التخطي إلى المحتوى الرئيسي

«It» .. ملحمة رعب عن الخوف والوحدة

_نُشر في موقع إضاءات_


«الطفل الوحيد سيعرف دومًا حقيقة أن وحوشه تستطيع مهاجمته في أي وقت، في أي مكان، وبدون أي مجهود؛ لأنه فى نظرهم ضعيف، ليس ثمة شيء يحميه أو يدعمه بالرعاية، على عكس ما كان يعتقده دومًا عن إحساس الأمان الذي لابد وأن يشمله لأنه طفل».يقولها الصغير «ستانلي» لبقية أصحابه، الوحيدين الخائفين، والمكتوبين بقلم «ستيفن كينج» لحمًا ودمًا، متماهين مع أنفسهم، ومع حالاتهم النفسية ومع حواديت خوفهم الشخصية التي ستمتزج لتخلق أسطورة واحدة اسمها «الشيء».هل هذا «الشيء» أكثر رعبًا من واقعهم، أم أنه مجرد انعكاس له، أم أنه يتغذى على ما فيه من قبح ومن ثم يتجشؤه عليهم في صورة كيان خرافي يأكل أجسادهم، بعدما سبق له التمكن من أرواحهم؟.هذه النسخة من فيلم «It» نموذج فريد جدًا لصنع فيلم رعب ذي خامة درامية قيمة جدًا، تُكمِلها رؤية بصرية شديدة الوعي بكل تفاصيلها، رؤية مرهفة ودقيقة وتعرف أيضًا من أين تُؤكل كتف المتعة.

الخاسرون المجتمعون على الحب

وجه التميز الأول في نسخة 2017 من فيلم «It» هو رواية «ستيفن كينج»، تلك الكتابة الفنية جدًا، والتي تتفهم ضرورة خلق الشخصيات وعوالمها، وتثبيت قدم الرعب على مساحة درامية دسمة، يتلاقى فيها عدد من الأطفال المضطهدين في مدرستهم ومنازلهم، الممتلئين قهرًا والمتجرعين عنفًا، والمُلقبين من الجميع بـ«الخاسرين».من يعتدي عليها والدها جنسيًا، ومن تُوهِمه والدته بأنه مريض يستوجب تَجَرُع الأدوية كل ساعة كقطع الحلوى، من يُتخِمه جسده ويحجب عنه رؤية الآخرين لذاته الفريدة، ومن يحيا متقوقعًا في مأساة فقد أخيه الصغير ولا يأبى تجاوز الأمر، …إلخ.وفي القرية الصغيرة التي يحيا فيها الصغار، الكل يَضِل، الكِبار ينشغلون عن أطفالهم، فحتى الطيب منهم يُخَلِف أطفاله واء ظهره، لا يُسايرهم، ولا يجاري ما في عقولهم، وبالتالي ينعزل عن مخاوفهم، وآلامهم.

 ومن هنا يتخيل ستيفن كينج أن تراكمات كل هذه الفوضى النفسية تخلق في قرية «ديري» شيئًا شريرًا، أكولاً، يظهر كل 27 عامًا، ليملأ معدته وطاقاته وقدراته من دم الأطفال وخوفهم، ومن ثم يعاود مبيته حتى صحوته التالية. يتهيأ لكل طفل على حدة، يتجسد له فى صورة مخاوفه الشخصية لكي يتغلب عليه، يتخذ شكل الكابوس الذي يطارد كل طفل، على الرغم من مظهره الثابت الذي يعود إليه فى النهاية، مظهر المُهرِج، وكأنه يسخر من هؤلاء المساكين، ويضرب لهم أيقونه بهجتهم الشائعة ويحولها إلى جحيم.سيناريو الفيلم أجاد التعامل مع محتوى الرواية، نَسَج الحكاية كما ينبغي، ونقل الشخصيات بنحتتها الموجودة في سطور ستيفن كينج، لم يقتطع من الدراما لحساب الرعب، وكأنه يعي أن العناية بكيان الشخصيات وطبيعة العلاقات التي تربطهم، سيبلغ بالرعب أقصاه عندما يحين الوقت.


 فعندما أدرك الأطفال حقيقة هذا الشيء _وليس ماهيته، فماهيته ظلت مبهمة ترمز أكثر لكونها انعكاسًا لمخاوفهم_ وقرروا محاربته، هم في حقيقة الأمر واجهوا مخاوفهم، وتحرروا منها عند تلك النقطة التي عزموا فيها فقط على القتال.الملابسات التي دفعت فتاة لكي تنضم لصحبة مجموعة من الأولاد، محاكاة المشاعر التي ستنتج عن هذه الصُحبة على مستوى الفارق الجنسي، والدعم النفسي الذي سيقوي من شوكة المجموعة كاملة، ويدفعها إلى اتخاذ القرار بشجاعة في عدم الهروب، هذا إضافة لقوة أساس الكتابة المتين لمشاهد المواجهات بين الأطفال وشيئهم المخيف، كل هذه السلسلة الحكائية القيمة وإن عاد فضلها إلى ستيفن كينج فى النهاية إلا أن سيناريو الفيلم احتفظ إلى حد ما بروحه، ولم يبخس من قدر كتابتها شيئًا.

