التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_







فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله.

و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم"..
الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية الملتفة التى تحوم حولها الرواية، والتى اجتهد " موسى" عن حق فى تجسيدها بكامل تفردها، خفاياها، ودلالاتها المُبطنة الجريئة. على الرغم من تعثره الواضح فى صياغة بعض من مواضعها، وبين هذا وذاك ستكون سطورنا المُقبلة.

سيناريو شائك

إسماعيل " شكرى سرحان" يسافر على غير عادة أبناء حيه الشعبى ليستكمل تعليمه فى ألمانيا، يتخصص فى طب العيون بعد أن يقضى سبعة سنوات فى دراسته، ويعود طبيبا ممتلأ بأمل أوروبي يندلق إلى آخر قطرة فوق دنس الأرض التى نبت منها.

النقلة ما بين حياة إسماعيل فى ألمانيا، وحياته فى بيته المعدم بجانب مقام أم هاشم، مثلت المستوى الأول من مستويات الدراما التى صاغها السيناريو. فى المأثور، قد يُعَد هذا الملمح كافيا لبناء عُقدة فيلم بأكمله، ولكن سيناريو "قنديل أم هاشم" وفقا لخريطة الرواية تبعه بعِدة أزمات ملتفة سيحين الحديث عنها فى وقتها. أما عن هذا الفارق الاجتماعى الكابوسى، فيمكننا أن نجد فيه تحديا مستقلا فى التناول، جعل شخصية إسماعيل واقفة من المتفرج موقفا حياديا، لا يمكنه كره ردود فعلها بالرغم من أن كل الشهواد تؤدى إلى ذلك، ولا يمكنه أن يقع فى غرامها للنهاية، لأن ثمة ما يعوقه عن مثل هذا الشعور. وإنما تشبث بتأرجحه، وتَشَوُش حكمه حيال غرابة الصيغة الحدثية ذاتها. فالسيناريو لم يُخفى واقعية مجهودات عائلة إسماعيل فى دفعه للأمام، وإنما أبرز كافة مساعيها التى تكاد أن تكون مثالية فى الوقوف إلى صف مستقبله. وفى الوقت ذاته، وبعد عودة إسماعيل، لم ينفى "موسى" عن الأهل تُهمة الجهل البيّن، والتنكر لبعض صفات القُبح فى تعاطيهم مع مفهوم الإيمان. وتحديدا، ولأجل هذه المعالجة المنصفة والمتفردة فى نوعها، يُبهَت المتفرج ويقف مرتبكا لبعض الوقت، يراقب سيل الأسئلة الذى تهادى فوق رأسه، من دون الاجتهاد فى خلق أية إجابات مُرضِية. ويمكننا ملاحظة أن الحدث فى هذا الموضع من الفيلم، يتوقف تماما عن المسير، ويحتفظ بعقل المُشاهد متجمدا لأطول وقت ممكن، وكأنه يفتح له متاهة صوفية فى الفكر، تجارى حالة التخبط بين شعور الانتماء الإنسانى والنفور العقلى الذى يعانيه إسماعيل.

 وهذا هو المستوى الثانى من التصعيد الدرامى، فبعد عودة إسماعيل ووضعه المُزعج ما بين اعتقاده بعلم ألمانيا وكُفره بجهل ذويه، لم ينحاز السيناريو إلى مصطلح قاطع بعينه حول هذا التخبط. ففاطمة "سميرة أحمد" ابنة عم إسماعيل، بعدما صمدت عيناها قبلا على القطرات الشعبية وزيت قنديل أم هاشم، تتدهور حالتها فجأة إلى درجة العمى المفاجىء، بعدما يضع إسماعيل يده عليها ليعالجها. صدمة غير هينة، وتطور مُربك يُلجم كافة مفاهيم المتفرج، ليبدأ من بعده رحلة تيه، تغيب فيها المفاهيم الحاسمة للجهل والعلم، الإيمان والكفر. فيُوطّىء السيناريو هنا تحديدا (كما ذكرنا من قبل) صوت أفكاره، ويتخلى عن المتفرج لوقت ممتد، قبل أن يعود تارة أخرى، طارحا له تصوره الأغرب عن الوجه الآخر لمفهوم الإيمان.

