التخطي إلى المحتوى الرئيسي

Transcendence التناقض الذى لا ينفى صفة الجمال

نُشر فى جريدة القدس العربى
....................................................

فيلم ‘Transcendence’ للأمريكي والي فستر: كاريزما النجوم والتناقضات الكثيرة التي لا تنفي صفة الجمال

إسراء إمام
غريبة هي الأفلام التي تمتلك مقوماتها كاملة، بداية من الفكرة الجيدة ونهاية بالتنفيذ الذي يليق على كافة المستويات، ولكنها تظل مفتقرة إلى شيء ما. يطل من خلالها نجوم كبار، ومن خلال سردها لا تقع فيما يدفع المتفرج إلى الاستياء، ولكنها لا تُبقى على إيقاعها منضبطا ينفي عنها صفة التململ.
وال ‘ Transcendence’ من هذه الأفلام، التي قد لا يتبدى عليها السبب المؤدي إلى تحجيم وقع المتعة، بينما تظل هذه حقيقة واضحة لا يمكن نكرانها. على الرغم من أن له من السمات واحدة تميزه عن الأفلام المشابهة، فهو ليس فيلما جافا يدور في إطار الخيال العلمي وهو يرتكز على الحركة والمطاردات كأساس، وإنما حرص السيناريو على التشبث بالخط الإنساني، وطرح الفكرة بسلاسة وبساطة أهم من كونها قصة تشويقية مبهرة. ومع هذا يبقى النصف الأول من الفيلم بأكلمه، أيقونة للبعث على الضجر.
النصف الأول من الفيلم
في محاولة للبحث وراء دوافع هذا الشعور السلبي، لن نجد ما يمثلها في طريقة ترتيب الحدث وسرده، لأن السيناريو قام بما يتوجب عليه بخصوص هذه النقطة. بينما تتكثف معظم الملاحظات، على شكل تنفيذ المشهد، الحوار، فترات السكون، وردات الفعل التي اختلقها السيناريو صوب الحدث سواء على مستوى الشخصيات أو المواقف المترتبة.
فالحوار جاء مقتضبا خاويا، يركض نحو اللحظة القادمة، لا يتناول على مستوى عريض ملابسات اللحظة الحالية، فمثلا لم نتبين حميمية علاقة إيفلين (ربيكا هول) و ويل (جوني ديب) باعتبارها العلاقة الأهم، التي يُبنى عليها أهم أحداث الفيلم، وإنما اختزلها سيناريو ‘جاك باجلن’ في عدة جُمل تفيد بالغرض وكفى. كما فعل تماما مع مدى تبيان هذا المشروع التكنولوجي المزعوم الذي يحلم به كل من الزوجين. واعتقد أن مهمته ككاتب تقتصر عند جعل هذه التفصيلة التكونولوجية مادة قابلة للإستيعاب لدى المتفرج. حتى عندما يخبر الطبيب الزوجان، بأن ويل على وشك الموت بعد أسابيع، يأتي رد الفعل هادئا مستكينا، وكأنهم على علم بأنها ليست النهاية. فردة فعلهم، شابهت رد فعل المتفرج الذي على يقين من أن دكتور ويل لن يغادر فيلمه بهذه البساطة. التعامل مع كل ما سبق بمبدأ مرور الكرام، أضفى على الفيلم وقعا باردا، وأعطى انطباعا عن كونه لم يبدأ بعد، فهو دوما في حالة تأهب لما سيأتي، ولم يجد معايشة ما يحدث الآن.
ناهيك عن فترات السكوت الطويلة بداخل مشاهد احتضار دكتور ويل، وتجربة برمجته على الآلة المُخترعَة في محاولة الاحتفاظ بتواصل ما بينهم وبينه بعد أن يأخذه الموت. ومن قبلها مشاهد تعامل دكتور ويل وزوجته ايفلين وصديقهم الأقرب ماكس، بمنتهى الموضوعية مع فترة إحتضاره، من قبل توصلهم إلى فكرة إنقاذه الإلكتروني التي واتتهم في الأيام الأخيرة من موته، فمع يقينهم بأنه سيفني، تعاملوا مع الأمر بعقلانية غريبة. على الرغم من أن هذا يتنافى تماما مع شخصية ايفلين على وجه الخصوص، التي ستظل طوال النصف الثاني من الفيلم، محتفظة بحقها في التصديق بأن هذه الآلة التي اخترعوها هي زوجها، فقط لأنها تحبه ولا تقبل فكرة عدم وجوده معها.
وهنا يمكننا أن نستعيد هذا الجزء برمته في الفيلم، ولكن في شيء من التماهي مع لحظاته الحالية. بمحاولة تخيل الطرح الذي كان لابد وأن يجسد القرب بين إيفلين وويل كما ينبغي، كزوجين حبيبين لا يتمتعان بحياة عادية، وإنما تملكهما رابطة ممتلئة بالشغف، ويجمع بينهما حب متفرد. حينها سيكون لخبر احتضار ويل علينا وعلى شخصيات الفيلم أنفسهم وقع مغاير تماما، وبالتالي سيكون لمشهد موته هيبة أخرى، مما سيؤجج الحدث القادم، ويغذي الطاقة الشعورية التي أعد السيناريو خيطا مبدئيا قويا لها، ولكنه لم يهتم بها. الأمر ذاته يمكن تطبيقه على حياتهم المهنية، والحلم التكنولوجي الذي يراودهما، حيث سيكون صوت الصراع فيما بعد داخل إيفلين أعلى وأعمق، وحيرة المتفرج وتربصه بتصرفات دكتور ويل الآلية أشد تربصا وحدة.
