_نُشر فى جريدة الصباح_
ثمة مخرجون يتبعون طريقة "الصيت ولا الغنى"
لأنهم من الأساس يفتقرون إلى ما يسعهم تقديمه للفت نظر الجمهور والوسط السينمائى، وثمة
مخرجون آخرون يتبعون نفس النهج، ولكن ليضيفوا إلى إنتاجهم شىء من الرواج، على الرغم
من أن هذا الإنتاج يمكن البتّ في فنيته مدحا أو ذما (لأنه يستدعى ويستحق). "محمد
دياب" من مخرجين الفئة الثانية، ما يقدمه ليس دوما بالجيد، ولا أبدا بالسىء، ولكنه
منتج فنى يتحمل الحكم، وله حق فى أن تتروى عليه وتفنده بوجهة نظر عادلة، ومتنصلة من
أى سوابق تخص طبيعة شخصية المخرج، أو الأقاويل التى تدور حول إنتاجه.
ما يفعله "محمد دياب" لرفع أسهم منتجه
بعيدا عن أرض معركته الإخراجية خلف الكاميرا، يعد تصرفا غبيا وخبيثا وشديد البؤس، هذا
الدأب فى رفع راية الإصلاح والكلام باسمها طوال الوقت، أو الشكاوى من الضغط المُمارَس
على أفلامه، وغيرها وغيرها من الأساليب الرخيصة، التى لن تتعدى هذا التوصيف أبدا، ستظل
ملتصقه بشخصه حتى الممات، ولن يغفرها له أى جيد قد نعترف به فى إنتاجه السينمائى، على
مدار الوقت الذى سيستمر فيه.
ولكن فى المقابل، من غير العادل أن يحكم أحدهم على
المنتج الفنى الواحد لـ "محمد دياب" وفقا لا نطباعه العام المختلط ما بين
رفضه لشخص "محمد دياب" ونبذه لعمل سابق ردىء قدمه الأخير من قبل. هذا الاستسهال
فى إبداء رأى حول عمل فنى، لا يليق أبدا بقداسة ونقاوة معنى الفن، نعم، إن تكوين وجهة
نظر ما عن عمل فنى، لابد وأن تكون على نفس القدر من الصفاء الذى ارتبط بوجود الفن من
الأساس.
ولهذا، سأتناول فى هذا المقال مناقشة فيلم
"اشتباك" وهو الفيلم الأخير لـ "محمد دياب"، على مستوى فنى بحت،
بعيدا عن اللغط الدائر بشأنه، وبقلم متجرد من تحرجى ومآخذى الكُثر على شخص "محمد
دياب"، ومنهجه الدائم والمخزى فى التعامل مع منتجه السينيمائى.
الفكرة
فى سيارة ترحيلات تابعة للداخلية، وفى التوقيت الذى
يلى أحداث 30 يونيو، ينحشر بمصادفة درامية مجموعة من المتظاهرين المنتمين لفصيلين سياسيين
متضادين، الأول جماعة الإخوان المسلمين التى تنادى برجوع الرئيس مرسى واستعادة السلطة،
والثانى عدد من المواطنين المؤيدين لحكم المجلس العسكرى، والداعمين إياه فى معركته
الأخيرة مع الإخوان.
نحن بصدد دراما المكان الواحد، إلى جانب الابتكار
فى مُحميّات الصراع الذى من المفترض أن تقوم عليه الدارما. فكرة النبذ المطلق القائم
على معتقد سياسى، وهو ما لم يتطرق له أحد من قبل بهذا التجسيد الصريح، والمختلف، والمحتفظ
بمسمياته. والذى سيقودنا بالنهاية إلى مفهوم أعم وأشمل على المستوى الإنسانى.
فكرة فيلم "اشتباك" فكرة متفردة، ليست
لأنها تنتمى إلى دراما المكان الواحد، وإنما لحصر هذه الدراما فيما يخص معتقدات سياسية
حية إلى هذه الدرجة، وبعيدة عن التنميط العام فى التناول السياسى الذى يخص الصراع بين
الثوار والسُلطة، ويلتف حول فكرة البطولة ودرجات الانتماء وغيرها من الكليشيهات التى
اعتدنا عليها فى تناول الفن لموضوع سياسى.
