فى الفصل الدراسى لمدرسة داخلية صارمة، يقف الأستاذ "جون كيتينج" أمام السبورة، ويطلب من أحد طلابه قراءة مقدمة كتاب أحد نقاد الشِعر الكِبار، يقرأ الطالب فقرة ما بتمعن، يصف فيها على لسان الكاتب وصف تفصيلى لكيفية التفنيد بين القصيدة الجيدة والأخرى الردئية، عن طريق رسم بيانى تخيلى، يلتقطه "كيتينج" من فم الطالب، ويبادر فى رسمه متأهبا، وموحيا بدرجة اهتمامه بقيمة ما ينبرى المؤلف لإيضاحه، فى الوقت ذاته يقوم طالب آخر بنقل رسمة "كيتينج" فى دفتر ملاحظاته، بإعتبارها مرجعا قد يعينه على الاستذكار فيما بعد. وبعدما ينتهى الطالب الأول من قراءة الفقرة، يتم "كيتينج" رسمته، ويكاد يفرغ الطالب الثانى من نقش ما خطه "كيتينج" على السبورة. يتفوه "كيتينج" فجأة وهو مبتسما رائق البال " ما هذا إلا مجرد هراء". ولابد من أن أطلعك أولا على رد فعل طالب النقش عزيزى القارىء، قبل أن أوضح لك ما أرمى إليه بسردى الموقف كله. فما إن نطق "كيتينج" جملته المباهتة، اندهش هذا الطالب، ومن ثم قام فورا وبحركة آلية بمحو الرسمة النى اجتهد بتفانى منذ قليل فى نقشها.
يُبدى "كيتينج" بعدها امتعاضه بخصوص مبدأ صاحب الكتاب النقدى، ويتنكر من هذه الطريقة الجافة والمُدعية إزاء الشعر. والتى فى المقابل يُمجِدها المُعظَم، ويعترف بقيمتها لدرجة وضعها فى مناهج الدراسة، لكى يتعلم من خلالها الطلاب الحُكم على الشعر.
على صعيد آخر، وبالعودة إلينا، يمكننا جيدا أن نراقبنا، نتأملنا ونحن نستيقظ يوميا، نقاتل لكى نمارس تفاصيل عيشنا، دون أن نسأل أنفسنا فعليا عن حقيقتها، ننقشها نقشا كالطالب الذى نقش رسم أستاذه لمجرد اعتقاده بأنه ذو قيمة، ومن ثم محاه لأنه ليس كذلك.
فى الحقيقة، نحن نحيا لنحيا...
فماذا سيحدث، إن قررنا نحيا لنُلهِم ونُلهَم؟
أستاذ "جون كيتينج" من فيلم 1989daed poets society، ودكتور "ليونيل لوغ" من فيلم the king’s speech 2010، شخصيات اختارت أن تحيا لتُلهِم غيرها، وتجد إلهامها الخاص فى إعادة اكتشاف كل ما يحيط بها. آثرت أن تملك عينا متفردة تُعَبِر عنها، ومنهجا مغايرا تَعبُر من خلاله ممر الحياة، تتجاوزه لترى المغزى منه، بدلا من أن تسكنه هو بذاته، وتحيا محتمية بظله الخادع، آمنة لظلامه الذى لن يمكنهم أبدا من رؤية النور.
دعنى أثرثر معك عزيزى القارىء عنهما، عسانى اُلهِمك بهما، وأعد مأدبة امتنان على اسمهما، تُفسِح لهما فى تكوينك حيزا أبديا. دعنا نمارس فى السطور القادمة، طقسا من طقوس الإبصار بالقلب، فهل تفكرت يوما بأن القلب يحمل فى داخله عقلا أكثر رجاحة؟!!
"ليونيل لوج" الطبيب الذى لم يدرس الطب أبدا
مأساة الملك جورج السادس المزمنة مع مرض اللعثمة، والتى لم يزدها أطبائه الحاصلين على المرسوم الملكى، والمشهود لهم بالكفاءة العلمية إلا تدهورا. يأتى أحدهم فجأة ليحل عقدتها، أو على الأقل يُرخِيها، ويجعلها قابلة للمساومة، بعدما امتلكت لدهور الكلمة العليا على صاحبها، ووضعته فى أزمة جحيمية تؤرق من مأزقه ومركزه الحَرِج.
