نُشر فى موقع مصر العربية
.........................................
.........................................
إسراء إمام تكتب.. عن سينما رومان بولانسكى...معزوفة مهيبة وشهية
سينما رومان بولانسكى
فى أحد أفلام رومان بولانسكى، "death and the maiden " تقوم المقطوعة الموسيقية لشوبرت بدور البطولة الموازية، على خلفيتها يشتعل الموقف، تحتدم المقدمات وتحتال لنتائج فورية، تقبع ما بين الدموية القانية والتسامح الرائق.. المقطوعة تظل رابضة خلف أكتاف الأبطال، أسفل خطواتهم وفى حضن كلماتهم، تحملهم حملا وتُشكل بهم أنامل الوقت، فيتلاشى كل شىء ويبقى هم وهى، وبعض من اللذة والاحتقان.
مثل فعلة هذه المقطوعة، يكون أثر سينما بولانسكى فى مجملها على المتفرج. هذا المخرج البولندى الذى اختطفته غواية هوليود، فأتاها وهو متشبث تحت إبطيه بهويته السينمائية المتميزة. فأهمية رومان بولانسكى كمخرج تؤهله هو دون غيره، ليتشابه مع قائد الأوركسترا، يرفع ذراعيه متهملا فيقبض بكفه قلبك. يهدهد عصاه فى تؤده فيخلع عنك هدوءك. وكأنه اختبر مكامنك الهشة، يعلم عنها أكثر منك. فهو المخرج الذى يعرفك أكثر من أفلامه، فيمهد لفيلمه تعارف يليق به عندك.
بولانسكى المواضيع
(التشويق)
اشتهر بولانسكى بميله لتناول المواضيع ذات الطابع التشويقى، وأحيانا الرعب النفسى. ومن أشهر أفلامه بخصوص هذه الخانة، فيلم 1968 Rosemary's Baby ، وهو الفيلم الجيد ولكن ما يندرج إلى جانبه فى نفس الخانة من إنتاج بولانسكى، فهو بلا شك أجود، غير أن هذه الأعمال لم تحظ بالمشاهدة الكافية، ولم تنل حظها المُستحق من الشهرة. ففى عام 1965 قدم بولانسكى أحد أفضل أعمال كلاسيكيات الرعب النفسى فى فيلم repulsion، وهو الفيلم الذى يسرد قصة عن أحد مرضى الفصام، بمعالجة لم يتطرق إليها غيره قبلا ولا بعدا، فبولانسكى اختار أن يضع متفرجه فى حالة التحام قاسية ومنفردة داخل نفس هذه المريضة، التى تتطور حالتها الفصامية بعدما تتركها أختها بمفردها لعدد من الأيام.
كعادة بولانسكى يستخدم رؤيته المكثفة، وتمَحوره الصادم حول الموضوع، فيغلق على المُشاهد منافذ الخروج من عقل بطلته المُهشم. يفرد له مساحة من العيش_ بدون شروح أو تفاسير_ مع خيالات الفتاة، هواجسها، وهلاوسها المرئية. ليبقى هو وهى وشريط الصوت الصامت، والذى لا يفض مساحة سكوته الغليظة سوى دقات الساعة ونقاط مياه الصنبور. الأيام كاملة بكل تفاصيلها يحياها المُشاهد محبوسا داخل أبوهة الشقة العملاقة التى تسكنها الفتاة، بعيدا عن تشخيص الأطباء، أو الكلام حول طبيعة المرض من على مبعدة، إنك الآن ليس بصدد مشاهدة الكابوس وإنما إختباره. ولهذا تم تصنيف فيلم repulsion على إنه من أخطر 25 فيلم فى تاريخ السينما.
