التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بالتازار الفرنسى..قطعة خالدة من قلب السينما

نُشر فى جريدة القدس العربى
....................................................................


‘بالتازار’ للفرنسي روبرت بريسون: قطعة خالدة من قلب السينما

لا تفقد رونقها مع مرور الزمن
إسراء إمام
صمت مشحون، مُثقل ومنغلق على غيمة الزمن وفعلة السنوات، سكون يخيم لايرتبط بدوره مع مساحة السكوت وإنما يمتد ليطبق على الكلمات، المزيكا، وحتى أصوات الرياح، وقع الأقدام، جلبة الشوارع والتجمعات. إنها الصرخة المدوية التي لم تُطلق أبدا على مدار ساعتي عرض الفيلم الفرنسي البديع Au Hasard Balthazar إنتاج عام 1966 ، وهو الفيلم الذي أعاد عرضه نادي سينما ‘سمات’ بغاردن سيتي، إمدادا لما يقوم به من إحياء لعدد من الكلاسيكيات السينمائية العريقة.
فيلم ‘روبرت بريسون’ يحمل هويته المتشبعة إلى آخرها بالعمق، مناطق مُلغزة، حواديت فلسفية في مضمونها، لها مسحة تبعث على الراحة في بساطة مظهرها وصياغتها. إنه قطعة من قلب السينما، لم ولن تفقد رونقها إلى الأبد، بل مازالت تملك القدرة على أن تُعيد تدوير محتواها بما يكسبه مزيدا من السحر، ويبث في متلقيه رغبة الانقطاع عن العالم والتفرغ لمشاهدته مرارا.
الحدوتة والشخصيات
‘بالتازار’ هو حمار صغير، ابتاعته أسرة وقتما كان رضيعا، واعتنوا به إلى أن سافر مالك الأرض وتركه في رعاية جاره، الذي عهد إليه أيضا برعاية ممتلكاته والإشراف عليها وقت غيابه، ومع تقلبات الظروف، ينتقل بالتازار إلى أكثر من شخص في نفس البلدة، بالتوازي مع حكاية ‘ماري’ الفتاة الأكثر حبا واهتماما لبالتازار وهي إبنة الرجل الذي يتولى إدراة شؤون صاحبه الغائب.
قدم بريسون من خلال هذه الصيغة التي تبدو طيّعة، بانوراما إنسانية دسمة، مزج فيها ما بين معاناة الحمار ‘بالتازار’ وبين تعقيدات البشر وغوغائية حياتهم، مستخدما الكثير من الإسقاطات والتي لم تحض على البكائية حول حال الحمار بقدر ما تحرض على الفكر، وتتناول الوضع بفلسفية. فـ ‘بالتازار’ تم تعميده في أول الفيلم على يد الأطفال الصغار، وكأنه أصبح بشريا بشكل أو بآخر، فهي علامة انطلاقته على نفس خطى الإنسان في رحلة قد يفقد فيها الكثير أو يتحصل علي ما لا يمكن أن يتوقعه، يصادف السيىء والأسوأ، ويتعثر بالحب ومن ثم يتحضر لافتقاده مجددا. هي رحلة شبيهة برحلة ماري، التي مضت تستمرأ خطوات ضياعها من ذاتها على مهل. بريسون في هذا الفيلم يتساءل بطريقة سينمائية بحتة عن ماهية الحياة، ويحاول بعرض أفقي متوسع ـ يحمل مسحة عجوزة ـ تدعيم سؤاله، والإغداق عليه بشيء من الفوضوية والغرائبية التي تتسم بها حياتنا.