أما عن مدى توفيق الفيلم فى إصابة مرمى فكرته، والتعامل مع أبعادها، والبلوغ بها حافة آمنة على المستوى السينيمائى الفعلى، سنتحدث فى السطور القادمة.
(بداية أكثر من جيدة)
لابد وأن نشيد مبدئيا بالمؤديات التى اختقلها السيناريو،
ليبدأ عقدته الدرامية الأساسية، وهى اجتماع هاتان المجموعتان المتناحرتان من الشعب
المصرى فى مكان واحد محسوب على الداخلية، على الرغم من عدم توقع وجود أى من المتظاهرين
المؤيدين للداخلية والجيش فى مثل هذا اليوم بأى سيارة ترحيلات.
الإنسيابية التى حقق بها السيناريو غرضه، ليجمع
الفصيلين فى مكان واحد ستُحسب له، حيث حرص أولا على وضع اثنين من الصحفيين الذين لا
يكِنون ولاءا بعينه لأى معتنق سياسى، ومن ثم استخدمهم فى جذب عدد من الأفراد المارقين
فى مظاهرة مؤيِدة للداخلية، على سبيل استغاثة الطرف الأول بالثانى، وبحوار تلقائى بسيط
حدث احتكاك طفيف بين الطرفين، دفع أفراد المظاهرة لالقلاء الطوب على سيارة الترحيلات،
مما استوجب وضعهم داخل العربة، على اعتبار أنهم إخوان يهاجمون الداخلية.
(فقر مفارقات وحوار)
الدراما القوية، مثل العفريت إن استدعيتها لابد
وأن تكن على قدرها. ومشكلة فيلم "اشتباك" أنه مهد لهذا النوع من الصراع الدرامى
المكثف، ولكنه لم يكن أبدا على قدره بنسبة مُشبعة، لعدة أسباب، منهم الفقر الواضح فى
المفارقات الدرامية التى حدثت داخل السيارة، والروابط النفسية والحدثية التى جمعت الأشخاص
المنحشرين بين جدرانها. كل ما حدث كان هشا، خفيفا كالنسمة، وطبيعة هذه الصيغة الدرامية
لا تليق بالموضوع الذى اختاره "دياب" ومهد له جيدا، صحيح أنه لم يبتذل حدث
أو يفتعله، ولكنه أيضا لم يُكثفه وينحته فى ذاكرتك.
بمجرد دخول مجموعة المتظاهرين المؤيدين بالخطأ، ومن بعدهم المتظاهرين المنتمين للإخوان يحدث كل المتوقع، من حوار ومجادلات، وأفكار قريبة لخلق موقف دارمى صغير، يستتببعه الأكبر منه. كل ما يحدث ببال المتفرج سيراه تقريبا، وهذا دليل آخر على ضعف التعامل مع الفكرة. كل ما حدث داخل السيارة من وقتها، كان مسليا، ممتعا، لا غبار علي كونه جيد على مستوى زمنى قريب، ولكن بحساب حقيقة جودته على مستوى زمنى أبعد، ستكون النتيجة فى غير صالحه بالتأكيد. كل ما حدث داخل السيارة، كان يُمهد للنهاية أكثر منه مرتكزا على وضع قائم، ولذلك ومن حين لآخر، على الرغم من استمتاعك الوقتى، ستشعر ببعض ملل وانتظار، وهى المشاعر المرفوضة تماما فى مثل هذا النوع الدرامى، الذى يتحداك لتظل متورطا فى لحظته الآنية وكفى، ومن خلال تورطه هو ذاته فى اتقانها والعناية بها، يجعلها أيقونة منحوتة فى قلبك ووجدانك لوقت طويل، تُشبعك تفاصيلها بغض الطرف عن نهايتها، وبنسيان حتمية مجىء هذه النهاية على أية حال.