هذا الرجل يتغاضى فى أول مقابلة له مع صاحب السمو عن منصبه، ويسلبه هيبته، يطالبه فى حميمية أن يرفع الألقاب، ويبدأ فى مناداته باسم "بيرتى" وهو الاسم الحميمى الذى يستخدمه أفراد أسرته. يصرعلى قوانينه المعتادة التى يستخدمها مع كل مريض، يفرض سطوته على سمو الدوق، أو بالأحرى يقتحم مساحات خوفه، ويمنحه مظلة ثقة ليرتاح إليها دونما وعى.
أزمة "بيرتى" تفاقمت على يد الأطباء، فكل منهم كان يطبق عليه نصوص الطب، يَشِفها من الكتب التى تعلمها ومن ثم يرسمها فوق جبهة الدوق المسكين، فيربط على عقدة خوفه من عدم من الشفاء خيوطا أسمك، ويحول بينه وبين الأمل. الكل أخفق فى معالجة "بيرتى" لأنه سار على النهج المعهود فى النقل، قَيمّ المُشكلة بعقول من سبقوه، وتعامل معها بأقرب مبدأ منطقى متعارف عليه. ورغم الشهادات، الكفاءات، البديهيات الطبية الشائعة، والبدائل العلمية المطروحة، ظل "بيرتى" مريضا مسكينا، لا يقوى على مساعدة نفسه، على الرغم من أنه على شفا حفرة من مقعد الملكية.
دكتور "ليونيل" نجح مع "بيرتى" لأنه يملك تكوينا خاصا، فهو رجل لم يدرس الطب أبدا، استمد خبراته فى معالجة مشاكل النطق من مساعداته للجنود فى الحرب، تحت وطأة ظروف معينة. وحينما بلغ من البراعة ما يؤهله لمزاولة الأمر كمهنة، لم يتخلى عن حلمه القديم فى التمثيل، واحتفظ بدوره فى صفوف تجارب الأداء المسرحى، إلى جانب أداءاته المستمرة لأولاده فى المنزل، مُجسدا لهم الشخصيات والمواقف الشيكسبيرية التى يهواها.
لم يوفق "ليونيل" مع "بيرتى" بسبب خبراته المتراكمة، وإنما بسبب موهبته الخاصة فى الاستماع لصوت نفسه، ولأصوات كل من حوله. فهو اختار أن يملك البصيرة قبل الشهادة، وآثر أن يرى قبل أن ينقل. فى أول مقابلة له مع "بيرتى" يسأله عن تفاصيل حياته الخاصة، وفى المقابلات التالية يهدم جدران صمته وعزلته، ويحل وثاق جسده المربوط منذ أمد، والذى لم يفطن أطباء الشهادات أنه سببا من أسباب إعاقة لسانه، فيدفع "بيرتى" لممارسة التمارين لتقوية حجابه الحاجز، شد ترهلات معدته، والعمل على ارتخاء فَكُه، وتنشيط عضلات لسانه.
"ليونيل" عالج "بيرتى" بانفعالاته التى دفعت باسمه لكى يوُثَق فى خانة المُلهِمين. ولكن الموجع عزيزى القارىء، أنه لولا إرادة القدر التى وضعت "بيرتى" فى حياة "ليونيل"، لبقى الأخير فى نظر المحيطين به، مجرد ممثلا فاشلا، لا يرقى لمكانة الطبيب. والحقيقة، أننا لم نكن لنعرف عنه من الأساس.
عندما يواجه "بيرتى" "ليونيل" بمعرفته حقيقة عدم حصوله على أى درجة علمية طبية، يبادره "ليونيل" مطمئنا متباهيا بمؤهلاته الوحيدة التى امتلكها للنجاح سابقا مع جنود الحرب، قائلا "يكفينى شرف منحهم الثقة بأصواتهم، والتأكيد لهم بأن ثمة صديق هنا يصغى إليهم".
"جون كيتينج" المُعلِم القبطان
"هيل هيلتون" مدرسة داخلية صارمة، شعارها الجد والاجتهاد،.يَبرز الفوتومونتاج السريع مدى قتامة ورتابة أساليب معلميها، فمنهم من يبلغ من البؤس مداه لدرحة أنه يُملى على الطلاب ما يرددوه ورائه.