ماري، هي احدى أهم شخصيات الفيلم، والتي ارتبط مصيرها بشكل ملحوظ مع مصير الحمار الصغير، فهي بدأت أولى نقاط إنحدارها وقتما باع أبوها بالتازار وسعى في التخلص منه، لتبدأ هي بالتوازي في السقوط من خلال تعلقها بأحد الشباب السيئين، مستنزفة كل ما تملك من مشاعر صوبه لدرجة هروبها من المنزل، والتخلي عن كل شيء في سبيل صحبته، ومن المفارقات التي طرحها السيناريو، أنها في هذا الوقت الذي كانت تُهدر فيه مشاعرها هباءا، لم تستطع أن تكن أي شيء لجارها القديم، والذي استمات في حبها منذ الصغر، وبدا مستعدا حتى نهاية الفيلم ومن بعد تخلى عشيقها عنها أن يلتزم بحبه تجاهها ويتزوجها من دون أي خجل، إنها العشوائية التي صاغها ‘بريسون’ بقوة في كل تفصيلة من هذا الفيلم، فبالرغم من حياة الأمان التي سيوفرها لها هذا الشاب فهي تشبثت برفضها، وفضلت عليها الهرب من البلدة، على الرغم من أن وجودها مع ‘جاك’ لم يستلزم منها بعد سنوات الإعياء التي تعرضت لها سوى التسليم والخنوع لأن يهدهدها أحدهم ويتولى رعايتها باسم الراحة التي تشعر بها في وجوده وكفى، والتي اعترفت بها له في أحد المشاهد فضلا عن اعترافها الآخر باحتياجها لصديق يشاركها أفراحها وآلامها، وعلى الرغم من أن جاك سيتيح لها الأكثر من كل ذلك، فضلت الهروب منه إلى المجهول في النهاية.
أرنولد، من أكثر الشخصيات إثارة للجدل بالفيلم، وهو المالك الثاني لبالتازار بعدما باعه أبو ماري، أرنولد طيب رحيم وعينيه تشهد على كم الإستكانة التي يملكها في داخله، ولكنه في وقت ما يتعرض إلى حالة وسواسية إثر صراعه مع نفسه بخصوص ماضيه، والذي يبدو أنه لم يتأكد منه جيدا، فتنتابه الشكوك حول قتله لرجل، وتساهم الظروف بتحريك وقع هذه الأفكار في رأسه ونفسه، فهو لا يتأكد من كونه قاتل لأنه مدمن على الكحول وقد يكون نسى فعلته بالفعل، وتتبدى هنا مقدرة بريسون على إنبات هذه المشاعر الهوسية في دقائق هذا الجزء من السرد بالفيلم، يسأل أحدهم أرنولد ‘مما أنت خائف’ فيجيب بكل بساطة ‘من الخوف’، ومما لا شك أن هذه الأزمة النفسية تؤثر عليه وعلى الطريقة التي يتعامل بها مع ‘بالتازار’ فينعته بالشيطان جالب النحس، فمعاناته بدأت بالمصادفة مع الوقت الذي ابتاع فيه هذا الحمار الذي لا حيلة له. وبنفس العبثية التي يسير عليها تطور الحدث في الفيلم، ما ان يأتي الفرج وتنحل هذه المعضلة النفسية في حياة هذا الرجل عندما يرث فجأة ثروة عمه، وبرغم صموده في الوقت العصي، تخر قواه إلى حد الموت فجأة من بعد احتفاله في أول يوم استلام الأموال.
أما البخيل العجوز وهو آخر ملاك ‘بالتازار’ وآخر من تراهم يستغلون الفتاة ماري في الوقت ذاته، هو شخصية بينة واضحة، لا يركض خلف كذبات منمقة يقنع بها الآخرين عنه ليبدو جميلا، بينما يقبل قُبحه ولا يدعي عليه شيئا، يتصالح معه ويراه في صالحه، فهو بخيل إلى حد أنه لا يتورع عن أن يسقي الحمار مياها شبه عفنة محتفظا بالمياه الحلوة لنفسه، ومنتزعا من أمامه الطعام قبل أن يشبع، لا مباليا بجروحه ولا هزله ومرضه، وهكذا أيضا لم يزهد في شهوته في الفتاة الصغيرة، واستمتع بها دون خشية حينما استجارت بمنزله، فهو كما قال لها لا يلتزم تجاه أي شيء سوى مصالحه، فهو على الرغم من كل شيء يتمتع بنزاهة المصارحة ولا يترك لنفسه ولو منفذا ضئيلا للتضليل.
عن حكاوى الصورة
الحوار في فيلم بريسون قليل جدا، لا يُستخدم إلا في الضرورة، بينما تقف الصورة وقفة كل العناصر تقريبا، سواء على المستوى الجمالي أو المُضّمن بعدد من الأفكار، أو مكملات السرد.
