_نُشر فى جريدة الصباح_
الفكرة الجيدة تعد مشروع استثمار واعد، لا تقف خيارات نهايته عند
الربح والخسارة وكفى، وإنما تنحصر فى عدة خانات رمادية بينهما، قد تكون
"مسلية وعلى قدر بخس من الجودة" "جيدة جدا ولكنها منزوعة
المتعة" أو"ممتعة بشدة برغم نصف جودتها"، وما إلى ذلك من آلاف
الاحتمالات التى قد تجمع بين شعورين، أو تنفرد بتوصيف واحد.
وفيلم "من 30 سنة"
فيلم يحمل فكرة جيدة، أعد بشأنها السيناريست "أيمن بهجت قمر" خطة كتابة
مقبولة نوعا ما، ولكن مع تنفيذه الفعلى لها كتابيا فقدت الكثير من وزنها، بدت
خفيفة ومتعجلة، متورطة فى عدة مواضع ضعف. ولكنها ظلت غنية ومُحوّطة على ثقلها
وقيمتها فى مواضع أخرى. ومع كل هذا الخناق الخاص بالسيناريو، لم يخلو الأمر من
عناصر دعم خارجية خاصة بملابسات الإنتاج، واختيار الممثلين وخلافه، ارتفعت بتصنيف
هذا السيناريو، وأفسحت له مكانا رفيعا فى خانة القبول والمتعة، متجاوزا كل الزلات
والسقاطات.
وجه مشوش
"عمر/شريف منير"
يعود لعائلته ملياردير بعد هجرته التى كانت إلى لندن، يدعى أن النقود التى ورثها
بمصادفة شديدة من رجل أعمال أفنى وقته فى خدمته، ملعونة، لا تُوَرث أبدا لنسل من
يملكها، وتذهب لعائلات لا تمت له بصلة. يُعلِمَهُم أنه قرر التغلب على هذه اللعنة،
بتقسيم ثروته على كل منهم بالتساوى على حياة عينه، لأنه اكتشف مؤخرا عقمه. وما إن
يتشارك ماله معهم، يبدأ كل منهم فى الموت واحد تلو الآخر فى حوادث لا غبار عليها.
نحن بصدد فكرة مبتكرة نوعا
ما، موضوعها غاب عن الأفلام المصرية مؤخرا، على خلاف أفلام الإنتاج المصرى القديم
الذى كان يقدم مثل هذا الغموض فى أجواء أسرية مثل فيلم "أم رتيبة"، أو
"أنا الماضى" وغيرهم. ولكن السيناريو تعامل بكروكية مع بعض جوانب مهمة
بهذه الفكرة، فخانته طريقة خلق الشخصيات أحيانا، فبدا بعضها ملفقا، لا معنى له ولا
حياة فيه كشخصية "نهى/جميلة عوض" ابنة عم عمر، هى وأخيها
"سليم/محمد مهران". فهاتان الشخصيتان نشعر وكأن توظيفهما وسط الجميع كان
بهدف موتهما من البداية (كمالة عدد). هذا إضافة إلى المبالغة بشأن حدوتة كل منهما،
فلم يكن منطقيا أبدا كل هذا الاضطراب الذى يمر به "سليم" لمجرد أن زوجته
خانته مع زوج أخته، مع العلم أنها هى من أخبرته وطلبت منه الطلاق، كما أنه
وبالإشارة المتعمدة من السيناريو سبق وأن فعل نفس الشىء، حينما تزوجها بعد أن دفعها
لإنهاء علاقتها مع صديقه، أى أنه شخصية أقل حساسية من أن يوجعها الفراق أو الخيانة
بهذا الشكل. وبخصوص الحوار، فثمة مشاكل أكبر من تلك التى سبق ذكرها بشأن الشخصيات.
ثمة ايحاءات واضحة تضمنها هذا الحوار بسذاجة على مدار الفيلم، ففى مشهد ما يخبر
والد سليم ونهى فيه عمر بأن الأذى لو طال بشكل أو بآخر أبنائه، ليس بعيدا عليه
أبدا أن يقتل نفسه، مما يرسخ اعتقاد قوى فى نفوسنا كمتفرجين بموت نهى وسليم قريبا،
وانتحار والدهم بعدهم. وفى مشهد آخر، يؤكد أحدهم أن عمر ليس مسئولا عن موت نهى
وسليم، والذى حدث نتيجة لمصادفة قدرية، فيقول لعمر "وهو إنت يعنى اللى قولت
لسليم يسيب الغاز مفتوح، ماهم لقوا بصماته هو على البتوجاز"، هذا على الرغم
من أن المتفرج يعلم جيدا أن سليم هو آخر واحد قام بدخول المطبخ وإعداد الشاى
للجميع، بناءا على طلب من "عماد/أحمد السقا"، وكأن إثبات ماهو مُثبَت فى
الأساس ليس إلا نفيا صارخا، مما يوشى وبشدة أن موت سليم ونهى ليس قدريا، ولا ناتج
عن أية لعنات، وأن سليم ليس آخر من دلف إلى المطبخ فى تلك الليلة.
الفيلم بأكمله تتم روايته على لسان "عماد" باعتبار أن ما
يسرده لنا بالفصحى، هو نفس السطور التى تتضمنها روايته الأدبية التى قام بتأليفها.