ومن ثم يأتى "كيتينج" يكاريزماه المغايرة، ومنهجه الحيوى، ويخبر الطلاب فى أول لقاء له معهم عن الجُملة اللاتينية "كاربى ديم"، والمرادفة لمعنى "عش اليوم". يسألهم أن ينادونه بالقبطان وفقا للقب جاء فى أبيات شعر لـ "والت ويتمان". ويحرضهم بجنون حول ضرورة الإيمان بأنفسهم، كسب أوقاتهم، وبلوغ آخر ذرة من التصالح مع مواهبهم. يتركهم حيارى بعد وقت ليس كثير، يتهامسون فيما بينهم عن خبل هذا المعلم، الذى لم يفتح معهم كتب الشعر، ويقرأ عليهم منها، غير متهاونا مع دقيقة واحدة من دقائق الصف. بينما تظل الأبيات التى لجأ إليها ليُقربهم إلى فكرته تتردد فى أذهانهم.
"تجمعن أيتها البراعم طالما تستطعن
فالزهرة ذاتها التى تبتسم اليوم، ستموت غدا"
"كيتينج" لا يمارس الصلاة المعتادة لكل المُتفَق عليه قبلا، فبعدما يعترف أمام طلابه بضحالة المقدمة الموضوعة فى كتاب الناقد الكبير "جى ايفانز ريتشارد"، يحثهم على تمزيقها، فهى بلا قيمة بالنسبة إليه، لأنها لا تمس حالمية الشِعر بصلة.
"كيتينج" لا يعتمد على صرامته، وملامحه الجادة لكى يتسول احترام الطلاب، وإنما يقف أمامهم بنفس راضية، وروح خفيفة، يُلقد "مارلون براندو"، و "جون واين". يصعد على عنق مكتبه، ويخبرهم أن الرؤية من فوقه تختلف تماما عن المشهد المألوف الذى يشاهده كل مرة وهو واقف أمامه. يخبرهم عن ضرورة رؤية جميع الأشياء المحيطة بمنظور مختلف، نسبى، يتغير من شخص لآخر، بما يوافق تكوينه وطبيعته. يستدعيهم للوقوف معه، ليختبروا الفكرة على محيط بسيط، مُصغر. يقول بينما يتناوبون الصعود والهبوط" أتمنى أن تبذلوا مجهودا لكى تجدوا أصواتكم الخاصة، لأنه كلما مر وقت سيقل حظكم فى فعل ذلك، حينما تقرأوا كتابا، لا تهدروا طاقتكم فى التفكير فيما يقوله الكاتب، وإنما انتبهوا أيضا لما يرادوكم أنتم من أفكار"
"كيتينج" يصطحب طلابه إلى الملاعب والساحات، يُحدثهم عن الشِعر وهم يمارسون تمرينا كرويا، أو يطلقون أقدامهم مشيا. وفى المقابل، ترصده عين المدرسة الثاقبة، تستنكر أفعاله، وتراه نموذجا أعوجا للمعلم الذى لابد وأن يحمل اسم "هيل هيلتون". وبعد تصاعد درامى ما، تنتهز إدراة المدرسة الفرصة، وتُلفق لـ "كيتينج" الجرم الذى يمنحه طردا مُخزيا.
وبينما يعود "كيتينج" لمرة أخيرة حتى يلملم أغراضه من الصف، فى الوقت الذى يتخذ مُدرس آخر مكانه، ويأمر الطلاب أن يقرؤا المقدمة العظيمة فى كتاب "جى ايفنز ريتشارد"، يتخلى طالبا مُخلصا عن جلسته الملتزمة على المقعد، ويقف على عنق مكتبه، وينادى "كيتينج" "أيها القبطان، يا قبطانى"، متجاهلا الإنذارات القاسية التى يلقيها عليه معلم الصف، ومُحرضا فى خفاء بقية الطلاب للقيام بنفس الفعلة بالتتابع، تتعالى موسيقى قريبة من المرشال العكسرى الشرفى، لتمحى صوت المعلم المنزعج، ترتكز الكاميرا على عين "كيتينج" الدامعة، التى تمتن لطلابه، ومن ثم يغلق باب الصف خلفه ويذهب، مُخلفا كلمات سبق وأن رددها عليهم فيه..
"يجب أن تؤمنوا أن معتقداكم مميزة، حتى لو الآخرون وجدوها بعشة، حتى لو قالوا أنها فظيعة. فروبرت فروست يقول ثمة طريقان فى الغابة، وأنا اخترت الطريق الذى يشبهنى، حتى لو كان أقل رواجا".
آخر كلمتين
_ geoffrey rush فى دور "د.ليونيل" و robin Williams فى دور "جون كيتينج".
تعليقات
إرسال تعليق