سأكون فى صف التنوع الذى حرص السيناريو عليه بخصوص
الشخصيات، لسبب واحد، لأنه ساهم فى استدعاء تفاصيل مُلهمة وقوية، مثل تلك اللقطة التى
ينخلع فيها خمار الفتاة الإخوانية المتحفظة، ويطل من ورائه شعرها مسترسلا، ليلفت انتباه
الشاب الارستقراطى المؤيد للحكم العسكرى. تماما مثلما حدث فى لقطة أخرى، اختبىء فيها
مراهقا بسيطا من قسوة الواقع الصاخب من حوله، خلف أغنية مهرجان "هاتى حتة يابت"
التى وضعها على أذنه وهى تتسرسب بضعف من سماعة هاتفه المحمول الذى لم يدرك أحد بوجوده
معه. الفكرة هنا، تعدت منطقة الاختلاف السياسى وأضافت تعبيرا فى البُعد الإنسانى الذى
تفرضه علينا ظروف العيش عموما.
ما لم يكن مقبولا حول حقيقة هذه الشخصيات جميعا،
تسامحها المفاجىء فى أوقات معينة من التجمع، لدرجة تناسى التعصبات الدينية والسياسية
التى تبعد بينهم. وقد حدث هذا أكثر من مرة، لدرجة تصل إلى حد المزاح وتبادل الإيفيهات.
فإن كنت قررت أن تناقش هذه المسألة بواقعية، عليك ألا تلجأ لفانتازية مماثلة حالمة
مثل تلك. هؤلاء الناس فى حقيقة الأمر يتعادون كقضيبى قطر، لن تجمعهم أبدا لحظات مماثلة
مهما بلغت صعوبة الموقف ووحشته. فواقع الأمر، يقول أن ثمة مشاحنات دماء تحدث بين أفراد
الأسرة الواحدة على سفرة طعام بسبب اختلاف الفكرة السياسية، فما بالك بوجود فصيل بعينه
من الإخوان، يتحدث جهرة أمام مؤيدين لسلطة العسكر حول بطاقة العضوية، ومصاريف الاشتراك،
ويُنَظم نفسه ليقف فى مكان بعيد عن مكان البقية، هل ثمة مواطن أقحم نفسه بالنزول فى
مظاهرة مؤيدة للعسكر ولافظة للإخوان أن يغفل عن مثل هذا التعامل الفظ لإخوانى شاءت
الظروف أن يجتمع به فى سيارة ترحيلات!
مثل هذه السقطات، التى امتدت لتشمل الحوار والشخصيات
والمواقف، لم تشى إلا بأن سيناريو الفيلم، اختار أن يحقق لنا معادلة المتعة، ليبلِغنا
فِكرة ليس أكثر ولا أقل. بل حدث الأسوأ، أنه على مدار الفيلم، لم يدع السناريو خيارا
حرا لعمل أدمغتنا فى فهم الشخصيات وواقعها، بل فرضها علينا فرضا، وصنعها بكرتونية لم
تهدأ عن التعويذ فى أذنيك بجملة "شوف الناس دى بفطرتها طيبة ازاى، أى إن كان انتمائها،
شوف احنا بطبعنا متسامحين ازاى". والحقيقة، وإن أردت يا "دياب" أن تُمثل
واقعا حيا، كان لابد لك أن تنتزع فكرة التسامح نزعا من أوراق السيناريو الذى كتبته،
والتى فلقتنا بإشارتك إليها فى كل مناطق الحوار والتعامل بين الشخصيات، لأنه ببساطة
أنت ذاتك كنت مدركا لحالمية هذه الفكرة، حينما صغت النهاية القاسية لراكبى السيارة،
وقت انسحال بعض منهم على يد أفراد متعصبين، بينما علق البعض الآخر بين جدران السيارة
بعد أن أغلقوا بابها عليهم، خوفا من مصير مماثل.
(لأ إحنا بفطرتنا لا متسامحين ولا طيبين يا دياب)
آخر كلمتين
_ الجميل فى هذا السيناريو، أنه لم ينتم لجماعة
على حساب الأخرى، ولو حتى بلؤم.
_ التمثيل من حسنات الفيلم الجلية، الكل اجتهد،
والكل أوجد حضوره. فالأداء بحق منح هذا الفيلم حضورا وقربا إلى القلب، ساهم فى حالة
المتعة التى انوجدت أثناء مشاهدته.
_ الفيلم بصريا وإخراجيا فوق الجيد، ولكن الجودة
كلها تقع تحت خانة القدرة (ماديا)، أكثر من الفكرة. فالأفكار البصرية المُلهمة على
مدار صورة الفيلم بأكملها، قليلة لدرجة النُدرة.
تعليقات
إرسال تعليق