نُشر فى جريدة القاهرة
...................................
...................................
أوديب وأبجدية السرد البازولينى
إسراء إمام
فى صمت، تُرتسَم الصورة، ينطق التكوين،
وتُختَزل دفة الكلمات الثقيلة، تهوى حروف الثرثرة أرضا، ويمتد الأفق أمام اللوحات
الناطقة، تتبدى المتوالية المرئية لتحكى فى سكوت، تسرب إليك مهابتها كعملية حَقن
الوريد بقبل من حياة، تُعيد تشكيل الأسطورة بقلب فنان ولهجة شاعر وعين رسام ..
إنه بازولينى فى أوج نضجه السينمائى، يصرخ
بالمعاناة الأوديبية، ويُرسى قواعد أسلوبه كمخرج، فعلى الرغم من تجلى موهبته فى
أفلاما سابقة، إلا أن أوديب هو النقلة الحقيقية الأكثر إكتمالا وتماسكا واستقرارا،
لتضع الكثير من العناوين، وتجر أكثر من خط، تحت اسم بازولينى ..
مزيج حضارى
يبدأ بازولينى تحفته بمشاهد عصرية من قلب
ايطاليا، لإمرأة تنجب طفلا، يغار منه والده فييرميه بنظرات ملعونة تنذر برغبة جادة
فى أذيته والتخلص منه، يستخدم بازولينى الحوار الصامت الداخلى فى جُمل مختزلة،
كطريقة أقدم علي استخدامها من قبل فى فيلم " The Hawks and the Sparrows"، ومن بعدها ينقل فى اسلوب خشن قاسى ومتعمد على
الفترة الزمنية الأصلية لمعاناة أوديب، يسترسل فيها حتى يبلغ نهايته، فيعود فى
المشاهد الأخيرة بنفس الغِلظة لذات المكان
الذى بدأ منه كل شىء فى إيطاليا، المكان الذى يصل إليه أدويب بثيابه العصرية
متعجزا على صديقه بعدما مرا على أكثر من منطقة لم يقوى الكفيف على التواصل معها،
لتألف نفسه المكان المعهود ويقول فى ارتياح "تبدأ الحياة من مكان ما
تنتهى". هذا الإسقاط الواضح على استمرار المعاناة الأوديبية فى رمزيتها داخل
المجتمع الإيطالى إلى أبد غير معلوم، فكرة التيه والغربة والوحشة، تلك الفكرة التى
سبق وكانت هاجسا رئيسيا فى أفلام بازولينى "accatton" و"mama roma"، همه البارز فى ابراز المناطق المظلمة
الموجوعة من قلب ايطاليا، الإفضاء بسموم الجرح، والوقوف فى وجهه عارى الخجل وبغير
أدنى ذرة تردد.
تلك الحنكة البازولينية، التى ربطت بين
العالمين (عالم ايطاليا فى المشاهد الأولى والأخيرة، وعالم الأسطورة بمظاهره
التاريخية). اخيتار أماكن قريبة جدا فى الشكل، ومحاكاة حركة الأم فى مشاهد لهوها
مع صديقتها بملابس الملكة أو بملابس السيدة الإيطالية المعاصرة، وفى كلا من وجود
طفلها رضيعا مرتكنا على الُعشب، أو فى وجوده وهو رجلا فحلا ناضجا يضاجعها وهو
لايعلم كونها والدته. القدرة الخبيثة على الربط بلهجة غير فاضحة، وفى الوقت ذاته
التعنت المقصود فى النقل الفجائى بهيئة موجعة للروح تترك أثرا واضحا وتُعنّف من
الصدمة لتدخل إلى نفس المتفرج دون خروج.
حديث الصورة
يبدأ الحديث الأقوى للصورة، من النقطة التى
يذهب فيها أوديب ليأخذ رأى الآلهة فى الحلم الذى يراوده، لتفتيه بأنه سيُقبل على
قتل والده ويقع فى حب أمه ويعاملها معاملة الزوجات، من بعدها يصيبه مس من الشطط،
يحتال لآدمى مخبول بعض الشىء، ومعه تصيب الصورة بعض الهوس، ترتيبا للمشهد الأكثر
سحرا فى الفيلم، وهو المشهد الذى سيقتل فيه والده على الطريق، وهو لا يعلم حقيقة أن
هذا الرجل ذو الموكب الذى استفزه هو والده الحقيقى. فبعدما تخبره الآلهة بحقيقة
رؤاه، يبتعد فى طريق عودته عن مكان نشأته معتقدا أنه يعاف القرب من والديه خوفا من
تحقق الفتوى، مما يصيبه بلوثة هذيان، يُجسدها بازولينى بداية من مشاهد خروجه من
بين الناس بعدما استمع إلى رأى الآلهة، تتبدى فى الطريقة التى يخطو بها، ينظر بها،
كما تشع من مشاعر الفزع التى تواتيه صوب كل شىء. وفى لقطة بديعة يمر قرب قرية
يدعوه أصحابها إلى مضاجعة فتاة فاتنة تقطر غواية ولكنها يزهدها، وكأنه الخوف قد
استبد به إلى هذا التفكير الغير عقلانى على الإطلاق.
