نُشر فى موقع مصر العربية
......................................................
......................................................
إسراء إمام تكتب: Nymphomaniac..عالم فون ترير القاتم والقادر
فن وثقافة
Nymphomaniac
كلمة معقدة، مربكة، تحمل الكثير من الغموض، وتستعصى على الوضوح. تشوش الفكر، وتوخز الشعور، وتمتد بهيبتها لتعمى اللحظات، ليطن الصمت بقتامة تُقارب رتابة عقارب الساعة. كلمة تتوه بين معناها اللغوي والنفسي والحسي، تختلط نحوها الانطباعات ولكنها، وإن تعددت تبقى على صلة وثيقة بالغريزة الفطرية البدائية الخاصة بالجسد في العموم، أي أن كان المعنى الدقيق لهذه الكلمة "شبق" أو "هوس جنسي" أو..أو..، يظل وقعها الأمثل والأعمق فاعلية هو مخايلاتها لجموح الجسد، ومن هنا تبدأ الدوائر الصغيرة المتشابكة في العمل على التباس التجليات العقلية والإدراكية، مفسحة المجال أمام الإحساس ووحده الإحساس بكل مؤشراته المتراقصة ومدلولاته المشبوهة هو من يقبع في مقدمة الصورة.
إنها الكلمة التي تناسب تماما حالة الفيلم المُعنّون بها، فيلم المخرج الشهير(لارس فون ترير).. فيلمه الأخير الذي أثار الكثير من الجدل منذ تم طرح دعايته الإعلانية، هو الفيلم الذي تشاهده من بين ألف فيلم فيستحوذ عليك كليا، يقحمك في عالم من القسوة والإرهاق الذهنى والنفسى، ليس لجرأة موضوعه كحافظة أنيقة مفرغة المحتوى تعتمد على مزركشاتها في اغواء من يبتاعها، بينما في ثقل حِمل حقيبة سفر تقليدية تحوى من المقتنيات ما تم دفسه بفوضوية شديدة التنميق لا يلحظها إلا من ينفض عن كاهله عبأ السفر، ويتفرغ لفض محتويات هذه الحقيبة الصعبة المنال ليوم كامل أو حتى أيام.
الفيلم الذي يحتاج لفيض من المشاهدات، لاستيعاب كم العمل على مثل هذا السيناريو الساعى للتجويد في أضعف مواطن سقوطه، والباعث على البهجة في ألمع مناطق قوته، والغير آبه في تعنت ببعثرة بعض العبوس على نفس المتفرج من وقت لآخر، شىء من الإنقباض ومزيد من الإهتياج الفكرى الذي لا يؤدى إلى نتيجة ملموسة، بل يؤجج من وظيفة الإحساس وحده الإحساس كما ذكرت من قبل، إحساس يعيد المتفرج إلى رغبة عارمة في إعادة اكتشاف الحياة من حوله وداخل نفسه.
الفيلم الذي لن تشعر بكماليته أبدا، تترائى أمامك الكثير من إخفاقاته، ولكنها لا تقلل قيمة الشرط الجزائي الذي وقعه معك في أول دقائق للفرجة، يبقى الايفاء بوعد المتعة قائما رغم كل شيء، والذي يتأتى من خلال متتابعة قيّمة من الرضا والانتشاء العصبي الشامل، وكأنك شاهدت مليون فيلما.. مليون فيلما يمتلأ كل منهم على آخره بمضمون يستحق العناء، بعيدا عن مفهوم الجودة المتعارف عليه.
منذ متى شاهدت فيلما مماثلا ؟؟
الإجابة لن تأتى بسهولة إلا إذا شاهدت فيلم فون ترير، حينها ستتلعثم الكلمات فوق فمك، وقبل التفكير في الرد، ستنشغل حواسك بألا تنساق وراء أي فكرة، ستخلع عنك إرادتك وتهيم ركضا صوب ما تمليه عليك سجيتك، هكذا ستشاهد الفيلم، وهكذا ستمضى من بعده لوقت ليس بقليل.
