_نُشر فى موقع الجزيرة الوثائقية_
يقول الشاعر والت ويتمان: "كلمات كتابى لاشىء، واندفاعه كل شىء."
والعديد ممن خلقهم الله صفحات كتبهم بيضاء، لا حبر فيها ولا قلم، ولكن نقاوة لونها في حد ذاته يؤهلها لأن تستحوذ علينا لسبب ما، لأن تُفرِغ مِلئها في صدورنا وأرواحنا، وتدفعنا لكى نحبها ونحتفظ بها في ذاكراتنا لأمد غير معلوم..
مغنية الأوبرا الأمريكية "Florence Foster Jenkins" والتى كانت تملك صوتا منفرا، لم يغفل التاريخ عن ذكرها أبدا، ليس بسبب غنائها غير الموزون، أو نبراتها المعوجة، وإنما لعملها الملفت في المجال الموسيقى الأمريكى، ولحرصها على إثرائه ودعمه بأموالها طوال سنوات عيشها، وبغير استفادة شخصية قد تعود عليها سوى رغبتها الحقيقية في أن ترى الموسيقى حية عفية من حولها.
المطربة الأضحوكة والآدمية البائسة
وأنا أشاهد الفيلم الروائي الذي أخرجه "stephen frears" لعام 2016، والذي يحمل نفس الاسم الكامل لفلورنس، ويتناول سيرة الفترة الأخيرة من حياتها. وبينما كانت ميريل ستريب "myrel streep" تزعق بنوبات مضحكة من الغناء، لتُصَوِر للمشاهد طريقة غناء فلورنس الحقيقية، تناقضت عدد من الأفكار داخل رأسى، الواحدة تهاجم الأخرى، وتناطحها. كنت أتعاطف مع "فلورنس" الإنسانة من جهة، تلك التى لم يمهلها مرضها- (الزهري) الذي داهمها في عمر الثامنة عشرة- العيش بطبيعية وملاحقة حلمها المتعلق بالموسيقى، ومن الجهة الأخرى أمضي في استنكار فكرة استخدام الفن للمداواة، بالرغم من عدم امتلاك أية موهبة.
ظلت هذه المتلازمة المعقدة، تدور في ذهني إلى حد الإنهاك، ومن ثم وأخيرا، آمنت "بفلورنس"، ودفعت عنى الصورة التى قد يراها البعض فيها، في هيئة امرأة ثرية غنت بأموالها، رغما عن أنف صوتها البشع، وذائقة الجمهور الذي سيتعرض ولو مصادفة لإنتاجها الغنائى.
"ميريل ستريب" في دور فلورنس
لأن "فلورنس" اتجهت للغناء كاستعاضة مشروعة لأملها الآخر، الذي دحضه المرض منذ أمد، فبعد أن تضررت أعصاب يدها اليسرى، لم تعد تجرؤ وتتخيل نفسها عازفة بيانو محترفة، أو حتى هاوية. سنوات طويلة عانت فيها من الحرمان، من العجز، وآلام المرض التى تحول بينها وبين أزرار البيانو، وعزف ما تحفظه عنوه في رأسها وكيانها من مقطوعات مختلفة لشوبان وبيتهوفن وموتسارت وغيرهم، هى هنا امتلكت القدرة والموهبة، ولكن انتُزِعَت منها كل خيارات التنفيذ.
ولعل البعض منا قد خبر مرارة هجمات المرض الأبدية، والتي تجتهد في مداومة سلب أحدهم مؤهلاته، وتجرده من أدوات نقل موهبته من مجرد مخزون يتراكم في داخله إلى إنتاج ملموس يراه العيان ويتحدث عنه. هذا الإحساس الموحش، ظل يأكل صدر "فلورنس" حتى تمكنت من إرث أبيها، وعلى قدر وجعها السنين التى ولت، قررت أن تقرر مصير سنواتها المقبلة، فأنعشت حركة الموسيقى، ونما اسمها بين كبار المجال عام 1944، ومن ثم أصبحت راعية كبرى تلجأ إليها أسماء لامعة ليطلبوا دعمها المالي في حفلاتهم، ويتهافتون على كسب ثقتها، وصداقتها.
هذا (الزهري) الذي يقتل مرضاه بلا هوادة، تغلبت عليه "فلورنس" بالموسيقى لعمر إضافي تقريبا. فهل كان كثيرا على "فلورنس" أن تفكر في الغناء، وتسجل أسطوانة وحيدة؟! هل كان كثيرا على "فلورنس" أن تحظى بنهم ممارسة الموسيقى بنفسها فعليا في شكل آخر حتى وإن كانت لا تنتمي إليه، بعد أن خانها الشكل الذي سبق وأرادته، ومن ثم فارقته وفارقها؟!
الإنسانية فن، ومن لا يراقب الإنسان أولا، يُفوّت أهم تجسيد للموهبة.