أعاد بولانسكى نفس التيمة الفصامية، ولكن بصورة أخرى فى فيلم the tenant 1979 ، فظهر البطل الذى بفضل تآمر كل الظروف المكانية من حوله، وبإيعاز من طبيعته الحساسة، يتحول إلى حالة فصامية بشعة، وينتهى به الأمر للإنتحار كالفتاة التى كانت تسكن نفس غرفته من قبله. والتى دفعته بشبح حكايات الجيران عنها، وحاجياتها المنثورة فى غرفته، والذعر الذى يحاوطه إثر رحيل روحها فى إطار غامض، إلى أن يتحول إلى مسخ عنها، تتيقظ فى داخله مشاعر مضطربة، ويبات أكثر عُرضة لأن يدخله المرض ويقضى عليه فى أيام قليلة. الرحلة ما بين قدوم البطل فى أول الفيلم لطلب السكن، وحتى مشهد إنتحاره المُفجِع يُلخصها بولانسكى فى براعة، يتكأ فيها على التدريجية المتباطئة للذعر التى ساورت نفس الشاب من عدة تفاصيل دقيقة، قد تبدو غير ذات أهمية، ولكنها كانت فى الحقيقة رأس العطب وقدمه. هذا الإتقان فى إلقاء الضوء على كل تفصيلة وفى الوقت ذاته تمريقها بإحساس يوازى إحساس البطل فى عدم الوقوف عِندها، خلق من الحدوتة الملحمة البولانسكية المعتادة، المتمكنة من عُنق الحالة متنازلة عن حكاية مكتملة الأركان، أمام إكتفاءها بحياكة منظومة شعورية متدافعة كموجات بحر، تُشبع حواسك كافة.
وفى فيلم frantic 1988 يعود بولانسكى بتحدى آخر، فيقدم قصة شديدة التقليدية، خالقا منها فيلما مشوقا يختلف تمام الإختلاف عن الأفلام الشبيهة، القائمة على حادثة إختطاف يهرول فيها البطل خلف الحقيقة، والوصول إلى زوجته المفقودة. فترى كافة مفردات بولانسكى فى صياغة الحدث ماضية فى عملها، بدون أن تعرقلها عادية الحدوتة المطروحة، بداية من المشاهد الأولى التى يأتى فيها البطل وزوجته إلى باريس، والجمود الفرنسى الذى يحاوط أمريكانيتهم الغريبة. إنه بداية الخيط الذى يحدد مسار المعالجة، ويضبط مؤشرتها عند درجة الإرتباك الذى سيعانيه البطل طوال بقية أحداث الفيلم، حتى مع أكثر المواقف التى يتطور فيها الحدث، يظل التركيز على المزاجية المشتتة المقبضة التى يعانيها البطل، عوالمه الداخلية، ولهذا يثب إليك القلق وثبا من دون أدنى إفتعال، ويصلك ذاك الإحساس المُشوش الذى يشعر به البطل صوب الفتاة التى تشاركه البحث عند أحداث منتصف الفيلم، فبدون كلمات، تتمكن هذه العلاقة الصامتة منك ويكن لها أثرها القوى بعد المشاهدة، فبولانسكى يُفصح دوما بغير حديث.
أما death and maiden 1994 ، فقد إنتقل فيه بولانسكى إلى معالجة أكثر تكثيفا، وحدث أضيق مساحة يدور فى مكان واحد وعدد ساعات مُختزلة وقاسمة، حيث يقع أحد العابرين رهن إحتجاز زوجين يسكنان منطقة نائية بعدما كان ضيفهم ، لأن الزوجة طابقت هويته مع هوية رجل قام منذ زمن بإختطافها، وإغتصابها على نغمات مقطوعة death and maiden لشوبرت. وبين إصرار الضيف على كونه برىء، وإثارة الشكوك حول الصحة النفسية للزوجة من بعد حادثها القديم، تبدأ نقطة إنطلاق الفيلم، والتى يعتمد عليها بولانسكى ليخلق ملحمة أخرى من ملاحمه القوية فى صناعة مبدأ السرد التشويقى. مستخدما كافة الأدوات الممكنة بداية من شكل السرد وحتى إدارة أداء الممثل. ف death and maiden يعتبر أقوى أفلام بولانسكى من حيث التعامل مع تطويع أداء الممثلين لخدمة الحبكة البولانسكية، فهذا المخرج المتجتهد لا يتكتف بالطبيعة التى تفرضها عليها الموضوعات التى يختارها، وإنما يجد دوما لأسلوبه منفذ، يضفر به الموضوع فى أناقة تُشير إلي اسمه بحذر، وبدون مجهود فى لفت النظر. أفلاما أخرى جاءت ضمن إنتاج بولانسكى تحت نفس الخانة ولكنها على الرغم من جاذبيتها، ونيلها سهما من الصيت إلا أنها لا تجارى الأفلام السابق ذكرها منها فيلم the ninth gate 1999.