فعلى المستوى الجمالي، لن يسعك سوى التأكد بأن كل كادرـ وأنا أعنيها كل كادرـ من كادرات فيلم بريسون، يعد صورة فوتوغرافية غاية في الإبداع، لا تتشابه مع أي صورة فوتوغرافية عادية من أي فيلم، فتكتفي بتسجيل اللحظة وكفى، وإنما تنخرط بشكل مرعب تحت شروط محسوبة بدقة في الإضاءة ووضعية الممثلين، والمكان الذي تحدق منه الكاميرا على المنظر، كلا كلا لم يأت عبثا، بينما استمات في خلق صور فوتوغرافية بعدد كادرات الفيلم، يمكن أن يتعرض لها المشاهد بشكل مستقل، ويتمتع بما تحمله من فن. على سبيل المثال، يمكن لأحدهم أن يتأمل كادرات مشهد ماري والعجوز، بداية من حضورها إلى المنزل وحتى آخر المشهد. فكل منهم صورة مفعمة حياة تدعو في حد ذاتها للتفكر، بعيدا عن موضوع الفيلم أو ارتباطها به. كذلك جاءت اللقطة التي كان ينظر فيها جيرالد ورفاقه الى أرنولد وهو نائم في منزله.
على الصعيد الآخر جاءت لقطات مختلفة، تحمل مع جمالها، عدد من المعاني التي تخدم الطرح، منها لقطات السيارات التي تمرق سريعا وقتما كان يتهافت الشباب على السخرية من ماري ووالدها بخصوص استخدامهم الحمار، حيث تأتي لقطات السيارات وكأنها تسخر بنفس الطريقة من تنقلهم بالدراجات في وسط البلدة. لقطة أخرى لوالد ماري وهو يبحث عنها، بعدما كانت برفقة جيرالد عشيقها، وبينما يمر بالمكان الذي تتواجد فيه مع جيرالد، يتعداه والدها إلى أفق فسيح وهو يتفوه باسمها، وكأنها تورية على أنه سيفقدها إلى الأبد. لقطة أخرى تخص أرنولد فبينما تبدأ هلاوسه المرضية في الإلحاح عليه، ترصد الكاميرا القمر بينما تأكله الغيوم ويختفي وراءها ضوؤه.
كذلك استخدم بريسون على امتداد الفيلم، لقطات عدة لليد لها أكتر من معنى في كل موضع، فمثلا في أول المشاهد التي ينوي فيها جيرالد أن يرمي بشباكه للإيقاع بماري، وحينما كان يشاهدها وهي تزين حمارها وتقبله، وضع يده بثبات وبحركة استقرارية جدا على الأرض، وبعدها تحركت الكاميرا بشكل أفقي منخفض لتأتي بقدم ماري وهي تتحرك، وكأنه ملك خطواتها بدءا من الآن . في لقطة أخرى ظهرت يد أرنولد وهي تتناول في توتر أقداح الشراب، وهو في أوج معاناته النفسية، لم يختر بريسون حينها أن يرتكز بكاميرته على وجه أرنولد الطيب رغم كل شيء في هذا المشهد بالذات، لأنه بعد قليل سيتوجه صوب بالتازار ضاربا إياه ضربا مبرحا.
لقطات رائعة أخرى ظهر فيها المونتاج المتوازي في مشهد احتفال أرنولد بالثروة، ما بين الألعاب النارية الساذجة في أثرها والتي رغم ذلك ينتفض ويفزع منها بالتازار، مع لقطات صوت الهشيم المفزع والمثير للتوتر الذي كان يقوم به جيرالد في البار لزجاجات الشامبانيا والمرايا، والذي لم يتأثر به أبدا أي من الحاضرين الذين مضوا في استكمال رقصتهم في لا مبالاة ومن دون أن يرتجف لهم رمش.
آخر كلمتين:
ـ أداء ماري ووالدتها، كان أداءا باردا لا مباليا على الدوام، هل هي السمة التي أطاحت بهما إلى الهوية، والتي تتلاقى فيها كل منهما مع بالتارزار، الذي يتقبل مصيره بروح مستكينة هادئة ؟.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...