التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"يومان وليلة".. إنعكاس المرآة الخالص

نُشر فى موقع عين على السينما
...............................................


"يومان وليلة".. إنعكاس المرآة الخالص


الخميس 13 نوفمبر 2014 11:22:00

"يومان وليلة".. إنعكاس المرآة الخالص








إسراء إمام



حينما أقبلت على مشاهدة فيلم "يومان وليلة" للأخوين داردان، طفقت أتذمر نوعا ما بعد ربع الفيلم تقريبا، هل لهذه المادة الفيلمية أن تسير وفقا لهذا المؤشر المستقر إلى حد التأفف. هل سنضطر كمتفرجين أن نبحث عن متعة ما بين تنقلات هذه السيدة بين بيت لزميل وآخر، لإستجدائه حتى يصوت لصالح بقائها فى عملها، بعدما أخبره صاحب العمل أن استمرارها يعنى خسارة علاوته المالية التى يعمل بكد ليحصل عليها؟ نفس الكلمات فى كل مرة، التوسلات والبكاء. وخطة الحدث التى لم تخذل التوقعات تكمل المسار بغير مبالاة.

حقا انتابتنى حالة من التململ، حينما بعثت بتوقعاتى للنهاية، وركضت وراء متوالية الصورة، وأنا أسلسلها تباعا وفقا لما أتنبأ به. سهم خيبتى فى هذا الوقت من المشاهدة بلغ الذروة، وانتابتنى حالة من اليأس. ولكن لسبب أو لآخر، ثابرت على إتمام الفرجة. وهو ما قلب الموازيين السابق ذكرها.

إذا نظرت فى المرآة وقبلها أدرت بعض الموسيقى، واحتفظت بإنعاكس صورتك وقتها فى مخيلتك، ومن ثم أوقفت الموسيقى، وعاودت النظر إليك ستجد الصورة قد احتالت إلى كيان آخر، قد يتسق فى الملامح الشكلية للصورة الأولى، ولكنه يحمل طلة أخرى ويبث إلي نظرك نكهة وجود مغايرة. ستختلف أيضا حينما تعاود تأمل إنعكاسك وأنت تتحدث إلى شخص ما، أو تمارس الرقص، أو ..، أو ....

الأخوان داردان، إختارا أن يُقدما لنا معايشة شديدة البساطة تتمثل فى هذه السيدة، وكأنها فى اليومين والليلة المشار إليهما، استماتت لكى تُبقى نظرها على انعاكسها المشوش فى المرآة. ونحن بصدد مراقبتها، نجدها واقفة فى صمت تتملى إنعكاسها، وقد إختار داردان الصورة المجردة لمراقبة هذا الإنعكاس، فى هدوء، يشى ولكنه لا يبذل عناء فى لفت نظر المتفرج، ويضع ضرورة توريطه كأولوية أولى. بينما صاغ له الصور المتتالية لهذا الإنعكاس مغلفا داخل إطار ردات فعل ساندرا "ماريون كوتيار" ليشير إلى الصراع المتفاقم الذى يأتى من داخلها. ويبقى بالنسبة لمن يصر على النظر من بعيد، مجرد وقفة بائسة أمام مرآة لن تتعدى كينونتها الشكلية.

ساندرا
إمرأة تقف على حافة الإنهيار، فى الظاهر تدخل فى قتال لكى تستعيد وظيفتها. ولكنها فى حقيقة الأمر، بصدد الرجوع إلى ذاتها خلال هذه الرحلة التى لا تبدو شاقة إلا بالنسبة لها. فمن البداية لم يركز السيناريو على إبراز أى تبعات ملموسة لخسارة ساندرا لعملها. فقط طريقة تلقيها الأمر هى ما تجعلنا نخمن هوله وصعوبته. ولكننا فى المقابل، نجد أسرة محدودة الأفراد، تعيش فى منزل يسر الناظر، وتحيا بنوع من الأناقة حتى وإن كان بسيطا. قد تتغير هذه الأمور بعدما تنقطع أموال عمل ساندرا، ولكن رؤية هذا الوضع المريح فى مقابل ركوض ساندرا خلف إستعادة عملها، وهلعها من فقده، يدفعنا إلى تأمل الأحداث من وجهة نظر أخرى تخص ساندرا وحدها.


هى إمرأة جميلة، تغالى فى إهمال مظهرها والإعتناء بأنوثتها، وفى المقابل تواظب على إدمان المهدئات. هذه الأعراض النفسية القوية وغيرها من بكاء مستمر، ونوبات عدم القدرة على النطق، توحى بما يعتمل فى صدر هذه المرأة من ألم.