(ما دون التشويق)
يعتبر الكثيرون فيلم china towen 1974 من الأفلام التى تنتمى لللون السينمائى الذى اشتهر به بولانسكى، وهو التشويق. ولكن فى حقيقة الأمر أن هذا الفيلم (وهو من الأفلام ذائعة الصيت) ينتمى إلى سينما أكثر تأملا، خاض فيها بولانسكى غير عابئا بقولبته داخل نوع واحد من صناعة الأفلام. فقدم فى الظاهر قصة غامضة حول محقق يبحث عن قاتل، ولكنها فى الواقع قصة فساد إجتماعى وإنسانى وسياسى بحت، تكشف فيها المعالجة (بدون مباشرة) بؤرة السواد الذى يحيط بهذا الحى المسمى بالحى الصينى، والذى تتسرب بين مزقاته وأروقته خيالات الجرائم وتتلاشى من دون أثر. فنجد بولانسكى عند هذا الموضوع الخاص، قد حيّد عدد لا بأس به من أدوات صياغة الحدث التى استخدمها فى الأفلام السابق ذكرها، خالقا فى سبيل هذه النقطة التى يريد أن يبلغها بسهولة أدوات جديدة، تمكنه من إلقاء الضوء على هوامش الموضوع وملابساته، بعيدا عن تهئية الأجواء للمزاجية النفسية المتوترة، وإنما الحرص على منح متفرجة مساحة من التعاطى الفكرى. فيدلل على ذكاء متفرد فى قدرته على التلون من دون المساس بشخصه وبصمته كمخرج، مع إتقانه إصابة هدفه وتمريقه للمتفرج بغير مجهود.
ولكن بالرجوع لعام 1966 سنرى أن فيلم cul_de_sac ، يطرح تيمة أكثر إختلافا لبولانسكى بخصوص جرأة خطوته التى تتسم بالتنوع_ والتى نالت دون غيرها بعض الشهرة _فى china towen، فكما سنرى ثمة عدد من الأفلام التى يمكن أن نصف إقدام بولانسكى على إخراجها بالمجازفة، وخصوصا مع مرور وقت وتحوله إلى طور المخرج النجم. ولكن بداية، لنا أن نتكلم عن تجربته مع cul_de_sac وهو الفيلم الذى كان شارعا فى إخراجه قبل فيلم repulsion، ولكن بحساب بسيط لمخرج مازال فى مرحلة تسويق نفسه، أجل هذا المشروع لما بعد repulsion لأنه كان يعى جيدا، مدى النجاح الجماهيرى الذى سيحققه هذا الفيلم، مما سيمدد له مدارك فرصة أكثر ملائمة على المستوى الإنتاجى، لتنفيذ حلمه ومشروعه فى cul_de_sac. الفيلم يتناول معالجة شديدة المحايدة، لرجل وإمرأة يعيشان على جزيرة أشبه بتكوين أسطورى، يأتيهما رجلان، تتضح فيما بعد هويتهما الإجرامية، واحد فيهم ستوافيه المنية إثر إصابة غامضة أتى بها، والثانى سيكمل إبتزازه لهما. الفيلم أبعد ما يكون عن الإطار التشويقى، ولكنه يدور فى إطار كوميدى بيّن، وإطار إنسانى متوارى وخبيث، وهنا يكمن مجهود بولانسكى فى إبراز العلاقة الواشية ما بين الزوجة والقادم الغريب، على الرغم من عدم حدوث ما يستدعى التعويل عليه بينهما، ومنها إلى العلاقة الخربة بين الزوج وإمرأته، والتكوين الغريب الذى يجمع بين إمرأة شابة متزنة وجميلة برجل جبان خفيف العقل. إن كان ثمة غموض فى هذا الفيلم، فهو تلك المساحة التى أصر بولانسكى على تعتيمها ما بين العلاقات الثلاث. الرجل وإمرأته، الرجل والغريب، والمرأة والغريب. مع بعض الإستعانات بالرمزيات الطفيفة التى حرص أيضا على ضرورة إنغلاقها على معناها حتى نهاية الفيلم. ثمة مشهد فى هذا الفيلم بين الرجل والغريب، هو المشهد الوحيد الذى يُفصح فيه السيناريو من دون سكوت، حيث يتحدث البطل عن علاقته مع إمرأته _بشىء من التحفظ_ وقد صُنف هذا المشهد من أطول المشاهد المكتوبة فى تاريخ السينما. Cul_de_sac من أفلام بولانسكى المثيرة للجدل، ليس لجرأة موضوعها أو إختلاف التعاطى معه، ولكن لإنه فيلما بسيطا لدرجة التعقيد. يحرص مخرجه فى كل مشهد، على أن يراه المتفرج من منظور سطحى وعادى، ويتعمد إخفاء ما بين السطور لدرجة التطرف، فإعادة المشاهدة هنا، مباحة ومختلفة المنطق عن أى إعادة مشاهدة قد تقوم بها لفيلم ما طوال حياتك.
