التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"ملاك وشيطان" ..نظرية التطهر بالشر

_نُشر فى مجلة أبيض وإسود_


فى الغالب، حينما تلجأ الأعمال الفنية عموما للإستعانة بموهبة طفل، تقوم بحصره فى خانتين للمعالجة. الأولى، تعتبره فيها كائنا هامشيا فى الحياة اليومية للأبطال، تقتصر وجوديته على طاعة الأوامر، النوم مبكرا، وشرب اللبن. والثانية تُسلط عليه الأضواء بإعتباره نجم له من الفقه والموهبة، ما يستحق أن يمتلأ به مضمون العمل الفنى بأكمله. فيضحى عملا مفرغا من خامته الدرامية، معتمدا تمام الإعتماد على حضور الطفل، وقدرته على خطف الألباب. وعلى قدر نقوصات هذا التعاطى الأخير، إلا أنه أهون وأنبل من أشكال المتاجرة العلنية التى باتت تُحمل الأطفال فوق طاقتها العُمرية، تُجرعها كلمات الكِبار وتبوح لهم التعدى والسُباب والشجار، بإسم التغنج ولفت الأنظار. فيضحى الطِفل مسخ، فاقدا لعفويته ولحقه فى التخبط فى قلة حيلة سنوات عمره القليلة قبل الكِبر.

حينما عاودت مشاهدة فيلم ملاك وشيطان 1960 لكمال الشيخ، تذكرت الفيلم الإيطالى الشهير cinema paradiso  1988، فكما كانت "سوسن" فى ملاك وشيطان، كان "توتو" فى سينما براديسو. وقف كل من الطفلين فى منطقة محايدة لا تمّس تمحور العقدة الدرامية، رغم كل ما منحاه من إطلالة مميزة، ظلت فى ذاكرة المُشاهد، ولكن الأهم أنها بقيت فى ذاكرة الفيلم نفسه. بقيت عند الدور المطلوب منها فى تقدم الحدث، ولم تأتى على الأخضر واليابس، فتُفقد المحاكاة الأصلية هويتها، وتسلبها قيمتها. فبقى "توتو" فى الفيلم الإيطالى،  بكل مناغشاته ومناوشاته هو الطفل الذى يعشق السينما. وبقيت "سوسن" فى ملاك وشيطان بكل فصاحتها وعذوبتها وروحها المتفصدة حياة هى الرمز، النار الحمأة التى تطبخ نفسيات الشخصيات دون أن تأكلها. كلا من الطفلين له وجوده المشروط، وقيمته المُذيّلة بما يصب فى مصلحة حبكة الفيلم. فأجاد العمل الفنى بهما، ومعهما، ولكنه دونهما يظل متمسكا بكيانه.

الفكرة
فكرة رشدى أباظة، فكرة قيمة شديدة الغواية. وعلى قدر تفردها، إلا أنها تحوى فرصة عظيمة للإبتذال، والإعتماد على قوام درامى بكائى مُدعى. وهنا تكمن قيمة سيناريو فيلم ملاك وشيطان المميز، والذى اجتهد ليخرج من هذا المأزق (ومن قبله مأزق الإعتماد على طفلة خفيفة الروح مثل إيمان). فما أسهل أن تغرق قصة تحول الرجل القاسى الإجرامى لصورة نقيضة بعدما يضطر لمعايشة طفلة إلى قالب صعبانى، يشوبه شىء من المغالاة واللاتصديق. ولكن سيناريو ملاك وشيطان كان أذكى من أن تبتلعه حيلة الفكرة وتعدد مستوياتها. وإنما بقى متيقظا لها. روضها لطوع بنانه، وخلق فيها كثير من الحقيقية سواء فى إنطلاق الحدث، تسلسله، وخاتمته. كل شىء كان متحفز لإقناع المتفرج، ومخاطبة عقله قبل عواطفه. على عكس طبيعة التناولات المعتادة لأفكار مماثلة.

