_نُشِر فى مجلة أبيض وإسود_
"لا أحد منا ميت
حقا، أو حيا بالفعل"
أثناء مشاهدتى لفيلم كوبريك full
metal jacket نبض وقع هذه الجملة فى رأسى، وهى
المقولة التى نال جوزيه سارماجو عن روايتها "عام وفاة ريكاردو ريس"
جائزة نوبل. فيلم كوبريك، وإن إختلف مظهر فكرته وتباينت إطلالته، يبدو متخما فى
قاع فسلسفته، بهجمية هذه الرواية الرائعة. كلا من العملين كالكفوف العابثة
بمحتويات غرفة مهندمة. تقلبها رأسا على عقب، آتية بعاليها أرضا، إلى أن يتجسد
شعثها مغويا، جذابا، يحفز الشهية لتذوق نوعا مغايرا من الجمال. كلا من العملين،
بُنى على فلسفة وجودية، نيئة الصنع، وحادة الأطراف. متطلبة لجهد غزير فى قراءتها،
والتوصل إلى لب معناها، أو حتى الشروع فى بدء ذلك دون إتمامه.
ولكن فى فيلم كوبريك ثمة براعة فاقت كتابة
جوزيه سارماجو، بغض النظر عن قدر المتعة المتخللة العملين. فمالوضوع الذى اختاره
كوبريك، وهو الحرب كان قادرا فى أكثر من موضع على أن يحيده عن جوهر قضيته
الفلسفسية الشائكة، بينما موضوع رواية سارماجو، مثّل تيارا دافعا لتروس الفكرة
التى يرغب فى نبشها. على يد كوبريك، ترى فيلما حربيا، يدفعك لمراجعة مفاهيم خلقك،
بقاءك، وقيمة عيشك. ينفض يديك عن أقرب المفاهيم الإنسانية المتوقع استحلابها من
الأجواء الحربية، بينما ينقلك من قلب ساحة المعركة، إلى إعادة النظر فى مفهوم قيمة
الجماعات، طبيعة الكيانات البشرية، ومدى أثرها على معنى حياة الفرد. فبينما تشاهد
حربا موثقة تاريخيا بين الولايات المتحدة الأمريكية والقوات الفيتنامية، يقفز عقلك
إلى ساحات مدنية فضفاضة بغير جنسية، معدومة الهوية، تراقب فيها تصرفات الطبيعة
الإنسانية عموما، مجردة من مفهومها المتطور الزائف، كاشفة عن هزلها وبدائيتها
وكأنها وجها لم يفلح تبرجه فى موارة حالته الأولى منذ بداية الخلق. إنها القضية
التى تشغل بال كوبريك عموما، حتى وإن تناولها بمداخل عِدة، ومالعجات متنوعة. بينما
تظل وحدها همه العتيق، المخبأ فى رحم مواضيع أفلامه المثيرة للجدل.
رحلتان
ينقسم فيلم كوبريك إلى شطران، الأول ينقل
للمتفرج إعدادات تدريب الجنود الأمريكان بغية تخريجهم ضباط مارينز قتلة. والثانى،
يصطحب المتفرج لوقائع بعينها أثناء تمركز القوات الأمريكية فى الأراضى الفيتنامية.
كلا من الرحلتين تعزز قيمة الأخرى، تزيدها ثراءا، وتساهم فى ابراز منهجها الفكرى.
فى البداية نعايش الجنود فترات تأقلمهم على
الحياة العسكرية. نبقى شاهدين على التمارين التى يختبرونها، والتى لا تعد قاسية فى
حد ذاتها حينما تُقارن بغرابة الضابط المسئول عن تنفيذهم لها. الشخصية التى تطفر
هزليتها من بين جَدها، ويُلحظ التعمد فى تقديمها داخل ثوب ساخر رغما عن أنف زعيقها
وصراخها الدائم. والحقيقة أن هذه التفصيلة، حتى وإن جاءت لتخدم الشكل العام الذى
ترسخه المعالجة صوب التقليل من هيبة البهرجة العسكرية المقدسة، ولكنها فى الوقت
ذاته، أخذت من إحساس الوقع النفسى الذى سيتدهور بناءا عليه "بايل" جندى
من جنود الفصيلة. حيث تخور قواه المحدودة أمام القدر المتلاحق من الضغوطات
المصبوبة عليه رأسا من هذا الضابط "هارتمان". فمع الشعور بهذه الهزلية،
تخابت معظم غضبات هارتمان، ولم تُحدث تأثيرا يُعوّل عليه فيما باءت به حالة الجندى
"بايل".
