_نُشِر فى مجلة أبيض وإسود_
الانسيابية ..
إحساس قد تفتقر إليه فى معالجات كُثُر لأفلام
تحبها، وتعترف بقيمتها سينمائيا. ولكنك ومن دون دراية تفتقد فيها شىء من التوالى،
التتابع، التدفق. والذى ينفى عنك الشعور بمعاناة ما، خرجت من صدر صانعها إلى جانب
هذه الوقائع الفيلمية التى تشهد لها بالجودة، وتقبل عليها بنهم. والمفارقة فى فيلم
deconstructing harry 1997 أنه يمثل مادة
سينمائية مشحونة بالطاقة والتوهج، ممتلئة عن آخرها بهذا النوع من التدفق الذى
نتحدث عنه. بالرغم من أن معالجتها تتمحور حول هارى الكاتب الذى يفقد نورانية روحه،
ويواجه أعتى فترات النضوب الفكرى التى تلح عليه سلبيا، وتجتر إليه حالة إكتئابية
هزلية برغم سوداويتها.
حينما تشاهد فيلم وودى آلن، ستتراجع الصورة
المعتادة التى قد تراود ذهنك، بشأن المخرج المؤلف الذى يجلس على مكتبه، ويستولد
معالجات فيلمه، يطرق أحيانا، يزدهر أحيانا، ويفارق مقعده فى أحيان أخرى. يتشوش
إحساسك بماهية عملية الولادة ذاتها، بمدى يسرها أو عسرها. بينما تتورط فى هذه
الصور المُتَخَيَلَة التى تداهمك تباعا،
وتتشاغل بشخصياتها، طرائفها، ثرثتها، سذاجتها، حنكتها، غرابتها، وَوِدّها.
بين واقع مُتَخَيَل وخيالات واقعية
يقوم سيناريو فيلم وودى آلن على خطين دراميين
متوازيين، الأول يتمثل فى معاناة هارى المؤلف وهو يشعر بنضوب خيالاته، وهو ما يدفع
به للعيش مجبرا فى الواقع الذى يسأمه دوما، ليأتى الخط الثانى متأملا حياة هارى
الفوضوية، ويفضح صلاته الحقيقية بها وبكل من حوله مجددا.
إنها رحلة روحانية موازية، ولكنها ليست
معتادة لهارى الآخذ فى التوارى خلف رؤى قصصه، متماديا فى الهرب مما يدور حوله. ففى
هذا الوقت المستقطع من حياته، والذى تجافيه الكتابة جابرة اياه على التكيف نوعا ما
مع عالمه الحقيقى، تحدث طفرة فى إحساس هارى، تدفعه لأن يعيد حساباته بخصوص كتاباته
الماضية التى تعمد فيها أن ينتقم من واقعه. وتعد هذه الخلاصة أقوى ما انتهى إليه
السيناريو، فالوقت الوجيز الذى قضاه هارى متخبطا بهذا الشكل، لم يضيع هباءا، وإنما
استقرت به المعالجة على أرض ذات قيمة، ولها مدلولها الروحانى الأنيق الذى أعاد
لهارى فى النهاية قدرته على الكتابة. وفى الوقت ذاته، ما قدمه السيناريو على مدار
هذه المرحلة للمتفرج، بدى عفويا، بسيطا، يحمل حسا فكاهيا اعتباطيا أضفى عليه جمال
وراحة، ولعل هذه التركيبة المتنافرة التى تجمع بين الدقة والتلقائية هى ما منحت
الفيلم صفة الإنسيابية.
الخط القَصصى هنا، يكشف لنا عن طبيعة هارى،
شخصيته التى تنعكس بوضوح فى كتاباته، فكل قصة يتذكرها هارى خلال الأحداث الدرامية
الواقعية، تعتبر مفتاح للمتفرج ذاته، ليعرف منها هارى، يقترب منه، ويعى مأساته عن
قرب. فيصارحه طبيبه النفسى بأنه كان يعبر عن نفسه، حينما كتب قصة الممثل الذى
تتغيم صورته، ولا يتمكن المحيطون به من رؤيته بوضوح. يتلعثم هارى، ويجيب بأنه لا
يهتم بهذه التفسيرات، ولكنها بالفعل هى الحقيقة، التى طالما لم ينتبه إليها،
فتراه قد كتب بنفس السخرية الإنتقامية،
قصة عن يهودى سبق له قتل أقربائه ومن ثم إلتهمهم فى محاولة لإخفاء آثار جريمته.
ومزج صفات أخته الدينية التى يمقتها أشد المقت، بحادثة انفصاله عن زوجته التى
تذمرت وتركته إثر خيانته لها، معاقبا الأخيرة فى دخيلته ومن دون قصد بعدم تمييزها
بين العلاقة الجسدية البحتة، وعلاقة الزواج التى تربطه بها.
من هذه القصص التى
نسجها السيناريو بكل براعة، وفى توقيتات نموذجية من الأحداث التى يعايشها هارى فى
حياته الفعلية، نستخلص العلاقات الخربة التى تربطه بالواقع، بينما ينتبه هارى نفسه
إلى التجاوزات التى دفعه خياله إليها، معميا عن كثير من تفاصيل العالم الحقيقى من
حوله، مثل حب أخته إليه وهو الحب الذى لم يتورع أن يلحظه ويتوقف أمامه، وكذلك
تجنيه على زوجته وسلبها حقها فى رفض خيانته لها، حتى وإن كان يملك إزاء الأمر
منطقا سديدا.