حول موضوع الفيلم
منذ طرح الدعاية الإعلانية للفيلم وقد ساد الانطباع عن جرأة موضوعه الجنسى، امتدت الجلبة وتعالى الصخب وتلقى المخرج الكثير من ردود الفعل النابذة، كل هذا لا يُهم، الأهم، أن فيلم ترير لم يكن بهذه المحورية التي تصورها البعض حول الجنس، لم يعمل بهذا الدأب لتفصيل هذا الموضوع تحديدا، ولم يُشبه أبدا المخيلات التي رسمها الكثيرون حول شكل الدعايا والأفيشات، وهذا بالضبط المُنفر في الأمر، والذي لا يمكن نزع يد "ترير" نفسه منه، فإذا تأمل أحدهم شكل الأفيش سيرى أنه بعيد تمام البعد عن الروح التي تبدى عليها الفيلم، وكأن المخرج ذاته ارتاح لهذا التناقض لكى يقدم مادته بهذه الصيغة الظاهرية ومن ثم ينتشل المتفرج منها بعدما غمسه فضولا ونهم. "ترير" في هذا الفيلم لا يُناقش لحظات الأورجازم، لا يطرح قضية ما تدور حول ماهية الجنس، وإنما يغوص في شكل من الأشكال الشاذة للنفس الإنسانية، وهو ما لا يستدعى أبدا أن يظهر أبطال الفيلم في أوج لحظات نشوتهم متجاورين على الأفيش. وعلى قدر ما يُحسب لترير في إتقان نسج هذه الحالة النفسية المتفردة (و التي جاء على هوامشها طرح تساؤلات جدلية خاصة بالجنس) إلا أنه بالتأكيد يحسب عليه هذه السذاجة التي تبدت عليها الأفيشات.
الحكاية
"جو" امرأة خريفية العمر، يلتقطها أحدهم من الشارع، يأويها في منزله بينما تقص عليه حدوتها الغريبة، مدعية أنها "مدمنة جنس"..
تقص جو حكايتها التي تستمر طوال مدة أربع ساعات تقريبا، هي وقت عرض الفيلم، الذي تم طرحه تجاريا على جزئين منفصلين متصلين. السؤال هنا؟، لماذا اختار "ترير" هذا الإسهاب في رواية جو، هذه الحياة المثيرة للاشمئزاز التي روتها بطولها وعرضها على مستمعها وعلى المتفرج دون كلل، وبغير هوادة، و التي لا نشعر فيها بأى ابتذال على الرغم من عدم اتساقها أحيانا، وافتقارها في أوقات كثيرة إلى التناغم والمنطقية. ما إن تبدأ جو في الحكى عن حالها منذ الصغر، وحتى لحظتها الحالية، لا يراودك الشعور بأهمية ولا جزء مما تسرده، ولكنه في الوقت ذاته يقتحمك ويرغمك على المتابعة، حتى وإن كان في معظمه قابل للحذف، وهذه الحقيقة، هي ما تدعم موقف "ترير" وتأتى في صالح قدرته على العناية بهذا السرد الطولي، والوقوف به تماما في المنتصف بين الثرثرة والاكتفاء، فهو لم يجعل مثل هذا ينال من متفرجه في حين قدم له الأسباب الكافية للمتابعة والاندماج حتى في أكثر أوقات السرد شططا والتباسا.
كيفية سرد الحكاية
تسرد جو واقعة ما، ومن ثم يقوم سليغمان(مستمعها) بالتعليق على ما تقول، كثير من الرمزيات..كثير من الإسقاطات التي جاءت على لسان سليغمان، لدرجة التخمة، وبشيء من الإصطناع المقصود لأول وهلة، وحينما تواجهه "جو" برغبته الدائمة في مقاطعتها للتنظير على ما تقوله، والعمل على تشبيهه دوما بوقائع من قراءاته، أو حتى بعض الحوادث التاريخية المُلفقة، تتضح نية السيناريو في فضح ذعر "سليغمان" مما تسرده جو بأسلوب مُبكر ومبتكر، فهو بهذه التعليقات ساهم في تمريق إحساسا قويا بعدم الإرتياح من طريقته في الإنصات، وفي الوقت ذاته فتح الباب أمام التعاطى مع إسقاطات سليغمان، والتعامل مها بشكل جدى مثير للذهن ومُشتت لحدة ما تقصه "جو"، ومن هنا بدأت أولى الخطوات الثابتة للحالة المُرهِقة التي تعمد "ترير" أن يطل بها فيلمه، و التي وبدون شك هي ما تبقيه لمدى أطول على أرضية فاعلة للفضول.