ولكن عند تأمل موضع هارتمان بين إحداثيات التمارين ذاتها، والتى تبدت فى
إطار كرتونى مقصود، نجدها محققة معادلة الخلل الكافية التى قد تبلغ ببايل إلى هذه
الحالة، وفى الوقت ذاته تنجز الإشارات الرمزية الكافية، للتعدى على فخامة قامة
العسكر . هارتمان يجوب بجنوده الساحات وهو يردد أناشيد حماسية شاذة، تحمل الجنود
مرة على اعتناق مذهب الحب الأعمى لقوات المارينز، وأخرى تدعوهم لمساواة بندقياتهم
بأدوات المتعة الجنسية (يرددون هذه الكلمات، وهم يتبخترون فى حسم واضعين كفوفهم
فوق أعضائهم الذكورية كرمز لمداعبة النفس). يبدون كالمخابيل، ومن قبلهم يتبدى
"هارتمان" عجوزا خرفا، صبغ خرافه الصغار بأمراض شيخوخته البائسة. إن هذه
الصورة المقززة قصدها كوبريك، عناها بعينها، ليتمادى فى تشويه إدعاء المارينز
بالأفضلية، وإثنائهم على أداءاتهم، وعيشهم على صدى هذه الكذبات.
خلق كوبريك لهم مجالا
بصريا وسمعيا ضئيلا، لا يتسق مع حجم كلماتهم عن ذواتهم، ولا إحساسهم بها، فبدت
الصورة مشوشة، مضطربة، حاملة لوجهين متناقضين ومن بين التناقض يبزغ المعنى. تماما
كشريط الصوت الذى يجارى مشاهد التمارين، ضربات المارشال العسكرى الغليظة الممزوجة
بإيقاع نغمة أناشيد هارتمان التافهة، إنه أبسط مثال للتباين الذى نسجه كوبريك فى
هذا الجزء من الفيلم، ما بين ما يرغب فى قوله وما تبدو عليه مهابة المارينز.
الجندى بايل فى منتصف الرحلة الأولى، يتحسن
بمنظور ايجابى معقول، حينما يعاونه زميله "الجوكر". شىء من الإنتعاشة
يتضح على أدائه حتى وإن لم يكن فى مقدوره إتمام مهامه على أكمل وجه. وهنا يتدخل
هارتمان بعد نفاذ صبره بخصوص التعاطى مع أخطاء بايل، ليسلمه تسليما خبيثا لعقاب
زملائه. عند هذه النقطة تحديدا، يسعنا التنبه لما يضمره كوبريك إلى طبيعة التصرفات
الجماعية، التى تشبه فى نموذج مصغر منها المجتمعات الواسعة. تلك المجتمعات التى
تجد فى قوانينها الوجاهة الكافية لكى ُتتبع، ومن ثم تجد ذات الوجاهة سببا كافيا
لمعاقبة الخارجين عنها، واعتبارهم موصومين بإضرار حقوق الجماعة بتصرفاتهم الغير
مسئولة. وبعدما يتدخل زملاء بايل فى مهانته وإذلاله، تبدأ نفسيته فى التحور،
لينخلق فى داخله وحشا صغيرا، لا يفقه أية أصول لأى شىء، تنقلب نظرة عينيه بشكل
يدعو للقلق، وتختفى براءة وجهه. ويقدم فى ليلة تخرجه على قتل هارتمان وبعدها
ينتحر.
أما الرحلة الثانية، فهى الإمتداد الفعلى لما
بدأه كوبريك فى النصف الأول من الفيلم، ولكن من زاوية أخرى أكثر فعلية ومعايشة.
فمن ساحة القتال، يطلق يد المُشاهد فى ملاحظة هذه الجماعات التى سبق واُتخِمت
بمفاهيم الإنتماء، ومبدأ الاتفاق الضمنى. نراها على حقيقتها، وهى بصدد الموت فعليا،
وفى مواجهة الإختبار الحى لمدى صلادة ما كانوا يرددونه كالبغبغوات سابقا. من حيث
الفكرة، وعلى مبعدة من الشعور الإنسانى.
