنائيا يشبه غيره.
الكوميديا
فى الفواصل الصغيرة، يمكننا أن نرى عدد من
الإيفيهات القوية. مثلا، إفيه ثمن المكالمات التى يجريها بابا شكرى من الفندق، فقد
نغيب طويلا، مستغرقين فى الأحداث ومن ثم نعود ونجد المسئول فى الفندق، يناكف بابا
شكرى بإنهتازية حول سعر المكالمة التى سجريها، منتهيا بينهما الموقف بإلقاء إفيه
ذكى جيد التوظيف.
دعونا لا نغفل اجتهاد أحمد مظهر، ليس فقط
بخصوص مجاراته للبيئة الكوميدية التى حاوطته، بينما فى سعيه لأن يكون جزءا منها،
بل ونجاحه فى ذلك. تبدى هذا ملفتا فى المشاهد التى تقمص فيها دور المهراجا، ومشهده
هو وعبد المنعم إبراهيم.
التمادى عن قصد، فى توضيح التناقض ما بين
حياة شخصية "إبراهيم سعفان" الحقيقية، والحياة التى اختلقها لنفسه أمام
الفرقة بكونه أميرا سابقا. هو بالتحديد ما دفعنا للضحك بقوة بخصوص زيف حدوتة هذا
الشقى الكاذب. فلم نضحك لأنه ادّعى، بل ضحكنا لأن اسمه "حوكشة"، وللجملة
التى أصر "على الزرقانى" وضعها على لسان والده العجوز، وهو يصارحنا نحن
بحقيقة أمره " هاتطلع مزيكاتى لمين يا ولا، أبوك بواب وأمك مُرضعة". رغم
أننا فى توقيت قول هذه الجملة، كنا على علم بشأن تلفيقه وخداعه، ولكن هذا التعنت
فى صدمنا، والتطرف فى تعرية البؤس المناقض تماما لظنوننا، هو سِر مفتاح الضحكة.
آخر كلمتين
_ سأعود ثانية إلى المشهد الملحمى ما بين مظهر
وعبد المنعم إبراهيم، المشهد الذى ساهم كل من الجميع فى تبديه بهذه الصورة
المُحرضة على السعادة. بداية من الشاعر مرسى جميل عزيز، الملحن بليغ حمدى، المخرج
فطين عبد الوهاب، المؤلف على الزرقانى، العظيم أحمد مظهر، العبقرى عبد المنعم
إبراهيم. وأشدد عليك بالتذكرة عزيزى المتفرج، ألا تغفل الضحكة العفوية لـ
"حسن مصطفى" الواقف فى ظل يمين الكادر، حينما شاهد مظهر يصعد فوق
البيانو، ويذعن لأوامر العجوز، متقمصا شخصية المؤذن، صائحا "الله أكبر، الله
أكبر".
تعليقات
إرسال تعليق