التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هشام نزيه.. مشعوذ الموسيقى العربية

نُشر فى موقع مصر العربية
...............................................




إسرار إمام تكتب:

هشام نزيه.. مشعوذ الموسيقى العربية

هشام نزيه.. مشعوذ الموسيقى العربية
هشام نزيه
في الموروث المتعارف عليه للتذوق الموسيقي، يقتصر جمهور مؤلف الموسيقى على فئة محدودة لها سماتها، هي وحدها من تميزه وتنسب له موسيقاه، تتنصت إليها وتهرع وراء حضور صاحبها في مكان تواجده وإقامته الحفلات أحيانا. قصدت أن أؤكد على جملة (المؤلف الموسيقي) لأنهم بطبيعة الحال قليلون، وشتان ما بينهم وبين المُلحن والمُوزع الموسيقي، وهذا بالضبط ما لا يعيه المتلقي البسيط، الذي يتوه في توصيف كل من يشبع أذنه بجملة لحنية مستساغة. هذا العام، تجاوز "هشام نزيه" هذه المعضلة، وسبق منطقة الاشتباك تلك بخطوات واسعة، دب بقدميه على قلوب اللاوعى وأيقظه، ومَوضَع العديد من الأسئلة على لسان الغافل قبل المدرك، "من هذا المشعوذ الذي صاغ موسيقى مسلسل السبع وصايا؟"، "على يد من خٌلقت هذه التعاويذ اللحنية الجُهنمية؟"، طرقات على الحجر الأصم نقلته من مستوى التذوق في صمت، إلى التهافت على المعرفة، والانتقال إلى مستوى أرقى من الاستيعاب. إنها السابقة الأولى من نوعها التي ستحُسب لنزيه هذا العام، أما سوابقه الموسيقية فالحديث عنها يطول ويطول.

إبداع يتنفس فتكون موسيقى هشام نزيه، الرجل الذي يسقي جملته اللحنية من روحه الممتلئة، ويضفي عليها قدرًا من نفسه، فالشعور لديه يبدأ قبل الفكرة، وإن كانت أفكاره اللحنية لا يضاهيها شىء. هو فنان المعادلة غير المنتظمة، والكيميا اللامحسوبة.

لماذا هو المشعوذ دون غيره؟
الموهوبون كُثر، ومُبدعو الموسيقى على الرغم من قِلتهم تتبدى عبقرياتهم التي لا يستطيع أحد إنكارها، منهم "تامر كروان" الذي يغرد هذا العام بمعزوفته المنغلقة على نواح العود وشكوى الكمان في ملحمة تعتلي تتر مسلسل "سجن النسا"، ولكن نزيه دون غيره على الرغم من كل شىء هو وحده من يستحق هذا اللقب، لعدة أسباب، أولهم، أنه لم يخذل مُريديه أبدا، فأقل ما أبدعه "نزيه" كثير، وأقوى ما أنتجه خارج عن نطاق الوصف، بداية من "سهر الليالى" ومرورا بـأفلام "الساحر"، "السلم والتعبان"،"عن العشق والهوى"، "تيتو"، "بلبل حيران"،"إكس لارج"، "إبراهيم الأبيض"، والمسلسلات "شربات لوز"،"نكدب لو قلنا مابنحبش"، "نيران صديقة" وأخيرا "السبع وصايا". فى كل عمل مما سبق، هشام نزيه يتواجد بقوة، وإن اختلفت نسب الإبهار، تبقى عند معيار مرتفع لا يقع سقفه، ولا يُظلم كهفه البعيد المترامي على حافة الواقع، دوما يبقى عند مرتبة الحُلم لا يهوى ويكاد حتى بأطرافه ليلمس الأرض. ثمة دوما جملة لحنية مُلهمة، تستهويها الأذن، تألفها وتواقعها موقعا حُلوا، يُستدَل منها على بصمة نزيه وإمضاءه، فلا يمر اسمه على تترات العمل مرة دون أن تمر موسيقاه على قلبك.
ثانيهم، قدرته على أن يستولد نفسه من جديد دون أن يفقد هويته، وهى الموازنة التى لم يضبطها غيره، فدونه من العباقرة وإن تميزت موسيقاهم، تبقى على وجهها المألوف، قد تتشابه على المتلقى أحيانا من فرط قربها لمثيلاتها من أعماله، بينما فى المقابل، يخلق نزيه من أدواته الموسيقية حالة تختلف تماما عن سابقاتها، فنراه يستخدم نفس الآلة بروح مغايرة، ويخلق منها دنيا إضافية لا تمت بصلة للدنا التى أدلفنا إليها من قبل، فمثلا إن تصّنّت للكمان فى فيلم "ابراهيم الأبيض" ومن ثم قارنته بكمان "عن العشق والهوى" وفعلتها مرة أخرى مع كمان "إكس لارج"، وأخرى مع "نيران صديقة"، ستجدها هى ذات الآلة، ولكنها تنطق بلهجات مختلفة، بلكنات مختلفة، ودقات قلب مغايرة تواكب دقات قلب صانعها. وجه آخر من الاختلاف يمكله نزيه، فبنفس رقى الحُلم، يُحلق بك سواء كانت الموسيقى خفيفة بها نزعة كوميدية كأفلام "بلبل حيران" و"إكس لارج" ومسلسل "شربات لوز"، أو أخرى تميل لإيقاع راقص كـ"السلم والتعبان"، وثالثة تحمل طابعا ملحميا مثل "ابراهيم الأبيض"، ورابعة تحكم لجام كلمات صوفية ثقيلة القيمة والشكل مثل"السبع وصايا"، إلخ.. فقط هشام نزيه من يمكنه أن يتقافز فوق ألوان الموسيقى بخُف واحد، عارفا بمساربها ومسالكها لا يُضيع نفسه فيها، بل يجدها مرات ومرات.
ثالثهم، قدرته الملفتة على تطويع آلات غربية لتُفصح بلسان عربى، فالجيتار الإلكتروني متواجد في أعمال كثيرة لنزيه، أقربها "السبع وصايا"، ولكنه تحت يد نزيه يتحدث بلغة صوفية شديدة الأصالة، يفك طلاسمها فى رضا، وباستحسان المُستمع، والنيل من أطياف مخيلته، مُحدثا غرضه فى يسر العارف بخبايا الموسيقى، والمتمم لميكانو اللغز بإبداعه الخالص، واضعا موهبته فوق رقبة الآلة التى يستخدم إليها، لا يلجأ إليها لتنجده وتكون الجزء الأكبر من الإيحاء. وحده نزيه من يفعل ذلك.هو وحده بحق.
آخر كلمتين:
إليك يا صانع البهجة، ولك يا وقود الروح، يا من يزوره اللحن فى المحراب، وتوانسه الموسيقى فى عزلته البعيدة، ابقى معنا دوما كما نأمل، واطربنا بما ننتظر منك. إلى (هشام نزيه).

 
اقرأ المزيد


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...