يقترح صديق إسماعيل عليه تشخيصا منطقيا لحالة فاطمة، يلفت فيه نظره إلى أنها قد إختارت تحت ضغط عصبى ما أن تُعمَى بإرادتها، وخصوصا فى ظل معاملته الباردة لها وهى فى حكم خطيبته، إلى جانب افتقادها للأمان والدعم النفسى الذى كانت تشعر به حيال قطرات زيت قنديل أم هاشم. وهنا يجتهد السيناريو بالعمل على تفعيل أثر هذا المستوى الدرامى المغاير، والمتفرد فى مناقشته والخوض فيه حتى وقتنا هذا، فهو أشبه بتساؤل وجودى شديد الفلسفية، نجح "موسى" فى أن يبرزه فى حالته المحايدة، المترددة التى أضافت إلى قيمته، ورمت به إلى منطقة خطرة وملغومة من الاستفهام. ففاطمة آمنت أنها فى طريقها للشفاء بزيت القنديل، تبركا به، واستئناسا برمزه الدينى، حتى وإن كانت عينيها فى حقيقة الأمر تحتضران. وفى الوقت نفسه نبذت علاج إسماعيل، لأنه نزع عنها أمان إيمانها بشفائها، فى تطور قاد إياها للعمى الفعلى. والوضع فى واقعه، يشير إلى أن فاطمة صمدت بالجهل لمجرد أنها تؤمن به، وتهاوت بالعلم فقط لأنها كفرت به. تمادت فى استدعاء المدد من من أم هاشم، غافلة عن الرب ذاته، أى إيمان هذا؟، وفى الوقت نفسه قوة إيمانها بالفعل أنقذتها سنوات طوال وأخرت مصيرها المحسوم. وبالرغم من الرفض القاطع والبين فى السيناريو لهذا المفهوم الملغوم للإيمان، حيث افتتح "موسى" به أول مشاهد فيلمه (حينما يمر شيخ على الأهالى المتكومة أمام المقام، فيتعوذ من استبراكهم بالست أم هاشم، ويقر بحرمانية هذا الفعل)، إلا أنه كان رحيما بقلوب هؤلاء البسطاء، مرتضيا أن يمنحهم حقهم فى الإيمان بما يشاءونه وكفى، غير محتملا لفكرة أن يعود إسماعيل بين يوم وليلة، ويهد فيهم معتقداتهم التى لا يملكون غيرها. فيجعلنا "موسى" ببساطة خفية، غير محبذين للحل الذى لجأ إليه إسماعيل فى بداية الأمر حينما توجه للمقام وقام بتحطيم القنديل. بل نشعر بميل الكتابة إلى المشهد النقيض، الذى عاد فيه إسماعيل سائلا الشيخ سؤالا حقا، منزوع التهكم حول حقيقة فاعلية زيت القنديل فى الشفاء، فيقول الشيخ ببساطة "إنها النيات، من آمن به يشفيه، ومن لم يؤمن لا يشفى".  هل تتذكر أول حديثى عن السحر الأسود؟ "من آمن به يُؤذَى، ومن لم يؤمن لا يمسه شىء". فالتصديق من عدمه قد يكون سحرا، شفاءا، وكل نتيجة أخرى يرغبها من يؤمن بها، حتى وإن كانت نقيضة لغيرها. فالإيمان نفسه لا يؤدى إلى شىء بعينه متفق عليه، فسسكه غير متفقة فى مساراتها، وإنما تتوافق فى أن تقود صاحبها إلى مقصده. والحقيقة أن هذا المفهوم الغائم، تتناحر بشأنه إلى الآن علوم الطاقة الروحانية والطب التقليدى، فالأخير يُكذب ادعاءات الأولى بقوة الروح فى الشفاء، أما الأولى فتُجرد عقم أدواته الكيميائية من التعاطى مع مناطق الروح الغائمة، والتى تبعث أصول الأمراض.

