الظل منطقة مهجورة أكثر من كونها محظورة، لا يمنحها أحدهم خطواته، اعتقادا منه أنها لن تهديه طريقا. الكل يتحاشاها لأنه تناساها، لا لمهابتها.
والسطور القادمة تحمل عدد من أفكار باتت رمادية بدلا من أن تكون ملغومة، رُدم فوقها تراب الخوف، فاستحالت إلى مقبرة منسية، اندفنت فى نفسها منذ أمد.
فى السابق، تحدث السلف شدا وجذبا عن كافة الدروب المؤدية إلى الله، تلك الدروب التى تحتمل التأويل، بوخوا البعض منها، ووبخوا الأخرى، مدحوا فى بعضها إلا قليلا، وذموا فى البعض الباقى إلا كثيرا. ولكنهم لم يقربوا سِكة الراهب ونسكه فى الرهبنة، العاكف الذى نذر نفسه وروحه لخالقه، فهو أفضل الخلق دوما عند الكل عاصى ومطيع، درويش ومعربد.
ولهذا قررت الكتابة عن كافة اللغط الذى يحفنى عندما أفكر فى هذا الدرب دونا عن غيره من الدروب التى تقود إلى الله، فبين ميلى صوبه فى فترات وتنكرى له فى أخرى، تلبدت دماغى بالأسئلة، وعديد من علامات الاستفهام، التى اُهديت إلى كتابتها حتى وإن لم تقدم أو تؤخر عند قارئها شيئا.
من لا يسأل قلبه سيُسأل
المعظم لم يجادل ذاته حول أفضلية الخيارين القادمين، بين ارتداء حلة الدنيا ورؤية السوءات فى بهجاتها، أم خلعها عن الروح ونفض البدن منها. أن يتوجه أحدهم بوجهه خالصا مُخَلَصَا، أم يدنو وظل العيش يخايل قلبه وقربه. السؤال لا يكمن الآن فى إيثار خيارا على الآخر، وإنما فى حقيقة الأمر من الأساس. هل ثمة وجود حقيقى للقرب المنزه؟ وإن كان موجودا فكيف تنتفى فيه المتعة بالدنيا؟ فإن كان الوصول مجردا، فكيف يحمل ما فيه من حيوية وحقيقية. كيف يؤدى طريق طرد الرغبات الراقية كذبابة ناقلة للأمراض إلى الله؟ التنصل من العوز الصادق، والتخلى عن توق الروح، واعتبار إياهما إثما، طالما لم يقعا تحت وصاية شرعية. وهل كل ما ينمو فى كنف الشرع جميل؟ يحمل من نضارة النفس وفواحها؟! هل على أحدهم أن ينأى بحاله عن تمنيه لشىء لن يبلغه بالحلال، لكى ينال آخر لا يألفه قلبه لمجرد كونه حلالا. من الذى أفتانا بمعنى الحلال وما يخالفه؟ من أوضح لنا قوانينه وأرسى ثوابته؟ من ذا الذى يطلع على قلب الله، ومن ثم يوافينا بما فيه بكل بجاحة ويقين. كل من فينا يعلم بما فى نفسه من شهوات، يعى جيدا بعلو وضآلة منزلة كل واحدة منها، هو العارف ما المنزه منها من بين الغارق فى التخمة المادية، إلا من غالط نفسه عمدا، وحسب أن لذاته المتوالية كرمات روحانية، فيها من الجمال الذى يحبه الله. بخلاف هذا، لا يحق لمخلوق أن يبت فى أمر أخيه، يحكم على فعلته ويسميها بما يحط من قدرها، ويصنفها تحت خانة الحرام، طالما لم يحكمها عقد أو فتوى.
الرهبنة خصيمة العقل
فى فيلم the nun's story تخفق الراهبة "لوك/أودرى هيبورن" بعد صراعها سنوات طوال مع نفسها فى أن تكون راهبة، بعد أن بدت أمام الجميع راهبة مخلصة بالفعل. تخرج من الدير وشعرها مطقطقا بالأبيض، بينما دخلته وهى صبية والسواد يُفحّمه من منبته لأطرافه. قررت أن تجتاز التجربة لآخرها، حتى دفعت فيها عمرها.
ارتضى عنها الكل إلا نفسها، كان ما يحول بينها وبين كونها الراهبة الصالحة التى ترتضيها هو كبريائها. فلكى تكون راهبا، ناذرا نفسك إلى الرب، لابد وأن تمتثل لأوامره، أو لأوامر من يتحدثون على لسانه باسم المصطلح المبهم الذى يسمى "التفسير". والراهبة "لوك" ارتضت بكل ما فيها بالإذعان لأوامر الرب، لكنها لم تكن إلا نصف مرتاحة للتخلى عن معظم كبريائها، عقلها، قدرتها على القرار، ونضارة خيار الرفض فى روحها رغما عنها، وعن السنوات الغير معدودة التى حاولت فيها ترويض هذا الخيار.