تفاصيل
ما يحسب للفيلم تلك الخطة القوية للقصة، المشبعة عن آخرها بمفاهيم انسانية لم تنجرف مرة عن مسارها. على الرغم من أن فكرة الفيلم تبيح هذا، ولكن السيناريو كان قويا في أن يتعامل مع هذه النقطة بصرامة. فالتزم بمنهاجه حتى النهاية، ومع توسع ظهور التطورالتكنولوجي في الحدث، احتفظت الصورة بطابعها القصصي مدخرة استخدام الجانب التقني في وقته، وموظفة إياه في مواضعه الصحيحة.
ثمة تفاصيل خلقها السيناريو خلال السرد، ولجأ إليها بحذق على مدار الفيلم. منها التأثير الذي تم شرحه بشكل متوار للشبكة العازلة لإشارات الإنترنت والهواتف في أول مشهد بين إيفلين وويل. تلك الشبكة التي تم استخدامها فيما بعد لمحاربة توسع انتشار دكتور ويل آليا. وأيضا الجملة التي أجابت بها الآلة الذكية على الحضور في أول الفيلم عند سؤالهم حول مدى إدراكها حسيا، وهو الجواب ذاته الذي استخدمه دكتور ويل بعدما تحول إلى آلة مُبرمَجَة، مما يُصعّد من إحساس الريبة وعدم الإطمئنان حول كونه هو ذاته الدكتور الجدير بثقتهم، أم مجرد برنامج إلكتروني يتطلع إلى محو البشرية. والحقيقة أن السيناريو برع في صياغة الإضطراب المطلوب بخصوص هذه النقطة بالذات، فتكتمه على طرح المناقشة بين أي جانب، حول حقيقة هذه الآلة التي تحمل اسم ويل حتى المشاهد الأخيرة بالفيلم، انعكس بشكل إيجابي على كم وكيف التوتر الكامن في هذا الجزء من الحدث. فالسؤال الذي لابد وأن المتفرج سأله لنفسه عدة مرات ‘هل هو ويل حقيقة، أم مجرد وجه تكنولوجي لا يستحق الثقة’ لم يجد من يشاركه فيه من الشخصيات،الذين اهتموا أكثر على أية حال بمدى الضرر الذي ستلحقه هذه الآلة أي إن كان كنهها بالعالم أجمع. مما عمق من أثر السؤال في نفسه، وفي الوقت ذاته منحه مساحة قوية للتخمين، ولم يلعب معه تلك اللعبة الساذجة، التي تتعمد توجيهه وإثارة ريبته وشكه بطريقة مفتعلة. ففي هذا الجزء، المشاهد يتابع ما يحدث بأكثر من وجهة نظر، يرتئي ثقة إيفلين العمياء في البداية وتذبذبها فيما بعد، ويراقب ردود فعل الآخرين وذعرهم صوب ما يحدث، وفي الوقت ذاته يملك الحكم على تصرفات ويل، التي تحمل من الوجهين ما يعطي مساحة قوية للتأويل والجنوح إلى احدى الضفتين بأسباب وجيهة لها منطقيتها.
جوني ديب وربيكا هول
البرهان على أن فيلم Transcendence” من الأفلام المتفردة في نوعها، نجده هنا في إطلالة كل من جوني ديب، وربيكا هول، التي احتفظت بأهميتها ورونقها على مدار وقت العرض، فبدونهما سيفقد الفيلم الكثير من حالته وتأثيره الباقي في النفس. وسيظل يداهمك من فترة لأخرى، بالرغم من كل العيوب التي تؤخذ علي السيناريو. فظهور جوني ديب الذي يمكن حصره على الأصابع، شديد الأهمية. هناك أفلام أخرى من نفس النوعية، حينما يسعنا التفكر في أدوار بطولاتها سنجد أنها لن تشكل فرقا كبيرا، لأن مساحة الإبهار التقني فيها أتت على الأخضر واليابس. على الصعيد الآخر، هنا ستظل قسمات ربيكا المثقلة، وسهام نظرات جوني ديب المنكسرة في نهاية الفيلم من أكثر الأشياء التي تعاود ذاكرتنا من وقت لآخر.
آخر كلمتين:
ـ من الذكاء، استغلال ظهور وجه موريغان فريمان على الجانب المقابل من موقف ايفلين وويل، فهو من جهة ساهم في بلوغ المتفرج مبلغ الاضطراب إلى نهايته (لأن وجه فريمان يبعث على الثقة)، ومن جهة أخرى، منحه حضورا متقنا لنجم له ثقله وكاريزمته الخاصة حتى مع ظهوره القليل.
ـ الموسيقى كانت حيادية أكثر من اللازم تجاه تطور الحدث، وهو ما ساهم في تدعيم التناول الصلب الذي ظهر عليه الفيلم في بدايته.
ـ transcendenceمن الأفلام التي تحمل عدة متناقضات، فهي تحوي في جعبتها قدرا لا يستهان به من الملل، المتعة، الخفة، الثقل، الإستسهال، التروي في آن واحد.. ولكن الأهم أن ذلك كله لا ينفي عنها صفة الجمال.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...