كم من مخرجين تناولوا فاجعة ماكبيث، ولكن عندما نشاهد ماكبيث بكاميرا بولانسكى، لن يسعنا سوى أن نُطلق عليه Macbeth Polanski. ففى عام 1971 قام بولانسكى بعرض رائعته the tragedy of Macbeth، والتى وإن كانت تقم على المبادىء الجمالية لملحمة شيكسبير، فهى تُرسى قوانينها الخاصة فى السحر. فمن جديد يدلل بولانسكى على قدرته الثعبانية فى التلون دون المساس بأصل الحكاية وبغير تنازل عن منهجه كمخرج. لم يتخلى عن الكلاسيكية التى تغلف المأساة المشهورة، وأفسح لها فى المعالجة قالبا واضحا، سواء فى الحوار أو سرد الحدث، ولكنه فى الوقت ذاته فتح لنفسه أبوابا جهنمية داخل المشاهد المصورة، نشعر فيها ببصمته وموارباته ودفقات الأرق النفسى الذى يبث صدر المتفرج به، فمد أصابعه وضغط على الخيالات التى تركها شكسبير بين سطوره، نفذها كما يجب أن تكون. فخلّف معنى وحقيقى فى نفس المُشاهد وهو يرى الليدى ماكبيث تستميت فى تنظيف يديها من الدماء، بعدد مرات مشاهداتك لهذا المشهد، لن يبلغ بك تصديق هذه الصورة التى كتبها شيكسبير على الورق إلى حد الألم إلا فى فيلم بولانسكى.
ثمة فيلم آخر يعد أكثر أفلام رومان بولانسكى إختلافا، وهو فيلم tess عام 1979 والذى يتناول فيه قصة مراهقِة ريفية، تتمزع بين التقاليد المجتمعية والدينية المزيفة، وتفقد حياتها ثمنا لبراءة لم تعد موجودة فيمن حولها. Tess من الأفلام التى تكشف وجه بولانسكى الصبور، الذى يعمل وفقا لمبدأ التحضير للفكرة بعد استيعاب كافة مناحيها. ولكنه لايزال مُصرا على صمته والتركيز على إجادة تنميق الحدث، والإنتقال بمستويات تطوره إلى ذورة الإتقان الفنى، ليفصح عن حاله دون إبتذال. يتعامل بولانسكى هنا، مع أرض جديدة تماما عما وطأه من قبل، شخصية مثقلة وغنية ومعقدة، تتعرض لمواقف أكثر إلتباسا ورمزية. ولكنه يعى ما هو مقدم عليه جيدا، بحيث يتعامل بحرفية واضحة وكإنه متمرس فى التعامل مع نوعيات سيناريو مماثلة، مع العلم أن tess سيناريو يختلف تماما عن طبيعة التيمات التى أعلن بولانسكى فيها قدرته على التنوع. فهو رحلة هادئة، متمهلة منذ البداية للنهاية، لا تمر بمنحنيات الصعود والهبوط الذى يعول عليه فى السينما القادرة على خطف المشاهد بسهولة، وإنما تنطوى على قدر كبير من الفلسفية.
bitter moon 1992 من أفلام الموضوعات الجريئة، ليست فقط مقارنة بشغل بولانسكى السابق، وإنما بكافة التناولات السينمائية القائمة على فكرة جنسية، مضفرة بإشكالية عاطفية شديدة التماهى. وبالرغم من أن الفيلم جذاب إلى أقصى درجة، وممتع إلى ذات الحد إلا أنه من الأفلام التى فقد فيها بولانسكى شخصيته إخراجيا، وبقى له فضل إدارة السيناريو والإلمام بحالة الفيلم وفكرته وموضوعه، ولكن بغير البصمة البولانسكية، فإن كنت تشاهد bitter moon دون إطلاعك على التترات، لن تتعرف على هوية رومان بولانسكى، رغم أن هذه الميزة تشترك فيها كل أفلامه جُملة ماعدا هذا الفيلم الذى خرج عن طوعه.