وفى النهاية، هل يسعك التأمل عزيزى القارىء حول كم الأفكار المغردة خارج السرب التى ناقشها هذا السيناريو، حول قدر التساؤلات التى طولب بطرحها كما هى، مُحلِقة لا تحط على أرض، ومنغلقة على دائرتها المفرغة دون أن تبلغ وصول. فالأمر لم يتوقف على خوض منطقة درامية غير مسبوقة، أو الانتقال من مسار حدثى متوقع إلى آخر مفاجىء وكفى. وإنما يرتبط أيضا بمدى غرابة المنهج الذى اتبعه فى عدم السعى لتضليل فكرة على حساب الأخرى، ونصر شخصية بعينها أمام نظيراتها. فلم نكره إسماعيل وأفكاره، ولم يراودنا المثل مع أهله، كما أننا لم نحب أو ننقاد إلى فكر أى من الطرفين للنهاية. إنه تناول آدمي، قليلا ما نقابله فى كتابة سينمائية، ينتمى إلى كافة المفاهيم الفكرية التى طرحها، ويولي ملابساتها وخصالها الإنسانية إهتماما وحسبانا. إنه يحاكى طبيعة التكوين البشرى إن وضع حقيقة فى وضع مُلتبس مماثل.


مواضع تَعَثُر

ثمة مناطق ضعف ملحوظة فى سيناريو "موسى" أخفق فيها فى التماس مع الحالة الحية لرواية حقى، مثل الفترة التى مكث فيها إسماعيل طوال سنوات دراسته فى ألمانيا. لتبدو حياته سطحية، ساذجة، لا معنى لها ولا قيمة. تم التطرق إليها من باب العلم بالشىء، لا أكثر ولا أقل. حتى العلاقة التى ربطته بألمانية مقيمة هناك، بدت كعلاقة كرتونية غير معروف بدايتها من نقطة نهايتها، علاقة لم تكتفى فى حضورها بأن تكون مجرد علاقة بسيطة، وإنما سعت نحو التفذلك لأكثر من ذلك، فبدت شديدة التفاهة والفراغ.

تماما مثل إطلالة العاهرة التى كانت تأتى دوما لمقام أم هاشم، والتى تكررت رؤية إسماعيل لها بعد عودته من ألمانيا، لتنشأ بينهما علاقة ود طفيفة. إنها شخصية متوارية، لم يكتمل بناها من الأساس، كما أن العلاقة التى جمعتها بإسماعيل قفزت لمنحنيات صعود غير مفهومة وبلا تمهيد. إنها نصف خبر، يُلقى لك به السيناريست دون أن يتقن حكيه، معتبرا إياه مفهوما وهينا بما فيه الكفاية مقارنة لبقية ما هو بصدد العمل عليه بالسيناريو.

يتكرر الأمر مع شخصية الدكتور المصرى، الذى يلجأ إليه إسماعيل بإعتباره صديقه بعد عودته من ألمانيا مباشرة، أى صديق هذا الذى بقى معه على هذه الدرجة من الحميمية وهو غائب منذ سبعة سنوات، فهو شخص مقرب إلى قلبه لدرجة أنه يفاتحه فى مشكلته مع فاطمة، بينما يعرض عليه الثانى بكل أريحية أن يشاركه عيادته التى يجتهد فى بناها لنفسه منذ أمد. كل هذا ولم يتم ذكر هذا الشخص مرة من قبل، ولو بإعتباره حتى من المقربين الذين يراسلون إسماعيل فى سفره.

آخر كلمتين

_ تمهيدات اهتم السيناريو بالتعاطى معها، تعتبر من المبررات أو الدلالات القوية على تصرفات الشخصيات، والمصير الذى آلت إليه. فمثلا، والد إسماعيل يصر على إرساله إلى الخارج بهيستيرية، لأنه صادف فى ذلك اليوم موظفان يستهزآن به وبولده، بينما كان يسعى لتقديم ورقه فى كلية الطب. مما يبرر موقفه الغير مقنع على الإطلاق، بالتفانى فى الإغداق بالمصاريف على تعليم إسماعيل للحد الذى يجعله بيع عفش منزله. أما حينما كان إسماعيل يعالج فاطمة، وبينما كنا متأهبين لشفاها، يقلقل "موسى" راحتنا التامة، ليشير بخفاء أن ثمة ما لايعقب حمداه. فنجد فاطمة متأففة، بملامح قلقة دوما، وصوت ينوح أحيانا " الربطة دى بتضايقنى". فيجيب اسماعيل فى برود "طيب، طيب، هاربطلك الربطة البلدى بتاعتكم".

_ على الرغم من عدم كرهنا التام لشخصية إسماعيل، إلا أن السيناريو قدمه فى بداية الأمر، منذ سفره وحتى عودته، بصورة متعجرفة لا مبالية بشكل غريب، لا يليق تماما بطبيعة الأحداث القادمة، ولا يتوائم مع تكوين شخصية إسماعيل ذاتها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...