تماما كتعليقاتها هي عن نفسها وحكايتها من حين لآخر، توصيفها لاختلافها ببساطة من ترغب في المزيد من أشعة الشمس أكثر من غيرها، وكذلك تعريفها عن الحب "الحب بالنسبة إلى هو ذات الغريزة الجنسية مضافا إليها الغيرة"، وغيرها من التعليقات التي تستحق التأمل، فمع بعض الثقة من جانبها تقع كلماتها موضعا مهما، له فعلة التهدئة من تنظيرات سليغمان المتوالية وفي الوقت ذاته يضيء الطريق للتعرف عن قرب بهذه الشخصية (جو) التي لا تخلو من متناقضات بالطبع، ففي الوقت الذي تشعر فيه دوما ودائما بالذنب والاحتقار صوب نفسها، تنحو إلى قبول ذاتها كما هي وتقف في وجه المُعالِجات (في مجموعة مدمنات الجنس) وتفخر بقبولها لعلتها، وعدم تخليها عن رغبتها التي يعتبرها الكل خطيئة. وهذه هي بالضبط مشكلة "جو" عدم تصالحها مع قبولها لفطرتها، هي تدعى ولكنها تقف أمام التنفيذ الفعلى عاجزة، لتتمزق من الداخل وتزداد تشوها ومعها تتراكم فعلاتها الشاذة، ولا تتوقف المعاناة. فشذوذ "جو" نفسيا وليس جنسيا، هي امرأة شبقة ليس إلا، ولكنها تعاملت مع شبقها بإحساس فخم أعطاه أكثر من حجمه، ودفع به ليدمر حياتها بشكل بشع. وقد نجد لهذا التفسير مدلولاته، حينما يلمس سليغمان في بعض واقائع سردها شىء من اللامنطقية فيميل إلى عدم التصديق، لترد عليه ببساطة" ليس أمامك وسليلة لكى تبلغ نهاية حدوتى، سوى بتصديقها"، هذا الرد الموارب الذي أفسح مجالا للتشكيك بحقيقة ما تسرده "جو" من الأساس، لا يدل على كونها امرأة مخبولة، ولكنه يدين صحة تماسكها النفسى، ولا ينفى عن داخلها مزيد من التشتت والتشوه. وهذه التفصيلية الصغيرة (ملحوظة سليغمان+رد جو( نفت عن أحداث النصف الثانى من الفيلم (مشاهد عملها الجديد+ لقائها بالفتاة المراهقة+ ظهور زوجها السابق من جديد) صفة الابتذال، وجعلتها في قتامتها وكابوسيتها قابلة لأن تكون مجرد وهم، وشيء من الهذيان. نعم، فبقدر الفوضى التي يُحدثها السناريو في روحك وعقلك، إلا أنه يحرص على ألا يترك مساحات غير مقبولة من علامات الاستفهام، مع الإبقاء على الصالح منها والقابل لإضفاء قيمة ما على الحدث.
