نُشر فى موقع مصر العربية
......................................................
......................................................
فتاة المصنع ..إنه الوجع عندما ينطق بعفوية
إسراء إمام
فى صورة متباطئة، يلتقط الكادر هيام وهى تجاور نافذة الميكروباص، تمرق طلتها كالحُلم، ويتأتى صوت سعاد حسنى فى الخلفية لتكتمل اسطورة النشوة المزعومة. إنها خيالات تحملها النسمة وتطير خفيفة من غير معوقات، إنها اللقطة التى تكشف لنا دنيا هذه الفتاة، هذا العالم المزركش الذى تملكه فى رأسها، ويضىء له قلبها ضيا يعمى الأبصار عن عجلات الميكروباص المُثقلة المتعثرة بحصى الشارع ومطباته الغير مستوية، إنها اللقطة التى تصيغ تعريف الإبتسامة البريئة لهيام، والتى تحتمى بها كتعويذة سحرية تلعن بها الخبث والكره والزيف، وتنفى عنها حِمل الفقر والذل والخزى لكونها أنثى ..
الإبتسامة التى تُحول هيئة فستان الفرح الرث، الذى خرج لتوه من قلب صندوق عتيق مغلق منذ سنوات، إلى سر آخر من أسرار البهجة، تلتف به وتلفه بروحها المرفوعة الرأس، والمرتعشة رعشة الأنبياء حيال لحظات الحب، القوية كالعود الصلد فى وجه القدرة على الحقد والتغابى، والخانعة الخاشعة أمام الرغبة المشروعة فى الإرتقاء، والتى وإن فقدها أحد لم يعد لشهقاته وزفراته فى الحياة معنى .
"بمبى" .. ينتظرها فى شرفة منزله، وكأنها تخصه، الفارق واضح بينهما، هى فى الأسفل تخطو على مهل تعرقلها أحمال يديها الإثنين من طلبات أحضرتها لأسرته، وهو فى الأعلى واقفا فى مكانه لا يبذل أى جهد، ورغم البعد والمسافات، يبقى السحر طالما إتفقا عليه أصحابه، يرميها بإبتسامة ذات مغزى، تتلقفها هى خجلة، راغبة فى تصديق ما يحدث.
"بمبى" .. ينتظرها فى شرفة منزله، وكأنها تخصه، الفارق واضح بينهما، هى فى الأسفل تخطو على مهل تعرقلها أحمال يديها الإثنين من طلبات أحضرتها لأسرته، وهو فى الأعلى واقفا فى مكانه لا يبذل أى جهد، ورغم البعد والمسافات، يبقى السحر طالما إتفقا عليه أصحابه، يرميها بإبتسامة ذات مغزى، تتلقفها هى خجلة، راغبة فى تصديق ما يحدث.
"عاوزين نحب" ..تتنبه لصورته الموضوعة تحت زجاج المنضدة، تسحب كفيها من ملابس أخته التى همت بإصلاحها، وبخفة تنزع الصورة من تحت الزجاج، فى لمحة بصر، تمتلك شطرا منه فى دنياها، وتمنحه قطعة من قلبها، تسعى وراء رغبتها من دون تخاذل، تقتحمه عنوة وعشم، تمد كفها لتطبق على صورته، كجمرة من نار تجازف بإستحضارها من دون خوف ففيما بعد، وبعدما يشب نار الجمرة فى الهشيم بأكمله تسألها أختها "وإنتى ... مش خايفة ؟؟ "، تجيب فى رباطة جأش " لأ" ..
" إمتى يا هوا تيجى سوا" ... تغمض العينين، تسلم مقاليدهما لقدر لحظة قربت بينهما، تفرج عن شفتيها وتفسح لشفتيه بينهما مكان، ووقت التلامس تنقطع اللقطة، ومعها يتوقف سيل حميمية اللحظة، وكأنها لم تكن، أو بالأحرى وكأن وجودها لم يكن صحيحا من البداية .
الصور السابقة، بعض مما قدمه خان لهذا السيناريو المنغلق على ذاته، الموحى ببساطته والذى لا ينفتح إلا لروحا هضمته. الصور السابقة مفاتيح لخريطة دقيقة منمنمة، تماهت فيها الصورة مع خبايا الكتابة، شخصياتها وكلماتها. الصور السابقة شىء من روح الإنسجام التى عمت هذه المادة الفيلمية ما بين الصورة والكلمة والصمت والغنوة، والتى احتوت على حالة غيبوبية يظل عالقا فى ذهنك منها، صوت سعاد حسنى بفرحته وشجنه، ارتعاشة ذقن هيام "ياسمين رئيس" وهى تغالب البكاء بعيون محدقة على آخرها فى قوة وتعب، وصرخة الفتاة الصغيرة التى تولد فى الحارة الخانقة لتنتظر مصيرا يُشبه فتياتها المُعدمات .. إنه الوجع حينما ينطق بعفوية.