يُسلط كوبريك عدسة مكبرة ليرصد عشوائية
المنظومة الفكرية لكل جندى مارينز، فهم مبدئيا يتفقون على مبدأ الموت آليا، دون
تبنى برمجة واحدة. فمنهم من يرى أنهم يموتون من أجل الحرية، والآخر يرى موته يعد
أفضل إن كان موهوبا لكمة "إمرأة"، والغريب عدم ذكر أى منهم للموت فى
سبيل حب قوات المارينز الأمريكية، أو فى سبيل الدفاع عن الوطن. على الجانب الآخر،
نرى الفوضوية ذاتها تأخذ مساحة لا يستهان بها من فكرتهم عن سبب وجودهم فى فيتنام،
فالبعض يؤمن بكونهم يساعدون الشعب الفيتنامى، والآخر يرى أنه يهب حريته الشخصية
للفيتناميين الأغبياء الذين يلفظونها بقسوة، وهذه الجملة بالذات ملغزة للغاية،
للوهلة الأولى يمكن أن تقدم انطباعا ايجابيا عن تصالح الجندى الذى تفوه بها مع
فكرة وجوده فى فيتنام، ولكنها تحمل حقيقة شحنة تذمر وقهر صوب وضعه الحالى فى حرب
لم يؤمن بها، سلبته قدرته على عيش حياته كما يفضلها.
وفى مشاهد المواجهات الحربية، تجدهم
متذبذبين. ليس على مستوى الجبن والشجاعة فقط، وإنما من ناحية تصرفهم بما يليق
بتنظيم الجماعات واحترام هيبتها. فهم يختلفون على الدوام، يتأرجح القرار على مائدة
عقولهم الخاوية، وأرواحهم النافرة. يفقد كل منهم حبه للآخر، ولا يعقد مع ذويه أى
صلة انسانية تذكر. هذا بخلاف علاقة "الجوكر" و"كاوبوى" وهى
العلاقة الناشئة بأثر رجعى منذ أيام معسكر التدريب، وماعداها يبث شعورا جامدا
بصفوف بشرية مصمتة، حُشرت إلى جانب بعضها البعض بغير دفء ومن دون نتيجة واحدة تدل
على قوام الجانب الفطرى لهؤلاء البشر، فكريا ونفسيا. وشريط الصوت فى هذه الأجزاء
يلهث هو الآخر ليجسد هذه المشاعر المُربكة، بأغانى تصبغ صورة القتال بصبغة مخنثة
متخاذلة، فالنيران والدمار يتفشى فى عمق الكادر، بينما يتراص الجنود أمام الكاميرا
ليوثقوا لحظة انتصارهم التى لا يفهمون منطقها، على خلفية موسيقية متلاعبة الايقاع،
أشبه بما تصتنت إليها فى نوادى الرقص.
إنه نموذج مصغر، لشكل الفوضى الإجتماعية على
مستوى العالم، الكل يدعى التنظيم، وينادى بالشعارات، ويصم الجماعة التى ينتمى
إليها بما ليس فيها، والحقيقة أن هذه المجتمعات تظل فى حقيقتها عشوائية هزيلة،
منزوعة القوة على المستوى الجماعى أو الفردى حتى. فالجندى بايل مات، ولم تعد ثمة
حُجة تعرقل تقدم ما يدعونه، هذه هى حقيقتهم ليس إلا. ف"الجوكر" وحده من
يعلن ازدواجيته، وارتباكه فى جهرية وتصميم. يضع رمزا للسلام على بذلته، بينما
يعتمر خوذة كٌتب عليها "خُلقت لأقتل" ولا يتخلى عنهم على مدار الأحداث،
بالرغم من انه قد تلقى لفت نظر مرتين من رؤساءه، تصرف بنفس الشجاعة التى ثابر بها
على الرد حينما دفعه هارتمان على تغيير اجابته، عند اعترافه الصريح بعدم ايمانه
بالعذراء.
يتحدث الجوكر فى نهاية الفيلم عن فرحته
بعودته حيا معافى من الحرب، يجاهر بنفس الصراحة عن دناءة العالم الذى سيعود
إليه_تماما مثلما هجى بايل نفس العالم قبل انتحاره_، ولكنه يحمد إحساسه بعدم الخوف
بعد الآن. حينها سيعسك تذكر جملة سارماجو ..
"لا أحد منا ميت حقا، أو حيا
بالفعل"
آخر كلمتين
_ صيحات الشجاعة القتالية التى يتمادى
"هارتمان" فى طلبها من الجوكر فى أول مشاهد الفيلم، لا نستمع إليها حقا
إلا فى مشهد موت اثنين من رجال الفصيلة على يد القناص. وقد نفذها كوبريك بشكل
ملحوظ بطريقة ال slow motion وكأنه يشير بسهم واضح
وفوقه جملة "إنها الصيحات المتمناه، فقط حلت بينة وقت الموت".
تعليقات
إرسال تعليق