المعضلة ليست فى الاستطاعة على الطاعة الكاملة، وإنما في مدى الرضا عما تنتهى إليه هذه الطاعة! ولعلك إن أصغيت لإحساسك بالوجود الروحانى للراهبات اللاتى كن يدربن الراهبة "لوك" على التقوى، ستكتشف كم هن خاويات، جامدات، لا طعم لهن ولا رائحة، بينما هى فيهن تلمع كنجمة وحيدة فى ليل طويل سيتبعه الكثير من النهارات المضيئة. ولأنها أبقت على شعلتها، حتى وهى فى ظلمة الدير لعمر طويل، نجت بروحها وفرت فى النهاية، ولم تقوى على أن تجاريهن وتتحول لواحدة منهن.
"لوك" خرجت من الدير، فى مشهد أخير بديع، التقطتها فيه الكاميرا بعين محدقة ثابتة، بينما هى تقطع الممر الطويل ما بين باب الدير، والشارع الرئيسى، تمشى بخطوات منهكة غير منزوعة العند، لتقف ثانية فى مواجهة اختيار جديد بين جهة اليمين واليسار، لتستقر على اليمين، تختفى فيه وتغيب عنا، هى ومصيرها.
لماذا نميل دوما لتقديس الزهد، نؤثر صاحبه ونبجله، ننحاز لقتل رغباتنا المتخمة نقاوة وحقيقية، لنتسلق فوق أجسادها إلى الله. لقد خلقنا الله بقلوب العقل فيها يقظ، ومن حكم قلبه ملك عقله وروحه، استفتاء القلب جهاد فى حد ذاته، فهل إذا يتساوى من يفنى نفسه فى قياس مدى صدق رغباته ونقاوتها، بغض النظر عن النتيجة التى تتبع هذا من إقبال أو إدبار، بمن يوارى رغبته تحت التراب على الفور، هلعا منها ومن شبحها الذى سيقف بينه وبين صلواته إلى الله. هل يتساوى من يخاف الله ويحسم أمره سريعا بالهرب، مع من يموضع عشمه فى الله فى موضع نظره وهو يقف ويواجه ما يجيش بصدره.
إن افترضنا صحة أن الطريق إلى الرهبنة يطفأ الكثير من النفس المتقدة، إذا فنموذج مثل رابعة العدوية سيدحض كل مشروعية تساؤلاتنا. ف"رابعة" كما يعرف الجميع نظمت أكثر الكلمات حيوية وجمال فى حب الله، وقد خلفت ورائها تركة زخمة من الشعر الذى يتبارك به الصوفيون، ويعدوه واديا ذى زرع وماء يحجون إليه.
لا شك أن كلمات رابعة، كلمات لا تخرج إلا من روح حية، مشتعلة وكأنها النار ذات نفسها. ولكن منغلقات النفس لا يعلمها إلا الله، وصدق تشخيص الحالة لن يكون إلا فى زمانه ومعايشة صاحبه. وهذا لا يعنى أبدا التشكيك فى مدى صدق كتابة رابعة، ولكن اللبس سيظل مقترنا بالإشكالية الخاصة بتكوين إحساس رابعة الحقيقى، ماهية التجليات الروحانية الخاصة بعشقها الربانى، والهيئات الذهنية والروحانية المرتبطة به، فيم كانت تفكر؟ تتصور؟ وما هى متلازمة المشاعر اليومية التى تراودها بعيدا عن هذا الإحساس الصوفى المتجرد؟
الرغبة نصف الجمال
أن ترغب، يعنى أن تكون على قيد الحياة، لست محسوبا على العيش وحسب، فماذا لو تدربت الروح على الزهد، ما الذى يحدث إن تفادت نوع معين من الجمال حتى تتقى الشبهات، وتغتال الفتنة قبل منبتها، والمثل يقول إن قطعت لجسدك يدا وأنت عامدا ستفقد قدمك هى الأخرى حتى ولو سهوا، إذا فإن اعتدت إغماض عيون روحك، ستتعلم بالفطرة ألا ترى، وفى العمى نصف القبح وكل الراحة.
ولكن، ما المانع إن أبقينا على يقظتنا فى مراقبة الجمال دون أن نشتهيه، نعم، سيطرح العقل أمام هذه المعضلة إقتراح مماثل، ولكن أمام هذا الهاجس فى المنع، سنعود لذات الدائرة المفرغة، والمكسب المشروط، سنقطع ذات اليد التى ستقودنا إلى طريق القدم تارة أخرى.
آخر كلمتين
_السطور السابقة، أسئلة، عدة اندهاشات، وكثير من علامات التعجب، أينعم هى متاحة إضافية، ولكن وبضع المتاهات سلم للوصول.
تعليقات
إرسال تعليق