كل الملاحظات التي تخص شخصيات الفيلم، تعود في الأساس إلى حدة بصيرة شخصية "جو" بشكل عام، وليست جنسيا فقط كما تدعى هى، فحينما كانت تتوغل في حدوتها على مسامع سليغمان، توصلت إلى ميله دوما نحو التنظير رغبة منه في التملص من أثر جرأة ما تحكيه، كما تبينت صلادة ردة فعله حول مواضيعها التي من المفترض أن تثيره، ولم تترك له الإجابة على ملاحظتها وإنما توصلت لنتيجتها بشكل إقراري صحيح متيقنة من أن الرجل الذي أمامها لم يخوض تجربة جنسية من قبل، على نفس المنوال، رصدت تفصيلة الكعكة التي يُفضل "جيروم" تناولها بالشوكة وهو التصرف الذي تراه من وجهة نظرها انثويا، والذي مع تكراره مرة أخرى مع سليغمان تتبدى وجاهته وصحة تخمينه. هي امرأة شديدة الذكاء على المستوى الإنساني بشكل عام، وهذا ما أجج أزمتها النفسية، حدة ملاحظاتها مع نفسها أولا مما ضخم من حجم مشاعرها وانتقل بها من خانة الشعور إلى الأفعال، من فئة التفكير إلى الاحتياج، ومن منطقة الحدث الفعلى إلى الهذيان، ولا من شيء ثابت صحته فيما بين كل هذه التشتيت.
الطريقة التي تناول بها ترير موت والد "جو" في سرده بصورة خالية من الألوان، تجارى قتامة الكلمات التي قصها سليغمان مع بداية سرد الواقعة و التي يكثُر فيها ذكر كلمة "الظلام"، إنها المحاكاة الأمثل و التي تشير وبصورة عارية إلى المنطقة الأكثر هشاشة في نفس "جو". هذه المعالجة الصامتة، الساكنة والقابضة على الألم بصورة ملفتة، تعود من جديد كدليل يؤكد على عطب تلك النفسية المحرضة على الشبق الجنسى، وليس العكس، فبينما كان يحتضر والد "جو" كانت تقبل هي على مضاجعة عدد من مرتادى المستشفى بالتوازى.
على الهامش
"جو" هي موضوع الفيلم الرئيسى، فعلى الرغم من طرح بعض الملامح المثيرة للدهشة في شخصية سليغمان، إلا أن "ترير" أصر على أن لا يحيد أبدا عن حدوتة "جو"، حدوتة "جو" بأكملها وليس موضوعها الجنسى، ولكن في الهوامش، ظهرت بعض التفاصيل الجنسية، و التي تمس الطابع الإنسانى كأولوية، مثل الموقف الذي سردته جو عن الشجار الذي تم بين الأخوين الأفريفيين أثناء ممارستهم الجنس معها، وشرح ظنها بكون عائق اللغة يمثل نوعا من المشهيات التي تحمى وطاس العملية الجنسية، تماما كما ظنت أن عنف الرجل الذي تبرع لمعالجتها سيردع شبقها الجنسى وينهيه، لأنه سينقلها إلى مستوى آخر لم تكن لتتعرف عليه من قبل وبالتالى ستخمد شهيتها، فضلا عن توصيفها الإنساني الواضح بعلاقتها مع رجلين ممن كانا يمارسان معها الجنس، فأحدهما يمثل الجانب الناعم الهادىء، والآخر يثير وحشيتها الغافية بالداخل، إنه احتياج إنساني في الأساس (ينفى عنها الوحدة التي واجهتها بها مسز اتش) هو ذاته ما جعلها تواظب على رفض جيروم في البداية، على الرغم من شبقها الدائم. إنها أفكار تدعو بالطبع للاهتمام داخل إطار الجنس بشكل عام، ولكنها رغم ذلك تخص وتنتمى في النهاية إلى تخمينات واستخلاصات "جو" إذا فهي وجه إنساني آخر منها، مما يضفى على الحكاية تعقيدا وسحر ويسلبها السلاسة التي تُقلل من هيبتها.
آخر كلمتين:
_"جو" في الحقيقة تشبه الشجرة العارية التي تقف أعلى التلة لتواجه مصيرها في شجاعة، فهذه الشجرة أفضل تشبيه حسى لنفسية جو الخربة.
_ لجوء "جو" للمسدس بهذه السرعة والتصويب تجاه سليغمان بدون تردد، يدل من جديد على ضعف روايتها كليا، فهي قد تكون امرأة لم يسبق لها كل هذا الكم من المعاشرات كما ادعت، ولا فكرت من قبل بالقتل من الأساس كما سردت لضحيتها قبلها بقليل.
تعليقات
إرسال تعليق