القصص هنا تحمل وجها هزليا ملفتا، مغالاته فى
السخرية هى مربط الفرس، والواعز الأساسى فى التعبير عن كيان هارى المتطرف رفضا
لمعظم المعانى التقليدية من حوله. فهو رجل يجلس بكل بساطة، ليتناوب المناقشة بينه
وبين صغيره حول الجنس. يتبادلان الألفاظ البذيئة، والخيالات الجامحة. شخصية بمثل
تلك البدائية، لا يسعها أن تستوعب تعقيد الحياة من حولها، فهى حقا مأساة بطعم
الفكاهة. وقد نجح السيناريو فى توصيل كلا من الإحساسين المتناقضين، ليبقى المتفرج
متمرجحا بين حالة الضحك وحالة التعاطف مع الحياة المُلفقة المشتتة، التى يحياها
هذا الكاتب البائس. الحياة التى تحاكى قميصه المثقوب بفضفاضية فى أكثر من موضع،
متبديا فى لفة صامتة، لم يتعمد السيناريو الإشارة إليها، وإنما تركها لعين المتفرج
ومُخيلته، ومر عليها مرور الكرام بينما كان هارى يُكمل ارتداء ملابسه بعدما أتم
علاقة جنسية مع عاهرة، إنه ذات الحد المائع بين الكوميديا والمأساة، متجليا فى
صورة رمزية خبيثة.
امتدت نزعة السخرية المغمسة بالجد قبيل نهاية
الفيلم، لتبلغ ذروتها وتنتهى لحظة التكريم المُنتظرة بأبشع أنواع المفارقات
السخيفة، فصديق هارى الذى سبق وأخبره عن حالات الوفيات الوراثية المفاجئة فى
عائلته، يتوفى هو الآخر وقت التكريم، بينما تعتقل الشرطة هارى ومعه العاهرة التى
دعاها ليستأنس بها فى لحظة تكريمة المقفرة. وبالتمعن إلى هذه النتيجة البالغة
القول فى تكثيفها، يمكننا تتبع اتقان الخيوط التى أودت بنا إليها رويدا رويدا، فقد
سبق وأن تم التحضير لها جيدا. بداية من صياغة حكاية صديق هارى المريض، والذى قابله
فى الشارع مصادفة وذهب معه إلى الطبيب الذى أكد أنه بخير، لتتم دعوته لاحقا إلى
حفل التكريم، ومرورا بمجىء العاهرة كوكى، حيث أبدت إهتماما بعد معاشرتها لهارى
جنسيا مما دفعه ليعرض عليها مصاحبته يومها، ونهاية بالمسدس الذى تركته لوسى له
بعدما تراجعت عن فكرة قتله فى المشاهد الأولى بالفيلم. كل ما سبق تفاصيل سيناريو
يقظ، بدأت لتمتد وتفضى إلى نتيجة منتظرة ومبتغاه.
الشخصيات التى اختلقها هارى تبدأ فى مواجهته عند
منتصف الفيلم تقريبا، هى من تعطيه جرس التنبيه الوحيد الذى يسمعه بحق، فهو لم يعيد
النظر فيما حوله إلا عن طريق يد العون التى مدتها له شخصياته، إذا فهو وحده من
أقدم على مساعدة نفسه. هذه الشخصيات التى كانت أيقونات مميزة، لا يمكننا أبدا أن
نتجاوزها وننساها بسهولة، شخصية الزوجة التى تتحول من تحررها وعقلانيتها إلى إمرأة
روحانية دينية متطرفة، شخصية المراهق الذى تزوج مبكرا ليتخلص من سلطة والديه،
وغيرها. وما يوازيها من شخصيات رسمها السيناريو لواقع هارى الحقيقى، وجاءت لتحمل
نفس السمات الفريدة حتى وإن شح ظهورها، كمثل هذه الزوجة الباردة الأنانية التى لا
تحمل عناء الإلتفات لكره شقيقتها لها، ولوسى الفتاة المضطربة التى تتمادى فى حبها
لهارى بصدق، العاهرة ذات القلب الطيب والتى تحتضن هارى وتطمئنه وقت نوبة الذعر
التى تواتيه لحظة تكريمه، أخت هارى التى لا يعيقها معتقدها الدينى الصلب من حب
أخيها والإشفاق عليه حتى وهو ملحد وممتلىء بطاقة الحقد عليها، صديق هارى الذى
يتوفى فجأة كأقاربه، فى وقت من الممكن أن يكون فيه وحيدا لولا مرافقته لهارى وقت
تكريمه. إنها حالات إنسانية مُتخمة بالحيوية، والصدق. لا يمكننا التعامل معها على
كونها شخصيات ستمر مرور الكرام على الذاكرة، من دون أن تطبع بصمتها بتفصيلة أو بأخرى.
آخر كلمتين
_ الإلحاد، العيش فى الخيال، نبرة التهكم على
الإعلام والنقاد ..كلها سمات ذاتية جدا تنتمى إلى المخرج وودى آلن.
_ القطعات المونتاجية التى داهمت انسيابية
الصورة فى عدة مشاهد، كانت خير دلالة على حالة الفوضى الملموسة التى تغلب على حياة
هارى الحقيقية.
تعليقات
إرسال تعليق