التخطي إلى المحتوى الرئيسي

1984 .. الفيلم الذى تمم روايته

نُشر فى جريدة القاهرة
......................................................



1984 .. الفيلم الذى تمم روايته
إسراء إمام
"1984" ..
الرقم جاف، حاد، قاسى فى طلته الأولى، يشابه هذه التشكيلات الحسابية الخاوية، الغريبة عن الروح والمتحيزة للعقل وما من دونه شيئا. ولكن جورج أورويل، حينما قرر أن يضعه عنوانا لروايته الأشهر على الإطلاق، كان على يقين من أن قارئه لن يحمل بعدما ينتهى منها، إنطباع مُشابه لهذا التكوين الرقمى الأصم، والمنحوت بتعنت على غلاف الصفحات التى تحوى سطوره فى رحمها.
"1984" ..
هو العنوان الأقرب لتوصيف المتاهة الذهنية والروحانية التى يضعنا أورويل أمامها. ويورطنا فيها بحذق كاتب سبق وقد تورط هو أولا فى حكايته، تشربها حتى النخاع، وبات يهذى بها على الورق، يتجشأها سطور محمومة، مازالت تُبقى على ارتعاشاته ولذعة شططه وجموحه. وهذا بالضبط ما يميز هذه الرواية عن غيرها، وقد يحسب أحدهم أن موضوعها المثير للفضول هو الأهم، بينما حقيقة الأمر بمجمله تكمن فى النهم المتوارى بين ما يسرده أورويل، شهيته الخاصة التى نقلها إلينا صوب عالم نسجته خيالاته، وغادرت إليه روحه، ففجرت العديد من الصياغات الفلسفية والوجودية، وشرنقت الواقع برمته فى جوف بوتقة وهمية متقنة الصنع. فمن الصعب تصنيف ما أجاد به علينا أورويل فى هذه الرواية، لأنه لم يقف عند حافة أى شىء قانعا خجلا، وإنما خاض فى كل شىء بتوق من يرغب فى الفهم.
تحرش أورويل فى سطوره، بالوجود كاملا، سياسة، فلسفة، دين، وفِكر. تناول الإنسان، ما قبله وما بعده،  فبدت روايته تمثل شيئا قيما من كل شىء، فحملت من الطابع العقلى الصلد والمرهق فى بعض الأحيان، ومالت على نحو آخر إلى بعض من الحالمية والحميمية التى تبعث على الدفء. من فرط لامنطقيتها بدت منطقية أكثر من أى شىء، ولهول إفتراضيتها بدت حقيقية أكثر من أى شىء. هذه التركيبة الغرائبية والغير محسوبة، نقلها الفيلم المأخوذ عن رواية أورويل بجدارة، أبقى عليها دونما مغالطة، لم يمنحها فرصة لأن تخون ايقاعه ولو فى مرة واحدة، وعلى الرغم من أنه قابل بعض العثرات بخصوص التناول، بينما استطاع أن يتشبث بهذه الروح حتى النهاية مع رعونتها وقلة مطواعيتها.
جماليات الفيلم على مستوى التناول
قرر المخرج "مايكل ريدفورد" أن يكون أكثر غموضا فى تناوله لفيلمه المأخوذ عن رائعة أورويل. لم يتمادى ريدفورد فى التفسير كما فعل أورويل فى روايته، وإنما اختزل العديد من ملابسات المواقف بلغة سينمائية، فمثلا لم يُسهب فى الشروح بمدى خطر إمتلاك البطل لدفتر يوميات وقلم حبر ليدون أفكاره، بينما اكتفى بالطريقة المريبة التى يلتجأ إليها وينستون لإحضار مذكرته من تحت حجر ملصوق كالبقية بجدار منزله وكأنه جزء لا يتجزأ منه. إنه العالم الذى حدثنا عنه أورويل فى روايته، والذى يحيا فيه بطله سجين محروم من مجرد البوح بأفكاره، لصالح الطاعة العمياء للأخ الكبير الذى يحكم وطنه، وتطغى صورته على جميع شاشات المراقبة الموجودة فى منازل شعبه، وينستون الذى يحيا ليلا ونهارا، بخوف الوقوع بين يدى شرطة الفِكر، التى قد يحالفها الحظ وتوقع بخائن آخر تراوده أفكاره بخيانة الحزب ورئيسه، ويداخله التردد فى الولاء الكامل إليه. كيف له أن يفكر بما يخالف هواء الحزب، فما الحال إذن عند إمتلاكه لصفحات ملموسة يكتب فيها أفكاره جلية واضحة للعيان. فبعد تقديمة الفيلم الأولى للخيوط الأساسية لهذا العالم، جنح بشكل أكبر إلى الصمت، وأفسح المساحة صوب المجال المحسوس، بما يتضمنه من أساليب مرئية أو سمعية. فبدت اللقطات الأولى لاستحضار وينستون لدفتره مهيبة، مقبضة، توشى فى سكوت بأن ما يفعله وينستون ينتمى إلى أصعب محظورات العالم المحيط به. وهكذا تناول مواقف عدة، منها اختزال فزع وينستون حينما داهمه ابن جاره الصغير وقال " انت مجرم فكر" فى نظرة العين المشبوبة بضحكة مرتعبة، وفى الوقت ذاته لم يستخدم رديفورد هذه الخلفية الهامة التى وضعها أورويل فى روايته عن ما يزرعه الحزب من عطب فى عقليه الطفل، ونجاحه فى  أن يخلق منه تابعا لئيما يمكن أن يُقصى والديه فى سبيل خدمة الأخ الكبير، اقتطع ريدفورد كل هذا السياق واكتفى بإبراز ملابس الأطفال التى تلائم مظهر الشرطى، وتصرفاتهم التى تليق بالمخبرين، فكان الوقع أقوى وأكثر مدعاة للفكر.
