التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حواديت عن فن صناعة المشاعر


_نُشر فى جريدة الصباح_





ثمة معضلة يتركز وجودها فى السينما العربية عموما، ولكن هذا لا يمنع أبدا أنها قد تمتد لتصيب السينما العالمية أحيانا، وهى معادلة إحترام مشاعر الحب، والعمل على إخراجها بوجهها المُتقَن، المحسوس والمتعوب عليه. الإيمان بكون هذه المشاعر مُوّصِلات جيدة للفن، لها قداستها، وهيبتها، وحضورها الذى قد يفوق فى تأثيره (إن كان جيد الصُنع) الحديث فى السياسة، والمواضيع الحيوية الإجتماعية. الاعتقاد بكون شعور الحب، هو أصل الإحساس بكل شىء، منه الثِقَل ومنه الخفة، وفى قالبه يكمن العقل، وبه تتغذى الفلسفات والواقعيات.

فى فيلم agora  إنتاج 2009 ، تحققت هذه المعادلة بجدارة، على الرغم من نوع الفيلم الروائى الذى يوثق لحادثة حقيقية حول شخصية الفيلسوفة الرومانية الشهيرة "هيباتيا"، ولهذا سنتحدث عن هذا الجانب فيه، ونتأمله وحده بعيدا عن مفردات الفيلم بأكمله. مهمة هذا الفيلم كانت نقل الوحشية التى لاقتها "هيباتيا" فى هذا التوقيت نتيجة لتحرر علقها، ولكنه بمهارة يد ساحر، خلق خطا موازيا للأحداث الحقيقية، وأضاف إليه شخصية مُختلقة، ترتبط بـ "هيباتيا" ارتباطا رومانسيا مكثفا، كان خير دليل لبقية المعانى التى رمى إليها سيناريو الفيلم.

"هيباتيا" و"ديفوس"

"هيباتيا" فيلسوفة عاشت فى الإسكندرية القدمية، واهتمت بتدريس الفلك والرياضيات ونشر العلم والفكر، فى الوقت الذى كانت تتناحر فيه حولها، جماعات الديانة المسيحية واليهودية والوثنية المتطرفة. الفيلم وَثّق هذه الوقائع التى انتهت بقتل "هيباتيا" والتمثيل بجسدها بوحشية، ولكنه رغم كل القهر والعنصرية والنبذ الذى كان مطالب بتوصيفهم، صمم أن يضفى على سرده طابعا شعوريا متفردا، لم ينفصل أبدا عن غايات السيناريو، ولكنه ببساطة دعمها وقواها. فرسم شخصية "ديفوس" عبد "هيباتيا" وذراعها الأيمن، الذى أحبها وكأنه يملك أكثر من قلب، يقف ليراقبها وهى تُدَرِس، ويهلع حينما يفكر رجل ما من علية القوم أن يغازلها ويتقرب منها، ومع انتشار الديانة المسيحية، يرق قلب "ديفوس" فيعتنقها سرا، وحينما تعلم "هيباتيا" وعلى الرغم من لا ديانتها، ووثنية والدها، تدعم "ديفوس" وتدافع عنه.

"هيباتيا" لم تحب "ديفوس" ولكنها آخته بإخلاص، وحنت عليه وكأنه من دمها، فى أويقات طفيفة كانت تجرحه بغير قصد، حينما تطالبه بعمله ك "عبد" وهو الذى يحمل هواها فى قلبه، وهذا بالضبط ما ألقى به فى حضن المسيح، الذى لا يعرف ولا يعترف بالعبودية، التى تفرق عمدا بينه وبين حبيبته "هيباتيا".

مع هذا الأساس الشعورى الدسم، وعلى امتداد التطورات التى تحدث فى الإسكندرية من توغل سيطرة الجماعة المسيحية، وخفوت القوى الرومانية، نجد انعكاسات كل هذا على العلاقة بين "هيباتيا" و"ديفوس"، وكيف كان التأسيس لهذه العلاقة، مصدرا مؤجلا لتفعيل بقية المفاهيم التى يبغى السيناريو توصيلها للمتفرج.


أربعة مشاهد حب خالصة ومُخَلّصة

المشهد الأول، وإثر تعلم "ديفوس" الصلاة المسيحية بنصف نهار، يطلب أحد من الأعيان يد "هيباتيا" علنا فى مراسم احتفالية عامة، وخلال المهلة الممنوحة لـ "هيباتيا" حتى تتخذ قرارها، يخر "ديفوس" على ركبتيه ليلا، فوق سطح القصر، رافعا وجهه للسماء، ومشبكا كفيه بتضرع، قائلا فى توسل وهو الذى يصلى لأول مرة " لا تدعها لغيرى يا الله، لا تدعها لغيرى يا الله، لا تدعها لغيرى يا الله....." يظل يردد هذه الجملة بنبرة طفولية بكائية لا تخلو من تحدى، يعيدها مرات ومرات طوال وكأنه يضع فيها كل الكلمات التى قد ينطقها فى عمره كله. وفى اليوم التالى، وحينما تُبدى "هيابتيا" رفضها لطلب الزواج، يهمس "ديفوس": "شكرا يا الله".