شخصية "عماد" تم تقديمها فى السيناريو كشخصية مثقفة، تهتم بكتابة وتوثيق
شئون نخبوية وهذا ما ساهم فى تعطيل مبيعاتها ورواجها. فى المقابل، جاءت سطور رواية
عماد بدائية، وركيكة لدرجة لا توحى أبدا بأن من يكتبها سبق له الكتابة الأدبية
المتخصصة من قبل. إلا فى بعض مرات نادرة خرجت عن هذا السياق، وقدمت جملا قوية،
فيها من روح الأدب بحق.
حب "عماد" و"عمر" ل "حنان"، من محركات
أحداث السيناريو، لكنه فى المقابل جاء خبريا أكثر منه مفصلا شعوريا، نحن نعلم من
تصرفات كل من "عمر" و "عماد" أنهما قد وقعا فى حب "حنان".
لكننا لم نشعر بهذا، وخصوصا فى حالة "عماد" الذى بدا كعاشق متيم فى
نهاية الفيلم، فى حالة لم يتم طبخها جيدا على مداره.
وجه مُتقَن
ثمة شخصية رسمها "أيمن بهجت قمر" رسما دقيقا ومتمكنا، وأضفى
عليها خفة دم وحضور غفر للسيناريو بأكمله كل ما يمكن أن يأخذ من مكانته فى قلبك،
هى شخصية الشاعرة السكندرية "حنان البغدادى"، تلك الفتاة المتواضعة
الموهبة، الصانعة بسذاجتها عدد من المفارقات الكوميدية الطازجة، والتى لا تخلو من
خبث أبيض غير مؤذ، نراه مشروعا ونحبه رغم كل شىء. شخصية تحمل من المتناقضات
الهزلية الكثير، فلا تملك إلا أن تنتظر مشاهدها بشدة.
شخصية "عمر" أيضا شخصية دافئة، مطمئنة، خدمت أغراض
السيناريو، وبدت بسيطة وعفوية كما ينبغى عليها أن تكون..
يُحسب للسيناريو أيضا مجهود ابتكار الميتات التى تحمل وجهى شبهة، بين
القضاء والقدر والعمد، وخاصة تفصيلة الزهور الهندية المستوردة.
التمثيل
دوما أعتبر جيل هنيدى والسقا ومنى زكى وشريف منير، و نور ومن جاراهم
فى الظهور والانتشار بهذه الفترة، أكثر جيل تمثيلى متحاب، ومرتبط بذاته، مما يضفى
على حضور كل منهم للآخر. فعملهم المكثف معا فى الفترات الماضية، سواء فى السينما
وبالأخص فى المسرح، خلق بينهم شعور غريب من التآلف، يجعل حضورهم معا على الدوام له
بهجة خاصة. وفيلم "من 30 سنة" ضم أكثر من ممثل انتمى لهذا الجيل،
"السقا" "منى زكى" "شريف منير" و "نور".
والحقيقة أن اجتماع كل هؤلاء، بسره المعهود منح الفيلم حالة متفردة. أما عن تفنيد
الحالة التمثيلية فنيا، سنجد الكثير لنقوله عن "منى زكى" هذه
الكوميديانة الجميلة، التى تخلق لزماتها خفيفة الظل، وتحمل على وجهها الانطباعات
الملائمة تماما لشخصية "حنان البغدادى". تنفعل وتتأزم بكرتونية مضحكة،
تمسح على شعرها من حين لآخر، تمط جسدها القصير المنحول فقرا وغلبا بتباهى ساخر،
وتغلق عينيها بثقة وفخر وهى تشحت النقود بإستمرا من "عمر"
و"عماد". "منى زكى" الوحيدة التى يمكنها أداء
"حنان" بهذه الانسيابية، وباختيارها فى هذا الدور ارتفعت قيمة الفيلم
بأكمله. أما "نور" فقد امتلكت تلك الطلة الذواتية الأنثوية القاتلة،
وجودها فى دور "رشا" عزز من فكرة تعاطفنا معها، على الرغم من انتهازيتها
ووصوليتها، وهو الشعور الذى يريده السيناريو تماما إزاء كل شخصية من شخصيات عائلة
الطيب، وقت موتها. "شريف منير" لعب شخصية "عمر" بطريقته
المعتادة فى التعامل مع التمثيل بتسامح وحب، ومن دون مجهود واستعراض عضلات، فمنح
"عمر" خفة الدم، الهيبة، والجاذبية التى تتوائم معه. "أحمد
السقا" أقل مؤدى بين الجميع، يظل يجتهد ويجتهد وحظ الموهبة دوما مفارقه. فدور
"عماد" دور مطاط، يحتمل مساحات ليست هينة من الغضب والغل والطيبة والخوف
والحب. فهو من أصعب الأدوار التى وضعت السقا فى مأزق. "ميرفيت أمين"
أجادت وبشدة فى لقطة موتها بالسيارة، فقتلت الجميع قبل أن تُقتَل بنظرتها المُسّلِمة
المتحسرة والمستعدة للموت بخوف وقوة. ولكن فى المقابل ظلت تعافر سلبا بقية مشاهد
الفيلم، لكى توصل التعبيرات الملائمة لشخصية نجوى المرأة المتصابية صاحبة الرجال
الأصغر سنا.
آخر كلمتين
_"من 30 سنة" فيلم ممتع، له الكثير من الأسباب التى
تجعلنا كمشاهدين متورطين معه. وتُنّحِى مساحة النقد المُحِق منها والغير مُحق
بشأنه جانبا.
تعليقات
إرسال تعليق