السيناريو والبناء
إختار السيناريو (الذى كتبه صبرى عزت) أن يؤسس لكل التفاصيل بمنطقية وإختلاف من البداية. فبدلا من أن يُقدم أبو الطفلة فى هيئة الثرى صاحب الأملاك (وهى أقرب فكرة تطرأ على الذهن، والأكثر إعتيادية للظهور فى أفلام السيتنيات)، فضل أن يضعه فى خانة الرجل التاجر، الجواهرجى الذى يأتى بأمواله من جهة محددة، والتى وإن دلت تدل على شيئين، عدم إحتكامه على أموال محيطية هائلة، كما يمكننا أن نتصور فى حالة إن كان تم تجهيل مصدر أموال الأب. إضافة إلى تدعيم منطق اللصوص الذين يقتحمون المنزل من الأساس بحثا عن المجوهرات، بعيدا عن الصورة الساذجة التى قد نمرقها فى أفلام أخرى، عن لصوص يجازفون لدخول أحد القصور فى وجود ساكنيها دون هدف محدد سوى التخمين بأنهم سيتعثرون بما له قيمة ومنال.

التمهيد منذ البداية فى المشاهد الأولى عن تعلق سوسن بقطتها، وركضها خلفها فى أى وقت وتحت أى ظروف. تلك القطة التى لن ينتهى توظيف خيالاتها عن حد كونها عذرا مقنعا لإختطاف سوسن بالخطأ، بينما سيتم الإعتماد عليها فيما بعد، حينما تقدم خيرية للفتاة قطة أخرى كتعويض عن فقدها لقطتها وغربتها عن منزلها، وبالتالى وجد السيناريو سببا مقنعا لإخفاق أول محاولة من المحاولات الجادة التى قام بها عزت (رشدى أباظة) بإغتيال سوسن. فتموت القطة بدلا من سوسن حينما تشرب اللبن المسمم الذى قدمه لها عزت.

خلق هذه الشبكة المتماسكة بين أفراد العصابة التى تتورط بالمصادفة فى خطف سوسن، وبين تكوين عزت وخيرية والذى سينتهى عنده مقر مكوث سوسن فى النهاية. هذه الصلة المُعدة بعفوية والمحققة للمتفرج قدر من الرضا ذهنيا، على الرغم من الإكليشيهات المعتادة بخصوص المكان الذى يتواجد فيه المعلم شفة (زكى رستم)، والمشهد الأول لظهور عزت وهو يتشابك مع أحدهم بينما كان يقامره فيرديه قتيلا. 

التركيز على إبراز الصراع النفسى داخل صدر عزت، بإعتباره هو نقطة الإنطلاقة التى سيتمحور حولها كل شىء. وبناءا عليه، كل ما جاور عزت (سواء شخص أو موقف)، ما كان إلا مجرد يد محركة سواء بالسلب أو الإيجاب فى هذه الأزمة النفسية الفارقة فى حياته. الضغط الوعيدى من العصابة، مع بعض إغواءها بالمال لبقايا الشخصية الأنانية التى تحتله، يجذبانه صوب المنطقة الأقرب والأسهل (قتل سوسن والإستفادة بالأموال). بينما تبقى ملائكية خيرية وحيوية سوسن هى الطاقة الأكبر التى تتجرع ضعف العمل لتُعلى من صوت عزت الآخر، الذى نجح منذ زمن فى إسكاته، بينما يراه يعود إليه اليوم ويؤرق صدره من جديد. بالطبع، فعزت الذى ظهر بنهاية الفيلم، لم يخلق من العدم، بينما استند إلى أصل راسخ فى نفس الشخصية، السيناريو أعد لها بحرفية وصمت ومواربة تليق بفكر صانع فيلم واعى.

فصاحة سوسن وأجواء الونس التى خلقتها فى بيت عزت وخيرية، لم تكن مجرد تباهى بنباهة الطفلة، وإنما كانت مقدمات لنتيجة أراد السيناريو أن يصل إليها بحذق، ليخلق متاهته الأخيرة والأهم. وهى تصميم المعلم شفة على قتل سوسن التى أسمت خيرية ب"طنط"، وعزت "بأونكل"، وتذكرت قسمه بـ"سيده المنصورى" وباتت تحلفه به طوال الوقت. هو سبب أدعى ليجعل المتفرج ذاته يُخمن أن هذه الطفلة خطر. ليُثبت السيناريو هذه الإنسيابية فى انجراف الحدث لمناطق مضطربة عصية على الإفتعال، بعيدة عن هوة التدنى.