عن سيناريو جهنمى
هذا السيناريو الجهنمى، يأتى مكمن قوته، فى إدراكه أن الجمال والقُبح وجهان للعملة ذاتها، موضع البسمة هو ذاته موضع الألم، والصمت يشى بإحساسين متنافرين يمتلأ أحدهما عن آخره بضحكة مدوية والآخر بدمعة حارقة، فمع بداية الفيلم، وفى نفس الحارة التى توئد بناتها فى باطنها، نجد هيام وصديقتها وأختها وهم يتجلسون أرضا واطئة، يبتسمن ويتبادلن الضحكات وفى الخلفية سعاد حسنى تشدو "الدنيا ربيع .. والجو بديع"، كذلك فى مشهد الطريق إلى الرحلة التى تجمع بين فتيات المصنع، فالمُسجل البائس العتيق هو ما يدفعهم لإطلاق النكات وإضفاء حالة من البهجة، وأيضا أوقات الراحة وتناول الغذاء، ففى لمتهم يعم الهزل مرة ويلتففن حول ورقة جورنال تحمل حظوظهم الفلكية فيقرأن ويتندرن فى صفاء ورواح، بينما يتبادلن الإتهامات فى مرة أخرى وتبدو نفس الجلسة مشحونة عن آخرها بالكره والغل، والباشمهندس يظل فى الأعلى، يحرص الكادر فى بداية أول مشهد يأتى على هذه الجلسة أن يُبرزه أولا وهو فى موضعه الفوقى أعلى رؤسهم، ومن ثم تنزل الكاميرا إليهم لترصدهم وتجوب عالمهم المتلون المنحسر بين نصفين متناقضين من الشعور.
الباشمهندس يشبه تماما هذا العالم المتناقض، يبدو لطيفا، مُحبا، قادرا على العطاء، يفترش الأرض ورودا لهيام، ويعدها بحُلما محبوكا على مقاسها بالمللى، يبدو صادقا، تماما كضحكات البنات زميلات هيام بالمصنع، وخضاتهم عليها أثناء إغماءتها وشعورها بالغثيان، وبالرغم من أنه نفس الشخص الذى طمئنها بعينيه قبلا، هو ذاته من يحدقها شذرا، يشبعها احتقارا، يهددها ويلعنها ويتوعدها ويخوض فى شرفها، ويبدى ندمه على دخولها منزله، وهن نفس الفتيات، الاتى يوخزنها بنظراتهن، ويصببن عليها غيرتهن فى صورة تعفف واشمئزاز من فعلة أرادوا أن يصدقوا أنها ارتكبتها مع الباشمهندس، فلماذا هى بالذات من منحها حضنه وجسده؟ لماذا هى دونهن ؟؟ ..
الأم التى ترقع خد ابنتها أقلاما مدوية، وتقوى على شد خصلات شعرها بوحشة، هى ذاتها من تدافع عنها حد الموت وقت أن يزعم الرجال تأديبها، ترفع السكين وتستعد لأن ترتكب جناية فى سبيل أن تحمى ابنتها من براثنهم، وهى ذاتها من تُلقى برقة خصلات شعر ابنتها فى النيل وترتل فى تمنى "يا نيل ..خلى شعر بنتى طويل". كذلك نصرة صديقة هيام الصدوقة التى تغتم لحالها وفى الوقت ذاته تبدو فى لقطات معينة متضامنة مع فتيات المصنع فى الترفع عنها، وكأنها من طينة أخرى غير طينتهم التى تجاهلها المهندس وفقا لمخيلاتهم وفضل عليها هيام.
إن محاكاة سيناريو فتاة المصنع_الذى غزلته وسام سليمان_ لهذه القصة البسيطة، لم يكن فقط تعبيرا عن حالة مجتمع، وتجسيدا لمعاناة مهمشين، ولكنه مناقشة متوغلة النضج للنفس البشرية المتناقضة القائم عليها كل الشرور، هذه الطبيعة التى يوجد منها فى كل طبقة وشريحة مجتمعية، تلك التركيبة الإنسانية التى تتغير مثل موج البحر تبعا لما تحمله بداخلها من شعورين حقيقين وصادقين رغم نفورهما. إنه العالم الذى نحياه بأكمله، والذى يبقى اثتناءات من البشر لا يشبهونه، مثل هيام وخالتها، فهما الوحيدين من يسيران على الوتيرة ذاتها، يتصارحان أمام أنفسهما، وبالتالى هما دون غيرهما من ينالان أكبر قدر من الأذية والتشويش والتشويه.