المشهد الثانى، وحين اقتحام الجماعات المسيحية المتطرفة لمكتبة الإسكندرية، بعد أمر من إمبراطور الإسكندرية بتمكين المسيحيون منها، وتراجع الوثنيون الرومان المسئولون عنها، ينضم "ديفوس" لجماعة المسيحيين التى تتفشى فى المكان حرقا وتدميرا، عندا فى "هيباتيا" التى نعتته وقتها بصفة "العبد" غير واعية، بينما كانت تلملم بهلع الكتب العلمية التراثية، التى تعى جيدا أن المسيحيون سيتلفونها، وتحثه لأن يعمل معها على هذا بسرعة. وحينما يعود إلى "هيباتيا" فى منزلها ليلا، يدخل عليها رافعا سيفه، راغبا فى أن يطفأ شوقه ورغبته فيها بالقوة، متعكزا على سلطته التى اعتلتها، بعد انضمامه للقوة المسيحية التى فاقت قدرتها هى وذويها، فلا تقاومه، وتُسلم له جسدها باردا ميتا، ليبكى بعدها بدقائق تحت قدميها، وهو متيقنا أنه حتى فى عز قدرته عاجزا عن أخذها. وأن اعتناقه لمذهبه الجديد، لم يكن سببا كافيا إلا لفراقهما لا لقربهما.

المشهد الثالت، وفى أوج الصراع بين جماعات المسيحية واليهودية، تأتى مذبحة مفجعة يرتكبها المسيحيون عيانا بيانا فى السوق والشوارع فى حق اليهود، فيقتلونهم هم ونسائهم وأطفالهم وكأنهم يبيدونهم من على وجه الأرض كلها، وليست الأسكندرية فقط. وحينما تتمشى "هيباتيا" مفزوعة ومقهورة من هذه المشاهد التى تشهدها، يرمقها "ديفوس" الذى يشترك فى هذه الفعلة الشنعاء، فما إن يراها، حتى يُخبأ وجهه وسيفه الغارق بالدماء مرتعدا مُشَتتَا، لكى لا تراه تلك الأخت والحبيبة التى كان يتعلم تحت قدميها التسامح والرقى قديما.

المشهد الرابع، وهو الذروة المشتهاه والآتية فى محلها تماما بخصوص علاقة "ديفوس" و"هيباتيا". وهو أيضا الآية التى تؤكد على ضرورة خلق شخصية "ديفوس" من الأساس بين وقائع "هيباتيا" الحقيقية، وتُبيّن كيف ساهمت هذه الشخصية فى خدمة الحالة التى أراد المخرج "أليخاندرو أمينابار" أن يقص علينا بها حكاية "هيباتيا".
"هيباتيا" فى الواقع ماتت على يد جماعة المسحيين المتطرفة، بعد تحريض أسقفهم عليها، واتهامه إياها بالشعوذة والضرر بالدين، فاجتمعوا وعزموا على قتلها، التقطوها من عربتها بينما كانت فى الشارع، وجردوها من ملابسها، وسحلوها سحلا حتى تقطع جلدها، ومن ثم أزالوا البقية الباقية منه بالأصداف إمعانا فى تعذيبها، ثم أحرقوها حية. 

المخرج "اليخاندرو أمينابار" قرر أن يتجاهل كل هذا الوجع الذى وثقه التاريخ بخصوص موت "هيباتيا" ومنحها موات أكثر هدوءا، معتمدا فى هذا على شخصية "ديفوس" لتكتمل أيضا ملحمة حكايته مع "هيباتيا" بصيغة شاعرية تليق بمشاعره الجميلة التى حملها صوبها، والتى لم تتشوش بتغير معتقده، وبانغماس يده فى الدماء.
ولهذا، فنرى فى الفيلم، أنه حينما تقبض المسيحيون على "هيباتيا"، وجردوها من ملابسها، عاقدين النية على تعذيبها حتى الموت، ظهر "ديفوس" وادعى أنه سيظل معها، حتى يتحضروا هم لتعذيبها، وبينما كان الجميع بالخارج، تبادل "ديفوس" و"هيباتيا" النظرات الحاسمة، ومن ثم وضع "ديفوس" كفه على فم "هيبتايا" خانقا أنفاسها، لافا علي عريها ذراعيه، ومحتضنا موتها فى حضنه، ليمنحها حقها البسيط فى أن تموت بكرامة، وفوق قلب من أحبها، وكأنها لم تكن إلا له كما دعا الله قبلا.

آخر كلمتين

_فيلم "agora" خير نموذج لتحقيق معادلة صناعة المشاعر، واحترامها، والوعى بقيمتها فى خدمة مفاهيم الحياة الأوسع سواء على المستوى الدينى أو الفكرى أو الاقتصادى أو السياسى. هو الكلمة الحية للمعنى الذى أقصد الحديث عنه من البداية، لهذا اخترته دون غيره.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...