الشخصيات
كما قلت فإن عزت هو الشخصية الأبرز، الشخصية التى  تحمل تطور الحدث فوق أكتافها، شخصية تمتلأ عن آخرها بعدد من التعقيدات والخفايا، التى لمح السيناريو عنها دون الإفصاح الكامل. ففى ظهور عزت الأول، بدا وكإنه رجلا فظا غليظا بلا قلب. وأداء رشدى أباظة كان قادرا على ترسيب مثل هذا الإنطباع فى قلب المتفرج وذهنه. ولكن من بين هذه الحِدة، طفى على سطح المياه بعض الرتوش المغايرة لحركة التيار. 

فمثلا حينما تتأمل قسمات عزت وقتما وقعت عينه على سوسن للوهلة الأولى. وتُراقب تورعه تلفيق كذبة غير حقيقة حول الحرامية الذين ينتظرون أمام البيت، مع نفيه لها كونه غير المسئول عن إختطافها، حتى وإن كان حديثه مجرد حيلة دنئية، وحتى وإن كان يضمر فى نفسه للفتاة الكثير من اللامبالاة والبرود الذى ظهر فيما بعد.
 إلا أن أقرب حلول عزت، فى لحظة لقاءه الأولى بسوسن هو سعيه لطمأنتها، هذا السعى الذى يشبه قسماته المصدومة بعض الشىء لرؤيتها، وكأن فى داخله شيئا تنبه بعنف من وقتها. عزت شخصية تحارب جانبها النقى بضراوة، راكنة إلى شطرها الإجرامى الميت لأنه الأكثر راحة. هى شخصية تتطهر بشرِها، تسكن إليه. فنراها متشبثة به للنهاية. فعلى الرغم من تجلى بعض الإندماج بينه وبين سوسن، وفوق كل من رجاءات خيرية، يفضل عزت أن ينفذ كلمات المعلم  أبو شفة بقتل سوسن، وإصرار السيناريو على عدم تراجع عزت كان فى غاية الذكاء، حيث لم يلجأ فى إخفاقات محاولات قتل سوسن إلا إلى ترتيبات قدرية عقلانية وناضجة.لأن بالفعل تركيبة عزت، لم تكن لتقبل بأية مساومة على حقه فى الراحة، عن طريق مغالاته فى نزع بعض من الشعور الإنسانى الذى بدأ يتملكه. فصحوة عزت النهائية، كانت تحتاج إلى مثل هذا الوقعة التى هشمت ساقه، وبينته ضئيل أمام هذه الصغيرة التى رغم زعقاته وإطلاقه لها حرة، عادت وآثرت أن تجلب له المساعدة.


شخصية المعلم أبو شفة، هذه الشخصية التى يأتى أهميتها من إختيار زكى رستم ليلعبها. فوجد لها مكانا بمنطقة وسطية محنكة ما بين خفة الظل والخبث. ترى فى عينيه الغِل والقساوة، وفى الوقت ذاته يُضحكك بعفويته القاتلة فى ذات اللقطة. مثل هذا التناول الذى قد يبدو سهل المنال لشخصية شريرة متأصلة، هو الأقرب للحقيقة والتوفيق، فهذا الشرير فى النهاية بشرى له سماته.

علاقة خيرية بعزت، من المناطق المظلمة التى لم يطأها السيناريو ولكنه أشار إليها بقوة. مبدئيا هذا الإتقان فى رسم المشاعر التى تجمعهما ساهم فى دعم تعقيدات شخصية عزت، والتدليل على منبتها الأصيل. فبقاء خيريه معه كان من العلامات المحسوسة على الجانب النقى فى داخله، رغم تصرفاته المنافية. لم يورط السيناريو نفسه بالخوض فى تفاصيل العلاقة، ولكنه إكتفى بلفت النظر إلى محاولات خيرية المتكررة صوب الفرار والتى تنتهى بالإخفاق. وحرص على أن يضع هذه القبلة الشبقية الشغوفة بينهما، لتحكى عن الكثير مما لن يُفسر حول طبيعة علاقتهما الخاصة سواء عاطفيا وجنسيا.

آخر كلمتين
_الفيلم افتقر إلى موسيقى تخصه وحده، على مبعدة من الموسيقى التى لجأ إليها وقد تم استخدامها فى معظم أفلان الفترة.

_إصرار كمال الشيخ، على أن تظل الطفلة فى ثوبها الأبيض الفضفاض لتبدو فى الصورة الذهنية اللاإرادية، وبعيدا عن التحريض الساذج لإسم الفيلم كالملاك. بدا رمزا موفقا وصادقا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...