عن محمد خان
سحر البيانولا لا يكمن فيما تعرضه، وإنما فى هذه الأجواء التى تمنحها تلك القماشة المعتمة التى يدخل بينها الزبون رأسه ليشاهد الصورة فى الداخل، هنا يربض الكنز ويحتفظ بقيمته، وعدسة محمد خان كانت بمثابة ظُلمة البيانولا التى تختطف الروح...
الكادرات الفوقية الكثيرة التى رصدت هذا العالم السفلى المتوارى، فى نفس التناقض الذى تحمله نفوس شخصياته، هذه الحركة المنتعشة للكاميرا التى تركض خلف الشخوص ومن قبلها الحدث، إنها تشبه قلوبهم المتطلعة وصدورهم التى تضج بالغليان والحيوية، الكلوزات التى تقرأ روح هيام بالذات، تُميزها عن هذا العالم الذى لا يشبهها بالمرة.
اللقطة التى ترصدها أمام المرآة ووجهها منشق إلى نصفين، تورية عن الروح التى انكسرت فى مشاهد سابقة أصر فيها الآخرون على أن يحيلا الحُلم إلى كابوس، الكادر الواسع الذى يجمع هيام وخالتها على مبعدة تحت نفس سقف الشقة التى يقومان بالخدمة فيها، فالشاشة تنقسم إلى جزئين، جزء تجلس فيه الخالة تحت نجفة كبيرة ومن ثم تقف هيام على الجهة الأخرى وهى تعتلى السُلم لتنظف نجفة أخرى تقف تحتها أيضا، هى نفس النسخة الآدمية بين ملامح العالم ذاته، ولكن الأولى ارتضت بما هى فيه، والثانية مازالت تدافع عن حقها فى الارتقاء.
هذا التوظيف الروحانى لصوت سعاد حسنى، الذى ربط ما بين أجزاء الفيلم ومنحه طلّة صوفية، تخدش العمق وتستحضر الدموع طوال الوقت، وخاصة حينما يأتى هذا الصوت العذب الذى يحمل الوجهين ذاتهم من الشجن والفرحة، الخنقة والإنطلاق، منزوعا من موسيقاه، وحيدا يتحدث باسم هذه الفتاة، التى لم يأتى اسم الفيلم ليمنحها ولو حتى تعريفا بالألف واللام، لتظل شكلا نكرة مضافة إلى كلمة المصنع.
عن ياسمين رئيس
إنها من صبغت على هيام هذا الحضور الأخاذ، من أكسبت هذه الطلة جلالها، وهيبتها، ونورها، من سايرت صوت سعاد حسنى، وإحتلت مكانا قيما فى التبارى معه، من صالحته وضمته إلى صفها، طوّعته حليفا لظهورها. ثمّة فارق بين الأداء، وبين الشعوذة، وما فعتله ياسمين لا يندرج تحت فئة الأداء التمثيلى العادى مهما بلغ ذروته فى الروعة، فهى من استحوذت بفطرتها العفوية على الأجواء بالفيلم، فكل شىء امتلكته بداية من هذه المقومات الشكلية البليغة، وهذه الإنسيابية فى الحركة والنطق والإحساس، تتلمذها تحت يد مخرج مثل خان، ولعبها دور مثل دور هيام. إذا هى الشعوذة فى ذاتها ما انطبقت على نتيجة هذه التركيبة، فستظل ملامحها عالقة دوما فى مخيلتنا، مشهد الإنتحار، مشهد المواجهة بينها وبين الباشمهندس، مشهد قص الشعر، ومشهد الرقصة ..
فهى دعامة أساسية من دعامات هذا الفيلم، ولم يكن أبدا غيرها أبدى بأن يلعب دور هيام بمثل هذه الروحانية الممتزجة بكل وجه من أوجه الجمال الذى خلقه الله على الأرض.
آخر كلمتين:
_ هانى عادل، دوما ستراه بنفس هيئته فى أى دور، نبرة صوت منخفضة، نظرات جامدة، وابتسامة معهودة، هانى عادل هو هانى عادل فى أى دور.
_ مزيكا الفيلم لم تكن معبرة على الإطلاق، فصوت سعاد حسنى هو من أنقذ الموقف بجدارة، ونفى هذه الربكة التى عانت الموسيقى التصويرية منها.
تعليقات
إرسال تعليق