فلورنس السينمائية
اختار "Nicholas Martin" كاتب سيناريو فيلم "Florence Foster Jenkins"، أن يقتحم متفرجه بهدوء، ومن دون جلبة. يعرفنا من البداية على فلورنس، وبدون أية خلفيات عن حقيقة مرضها أو شغفها بالموسيقى، يجعلنا نراها بعيون الغرباء، سيدة ثرية، تمارس نشاطات موسيقية ملفتة، وتجد لنفسها دورا فيها لدرجة تدعو إلى الضحك، وعلى الرغم من الإشارة إلى دعم "فلورنس" المادي للحياة الموسيقية، إلا أن المتفرج يغفل عن هذه النقطة، وينشغل وفقا لما أراده كاتب السيناريو بصوت "فلورنس" متفاجئا ببشاعته، ليكمل منظومة ظنه بأن هذه السيدة عديمة الموهبة، تُسخِر الجميع لكى يصفقوا لها محركة كفوفهم التى تصطك فوق بعضها البعض بالنقود ليس إلا، وبما أنها تدعى الموهبة، فهى بالتأكيد تدعى حبها للموسيقى وتتفاخر به.
وحينما يستقر المشاهد على مثل هذا الانطباع، يأتى طبيبا جديدا ليعاين حالة "فلورنس" الصحية مؤقتا وبدلا من طبيبها المعتاد، فإذا بها تخبره بعفوية بتاريخها المرضى، وتقول له باقتضاب كيف أصيبت بالزهري من عمر الثامنة عشرة، عن طريق زوجها. تقع المعلومة علينا كمتفرجين وقع الصاعقة، ولا يمهلنا السيناريست فرصة لنعرف عنها أكثر، وإنما يمضي في حالته المكثفة، والخاصة بهذه الفترة من حياة "فلورنس"، دون العودة أبدا إلى تفاصيل ما عانته في حياتها قبلا، بعد مرضها وحرمانها من أمنية أن تكون عازفة بيانو محترفة. فتزيد قيمة هذه المعلومة العابرة، والقاتلة أيضا، وتخلف في صدورنا سحابة من القتامة والوجع.
هذه النقطة السوداودية التى تبدت، تفور أكثر كلما عاودت "فلورنس" الغناء بنبرتها البهلوانية، والتى باتت تبدو الآن مؤثرة على الرغم من طرافتها. وقد استخدم السيناريست "Nicholas" نفس منهج الصدمة مع شخصية "سانت كلير/ Hugh Grant" زوج "فلورنس"، ففي مشهد يجمع بين "سانت كلير" و مدرب الصوت الخاص ب "فلورنس" والذي سبق وأن رأيناه في مشهد سابق، ينحني إعجابا بصوت "فلورنس" في نفاق واضح، وبينما كان "سانت كلير" يسلمه نقوده، فإذا بمدرب الصوت يقول تعقيبا على دسامة المبلغ "إنها تدللنى" ومن ثم يضع كفه على كتف "سانت كلير" وهو يقول "أعتقد أنها تدللنا جميعا"، فهو يخدعنا على لسان السيناريست، ويؤكد لنا انطباعنا عن "سانت كلير" الرجل الذي يكرس نفسه لخدمة امرأة ثرية عديمة الموهبة، ويجاريها في وهمها بموهبتها في الغناء، طمعا فيها.
وتمادى السيناريو في أن يرسم هذه الصورة كاملة، فجعلنا نراه وهو يسحب نفسه ليلا، ويذهب لمنزل آخر ليقابل عشيقته، ويسهر مخمورا راقصا، مليئا بحيوية لا تناسب معيشته مع "فلورنس" ولا زواجه منها، إلا إذا كان في الأمر مكسب مادي. حتى بعد اكتشافنا لحقيقية مرض "فلورنس" يظل "سانت كلير" في محط ذات الشكوك، حتى يأتي المشهد الذي تخيره فيه عشيقته بأنه لو قام عن جلسته معها ليدافع عن سيرة "فلورنس" التي يهزأ بها رواد المطعم الجالسون فيه، ستتركه، فإذا به يقوم بحمقة زوج يحب، ويدهس وعيد عشيقته بقدميه، ليدفع عن "فلورنس" السخرية، فندرك هنا أنه يفنى نفسه لها بصدق، ويألف ودها ويلبى رغباتها ويغض طرفه عن نقاط ضعفها، لأنه يهاب مشاعرها ويعمل على إسعادها بقلب متعلق بها بحق.
مسحات إخراجية
اجتهد "Frears" في أن يعلى بحس فكاهة الكوميديا اللحظية المصاحبة لوقع صوت "فلورنس"، فنراه يلجأ لحيلة اللقطات السريعة والحادة، في حفل قاعة كارنيجي، سواء على وجه "فلورنس" ذاتها، ومجاراة لتنغيمات صوتها المتعرجة القافزة والهابطة، أو على وجه الجمهور وهو يتلقى ضربات صوتها في مقتل.
في مشهد آخر، وحينما قرأت "فلورنس" أخيرا النقد الحقيقي الذي كتبته جريدة البوست عنها، يتراجع "Frears" بكاميراه بعدما كان يلتقطها وهي حاملة الجريدة وواضعة عينها فيها ومجتنبة ناصية ضيقة من الشارع، إلى أن يصل بها للقطة واسعة عالية، تصورها وهي ضئيلة مقارنة بفساحة المكان من حولها وفضائه ووحشته، إنه تعبير بصري غاية في البساطة والدقة.
آخر كلمتين
_ أفلام مثل "فلورنس فوستر جينكينز" تعد النموذج المثالى للسينما المُلهِمة، التى تثبت أقدامنا على طريق الحياة الوعر، وتمنحنا بعض العزاء والعظة والتفكر.
تعليقات
إرسال تعليق