لم يهتم السيناريو بإيضاح مسبباته بشكل تفصيلى. ولكنه دلل على دافع هام من دوافعه وهو التلميح حول شحوب علاقتها بزوجها على الرغم من صحة جانب الزوج، فى تصرفاته الداعمة على الدوام، والمهتمة على طول الخط. إلا أن ساندرا فى مشهد ما، تخبره بأنه لم يعد يكن لها الحب، بقدر ما يشفق عليها. وفى الوقت ذاته ترمى إلى عدم ممارستهما الجنس منذ شهور. اعترافات ساندار هذه يتلقاها المتفرج فى وقتها، بنوع من التصديق، أو على الأقل التشكك فى الوجه الآمن لما يبديه الزوج. ولكن بعدما تتقدم الأحداث، وتتأتى تبعات محاولة ساندرا الإنتحار، يُسلل إلينا السيناريو شيئا من اليقين، الذى يبرأ ساحة الزوج، ويضيف إلى تشوش نفسية ساندرا، وعدم قدرتها على بلوغ رؤية واضحة لكل ما يحدث من حولها.

لم يبالى السيناريو بترتيب ما أصاب ساندرا. هل إحساسها بالضآلة المتقدم كل أفكارها، والمغير لمسار تعاملها مع أدق الأمور، هو ما أوصلها إلى هذه النفسية المهزوزة، أم العكس.

ولكن السيناريو نسج هذه الحالة البائسة فى براعة. وخلق دورا ثريا ممتلئا بشتات هذه السيدة. التى قبل محاولة الإنتحار، وفى كل مرة تذهب إلى منزل أحدهم يُنتقص من داخلها شىء. لأنها فى بساطة تقيّم الأمر من جهتها بشكل سىء، يدعو إلى النفور، ويدفع المتفرج نفسه إلى تصديق الوضع الرخيص الذى ترى فيه نفسها. ولكن بعدما تتبدل نظرتها هى لما يحدث (بعد محاولتها الإنتحار، وشعورها بنوع من كذب نظرتها حيال شعور زوجها، ومعنى قتالها لعدم خسارة عملها) نجد أنفسنا أكثر تأقلما مع ما تواجهه.

فى هذا التوقيت من الطرح، يُبدى جانبا إيجابيا فى كل شىء، قسمات ساندرا، نبرة صوتها، وابتسامة ما بدأت تتقافز عنوة فوق شفتيها. ونستمع إلى زميلتها وهى تخبرها بأنها ستترك زوجها، ذلك الزوج الذى يتدخل فى حياتها لدرجة مشاجرتها بإستماتة حول تلقيها علاوتها من عدمها، فتقول الفتاة إلى ساندرا " سأترك زوجى، لأول مرة أتخذ قرارا فى حياتى". فبعدما كانت تنظر ساندرا إلى إجتهادها فى إستعادة عملها كنوع من التحريض على العنف، نتيجة لما كانت تراه يحدث بعد زيارتها لبعض منازل زملائها من شجار بينهم وبين ذويهم حول موقفهم من التصويت لها. نجدها كانت سببا فى مساعدة أحدهم فى التخلص من جانبا كابوسيا فى حياته، لم يجرؤ على التنصل منه قبلا. (إنها متوالية تغير صورة إنعكاس المرآة فى صمت).

حقيقية التنفيذ
كما أشرت من قبل، إختارالأخوان  داردينى الصورة المجردة لمحاكاة هذا الإنعكاس الداخلى لساندرا، دون أية تدخلات جانبية. فنجد تنفيذ الفيلم، إلتزم بهذا المنطق بالتبعية. حيث تبدت الكاميرا فى حركتها حرة، نابذة لقيود المونتاج إلا فى أضيق الحدود المحَتِمة للقطع، تتنقل بين الوجوه التى تتحدث فى انسيابية، وتلاحق خطوات تحرك الممثلين بالمشهد من مكان لآخر فى حيوية. إلى جانب عدم اللجوء لإستخدام الموسيقى، والإعتماد كليا على لغة المحيط المجاور.

فى حالة من الحالات النادرة التى على الرغم من تكررها فى أفلام كثيرة، تدفعنا دون غيرها لتذكر مقولة انطونيونى " إن أصوات الطبيعة والمؤثرات، كما يسجلها الميكروفون مباشرة، لها قوة لا يمكن الحصول عليها فى التسجيل اللاحق" . إنه إنعكاس المرآة الخالص بكل ركونه الشكلى، وصخبه المتوارى.

آخر كلمتين:
دور ساندرا كان مستعدا ليفقد كل حضوره، إن لم تلعبه ماريون كوتيار التى وافقت على لعب الدور على الفور، من قبل قراءة السيناريو.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...