على صعيد آخر، إختار السيناريو أن يتجاهل الكثير مما ورد فى الرواية، بشكل واعى ومتنمق يُحسب للفيلم، فمثلا فى المشهد الذى يذهب وينستون لمقابلة أوبراين (الرجل الذى أوهمه أنه يشاركه فى كراهية الحزب والأخ الكبير)، لم يصطحب معه جوليا (حبيته والتى تشاركه نفس الآراء)، على عكس مما ورد فى الرواية، حيث ذهب وينستون مصطحبا جوليا، فجاء مشهد الفيلم أكثر تكثيفا ومنطقية، وخاصة أن ريدفورد لم يثرثر فيه كعادته من بداية الفيلم، وأصر أن لا يضع على لسان شخصية أوبراين كلمات أكيدة بكونه واحد من أفراد المقاومة، بل حرص على تكريس انطباع موارب عنه، على الرغم من حفاظه على شعور الإطمئنان حياله لأنه الإحساس الذى يعصف بنفس البطل تجاه هذا الشخص على أية حال. هذا المشهد على وجه التحديد من أبلغ مشاهد الفيلم، التى توضح مدى قدرة السيناريو على هضم واستيعاب سطور الرواية والتحليق على مبعدة بمسافة آمنة من طرحها.
جماليات الفيلم على مستوى المرئى
الديكور عاملا هاما من العوامل التى ساهمت فى إضفاء هذه الحالة القيمة للفيلم، كل أماكن الأحداث بدت فى أوج حقيقيتها، منزل وينستون، منزل أوبراين، الغابة التى تلاقى فيها مع جوليا، مكان الطعام، مكان العمل، وزنازين التعذيب، على الرغم من عدم مطابقتها الكاملة لما ذكره أورويل فى روايته، إلا أنها أجادت توصيف الحالة كما هى. بخلاف براعة الكاميرا فى إبراز هذه الأماكن ومحاكاتها، يتضح هذا مثلا فى لقطات زيارة وينستون الأولى لحانوت المقتنيات القديمة الذى ابتاع منه الدفتر والقلم، وخصوصا تلك اللقطة التى وقف فيها إلى جانب صاحب المتجر يتأملان لوحة الكنيسة، هذه اللقطة التى جسدت فى صورتها ارتياح وينستون واطمئنانه أمام الماضى وفى الوقت ذاته ارتعاده من تماديه فى الكره لحاضره أو بالأحرى الحاضر الذى يسيطر عليه الحزب، فبثت الإضاءة شيئا من الدفء غير أن الظلام المحاوط حمل فى جوفه شعورا مؤرقا.
كما أن التقطيع السلس فيما بين وحشية مشاهد التعذيب، وبين اللقطات الحالمة التى يتواجد فيها وينستون بمفرده وكأنه خارج الكون، جاء ليحمل الكثير من المعانى، التى تفيد براحة وينستون على الرغم من كل العذابات التى يلاقيها، فهو الآن وبشكل ما أضحى على درب الحزب، لم يعد مجرد مجرم فكر يخشى كل يوم من الوقوع بين براثن العدو، كما أن من يتولى التحقيق معه هو أوبراين، الذى كتب عنه مرة فى دفتر يومياته " لايهم إن كان أوبراين عدو أو حليف، المهم أننى أبغى التحدث معه"، وقد أكد أورويل فى هذه الجزئية من روايته أثناء التحقيق على مدى إعجاب وينستون بعقلية أوبراين، والذى يتزايد كلما أوغل أوبراين فى اقناعه باللاشىء، بكل حجج الحزب الواهية التى على الرغم من تفاهتها باتت تحكم حياة الكل .
مشهد آخر برز فيه دور الكاميرا، وهو مشهد القبض على وينستون وجوليا، على وجه التحديد تلك اللقطة التى ظهر فيها ضابط شرطة الفكر الذى أوشى بهما، وقد اتضح أنه صاحب المتجر، فبداية دخوله إلى الغرفة، والتعتيم المقصود على وجهه إلى أن برز أمام وينستون ظهر بليغا وملفتا ومتقنا للغاية.
علامات استفهام
ثمة خطين رئيسين أهملهما سينايو الفيلم، على نحو يقلل منه، أولهما حياة وينستون الخاصة قبل ملاقاته لجوليا، وخصوصا أن أورويل قد قص فى روايته قصة زواج وينستون كاملة. وإن تغاضينا عن هذه الجزئية من جهة قلة ضروريتها سنجد أن السيناريو وضع نفسه فى مأزق طفولى، حينما أرفق فى كلمات وينستون أثناء إعترافاته فى النهاية ذكر زوجته.
الخط الثانى والهام جدا، هو شعور وينستون الحميمى تجاه اوبراين، قبل الحظو بمقابلته، سواء بإعتباره واحدا من أفراد الحزب أو من أعداد المقاومة، فهو فى النهاية اعتبره صديقا على الرغم من عدم تلاقيهم فعليا أبدا، وهو اعتبار موحى، تجاهله السيناريو بحيث لم يُبرز هذه المكانة المسبوقة لأوبراين فى قلب ويسنتون قبل المقابلة الموعودة بينهما فى التحقيقات.
آخر كلمتين:
_ مشاهد الفلاش باك المرتبطة بطفولة وينستون، والوعى فى توظيفها على مدار سرد الفيلم، كان من المميزات الملهمة التى تُحسب للسيناريو.

_فيلم ريدفورد من الأفلام التى تُكمل مسيرة أصلها الأدبى، ولم تُصنع لكى تتفوق عليه أو تدور فى فكله أو تقل عنه أهمية. فهى فى مكانتها السينمائية تشارك الرواية نفس القيمة والتقدير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...