إن كان المهرج مرعبًا إذن فليكن وبشدة

في المشهد الافتتاحي لفيلم «It» نسخة 2017، يتحدث المُهرِج إلى «جورجي» الأخ الأصغر للبطل، والذي سيقتله المُهرج في آخر المشهد بعد أن ينتهي من وصلة محادثته بمرح وطرافة، وعلى الرغم من أن المهرج يضحك بملامح ودودة من حين لآخر بشكل لا يُخلو له قلبنا من الريبة، إلا أنه يسكت تمامًا متصنما أكثر من مرة بطريقة مُقبِضة، فنحن نعلم بالطبع أن المهرج كيان شرير رغمًا عن محاولته التقرب من جورجي، ولكن وقع هذه الوقفات الفجائية عمقت من هول إحساسنا بالشخصية والرهبة منها.وبلغت بنا حافة الصدمة حينما كشر المهرج فجأة عن العشرات من أسنانه الصغيرة الحادة والمتقافزة فوق بعضها وكأنه يملك أكثر من فك، ليأكل ذراع جورجى، ومن ثم يمد يده التي تطول وتطول لتمسك بالفتى المسكين بعدما حاول الزحف وهو ينزف بعيدًا، لتتبدى اللقطة بكادر فوقي ليد وحشية ممطوطة تسحب الفتى إلى مكانها في فتحة المجارير.

هنا عدد من الخيالات البصرية المُلفتة، والتي تجيد صناعة الرعب، وتعيد تدوير الخيال الكتابي الذي تركه لنا ستيفن كينج في روايته. ففي منطق الرعب، تفوز دومًا الحبكات التي يُمكِن تداولها في الواقع، والتي قد يُكتب قبل بداية سردها «مستوحى من قصة حقيقية».ولكن المُرعب لدينا الآن «مُهَرِج»، شيء لا كُنه له، أسطورة قد تكون سخيفة، أو حتى مُوَظفة بعناية في حدوتة درامية جيدة جدًا، لكنها ليست مرعبة بما فيه الكفاية. 


ولهذا لم يكتفِ المخرج «أندي موسشيتى» بأن يكون المُهرِج مرعبًا فقط، وإنما أصر أن يكون مرعبًا جدًا. تَصَور له طريقة في مشيته وهجومه، وفي الطريقة التي يبدأ فيها ظهوره الأول في كل المشاهد، فبدا هذا المُهرِج وكأنه المرادف البصري لكلمة «الخوف».هذا إلى جانب قدرة «موسشيتي» على إدارة مشاهد المواجهات بين المهرج والأطفال بالقدر المطلوب من الإزعاج وخنق الأنفاس، ليجعله هذا في مرتبة مثالية مُكمِلة لخيال ستيفن كينج الثري والذي تحدثت عنه في النصف الأول من المقال.

آندي موسشيتى أخرج فيلم «It» كمن قرأ رواية ستيفن كينج منذ طفولته، واستولد من دماغه تفاصيل تساوي تفاصيلها الأصلية، ومن ثم اختزنها كلها جماعًا لينفذها يومًا ما.

آخر كلمتين

موسيقى «بينجامين والفيش» جاءت مناسبة تمامًا لكل ما يحمله فيلم «It» من تقلبات شعورية؛ خوف، حب، اطمئنان، ورعب. ساوند تراك الفيلم غني ومُحتمِل بقوة لمزاجيات السيناريو الحادة. كما أن استعانة بنجامين بأصوات أطفال متزاحمة وهامسة وصارخة أحيانًا وتضفيرها بداخل الجُمل الموسيقية بدت متماشية مع رغبة المخرج أندي موسشيتي بخصوص تطويعها لابتكار طلات شديدة الرعب لهذا الشيء الذى يلبس ملابس المُهرِج.
ثمة بعض التعتيم الذى لم يتناغم مع كمالية الكتابة، بخصوص أهالي بعض الأطفال، فنجد ظهورًا وحيدًا لوالد «بيل»، ولا ظهور واحد لأهل «ريتشي»، ظهورًا باهتًا لأهل «ستانلي»، وهذا بالتأكيد موطن ضعف قوي لن يُحسم الأمر بشأنه بخصوص الرواية لمن لم يقرأها، ولكن الفيلم هو المسئول عنها كليًا الآن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...