كل هذا يفرش بوعى لمشهد قتل الوالد، والذى
يطبخه بازولينى على مهل، ليدمى أعصابك على الرغم من معرفتك بكل شىء سيحدث، فعبقرية
بازولينى يمكن أن يلخصها هذا المشهد البديع، الذى يحتاج لقراءة متأنية، كما الفيلم
بأكمله الذى يحتاج لمرات مشاهدة متوالية ليس لغرض الإلمام بكل الـتأويلات التى
ضمنها بازولينى فى روعته البصرية السينمائية وحسب، بينما لإستيعاب كل هذا الكم من
الجمال اللانهائى الذى تنغلق عليه أسرار هذا الفيلم. فالطريقة التى يقتل بها أوديب
حراس الموكب، ما من وسيلة غيرها تقوى على إمتاع المتفرج وشد انتباهه واثارة شغفه
وجل تركيزه، لتدفع به إلى تذكر عدد الحراس بسهولة حيث تأتى نهاية الفيلم فيتساءل
أوديب عن شكل الموكب الذى كان يسير فيه الملك وعدد حراسه ليجاوبه الآخرون كدليل
دامغ على جريمته بأنهم خمسة، خمسة حُراس قتلهم هو على مهل، وبأسلوب بازولينى
المتباطىء الشرس فى النيل من متفرجه، والذى يُنبأ فيه عن الهوس الذى أصاب أوديب،
وحوله من رجل كان يتشبث بفرع الشجرة الأخضر ببداية المشهد إلى قاتل متوحش لا يرى
أمامه، توارى الشمس سوءة فعله بإصرار مع كل قتلة يقتلها لأحد الحراس فى كادر
بازولينى أصلى لن تنساه.
تماما مثل الإصرار الواضح فى تصوير المشاهد
التى تجمع أوديب بوالدته أثناء المضاجعة، على نحو رمزى يتكأ فيه بازولينى على
تصوير طريقة اقدام أوديب تجاه جسد إمرأته بنفس أسلوب والده فى بداية الفيلم، تكررت
التفصيلة أكثر من مرة وهى تشير ببروز إلى تماثل شهيتى الولد وابوه نحو المرأة التى تنازعا عليها فى كل عصر وتوقيت. إضافة إلى
القصدية المبينة فى تفصيل صحة العلاقة الجنسية بين أوديب والملكة، توافر الرغبة فى
ثناياها وتحقيق روح من الإكتمال والإلتحام الجسدى والنفسى فيها دلالة على وجود
الحب، فكل مشهد صوره بازولينى بينهما على الرغم من تحفظه أدى غرضه فى تأجيج هذا
الشعور المثير الذى يسكن كل منهما نحو الآخر، ويقوى من نفاذية رائحة الغريزة
الجنسية والفطرية بينهما لتبلغ وهجها وذروتها.
أم أوديب وزوجته، فى وجهة نظر بازولينى كانت
تشبه الطبيعة الأم، وقد أظهرها فى لقطة أولى من بداية الفيلم، جلست فيها تنظر إلى
الكاميرا نظرة غير آدمية، ومن حولها الشجر الأخضر وقد التحمت فى لحظة ما معه داخل
كيان واحد، بينما يأتى أوديب فى نهاية الفيلم، ليرتمى بين الشجر ويعود إلى أصل
الحياة وتهدأ روحه بعد السفر الطويل والنزاعات الروحانية القاتلة. واللقطة التى
يقف فيها أدويب متضرعا أمام أمه بعد أن شنقت نفسها فى النهاية هى دليل آخر على صحة
التأويل، كما تأتى كادرات اختلائهما ببعض أمام خلفيات متوحدة اللون رائقة وكأنها
من عالم آخر منفصل يأخذهما بعيدا عن الواقع، إنها لغة بازولينى البصرية التى لا
يعلو عليها شيئا.
آخر كلمتين:
_ التمثيل الذكورى لدى بازولينى دوما يطل بطلة
مرتبكة ومنقوصة، يفوقه حضور البطلة الأنثى أداءا وموهبة فطرية، بينما يأتى البطل
باردا كعادة مشاركاته فى أفلام بازولينى السابقة.
_ السطور السابقة لم تكن مجرد محاولة لقراءة
أوديب البازولينى، ولكنها كانت افضاء كتابى بحب الحالة الأوديبية البازولينية،
التى مازالت على خطة المشاهدة والتورط مرة تلو الأخرى.
تعليقات
إرسال تعليق