أفلام أخرى بدت خارجة عن نمط اللون السينمائى الذى يقدمه بولانسكى، منها ما نال قدر معقول من الصيت مثل، the pianist 2002 ، oliver twist 2005، the ghost writer 2010 ، وأخيرا carnage 2011 . وعلى إختلاف طرح موضوعات هذه الأفلام تبدى بولانسكى مستأسدا، محافظا على منهجه الإخراجى الدهائى، والذى لا تخطأه العين أو البصيرة على مستوى كلى.
بولانسكى الصورة
فى الأفلام الأولى لبولانسكى(مرحلة الأبيض والأسود) تتميز كادراته على مستوى المضمون، ففى repulsion مثلا، نجد عدد من الكادرات التى توضح المحيط الموحش بالفتاة المريضة داخل شقتها، أيضا يأتى الكادر الملفت وقت ردة فعلها حينما استفاقت وأدركت أنها ارتكبت لتوها جريمة قتل، حيث إلتقطت الكاميرا وجهها بكادر سُفلى قريب، يبرز ملامح وجهها المقوسة والمرتعدة بطريقة غير عادية، تنم عن اضطرابها النفسى الملحوظ. كادر آخر بدا متميزا، حينما تلتقطها الكاميرا فى وضع ثابت وهى تتناول قطعة ملابس متسخة من الأرض بجزع مائل، ومن ثم تتسمر فى هذه الوضعية لوقت، مع حرص الكادر على حجب قسمات وجهها تفصيليا. وفى cul_de_sac تتعدد الكادرات التى تبرز بيت الزوجين كقلعة منعزلة عن العالم، كما يأتى الكادر الأكثر جمالا، فى المشهد الذى يتحدث فيه الزوج مع الغريب عن علاقته بزوجته، أثناء جلستهما على الشاطىء، والمحيط من حولهما رائق وكأنهما فى بقعة ليس لها وجود على أرض الواقع، وبينما يصف الرجل حبه لزوجته، تتبدى هى على مبعدة ذهابا وايابا عارية قبل وبعد إعلان نيتها فى السباحة.
حينما دخلت الألوان أفلام بولانسكى، بدت صورته أكثر انتعاشا، وألوانه جلية واضحة لا تخطأها العين. ألوان دامية مشتعلة، واضحة ومغرقة فى صبغتها. وبدا التكوين فى الصورة متخذا محنى جمالى بحت. معتمدا على مناطق الظل والنور، ومهارة توزيع الإضاءة وبالطبع ضبط درجة الألوان. فنجد فى فيلم tess مثلا عدد من الكادرات الجمالية البديعة، مثل ذاك الكادر التى جاءت فيه تيس لتهرب مع حبيبها بعد قتلها لزوجها، فنجدها تقف خارج القطار وتنظر له من خلال النافذة بينما يتسع الكادر لجلسة حبيبها داخل القطار، فتتبدى هى من خلف الزجاج بصورة مشوشة وشاحبة، لها دلالة جمالية تشكيلية وبصرية خالصة، ولكنها أيضا توحى بقرب موعد تلاشى هذه الفتاة من الوجود (حكم إعدامها). كادر آخر، تجلس فيه تيس لتكتب رسالة إلى حبيبها على ضوء الشموع، ذاك الضوء الأصفر الحامى الذى يتواجد دوما فى أفلام بولانسكى الملونة ليس مقتصرا على الشمع فقط بينما يظهر حتى فى الإضاء الكهربائية بأفلام أخرى. تستغرق تيس فى أفكارها وهى تخط سطورها لحبيبها، ومن حولها الشموع تعكس إضاءة شبيهة بألوان الزيت فى اللوحات، مُحدثة تباين خرافى مع ألوان ملابس تيس المائلة إلى الأخضر الغامق. أنت أمام لوحة زيتية لا محالة. كادر آخر، تظهر فيه تيس نائمة بينما يبزغ الفجر وتترامى أصوات خيول الجنود التى جاءت لتقتادها إلى الموت، فنراها فى نومها بفستانها الأحمر الحاد والواضح فى لونه محاوطة بالضباب رمادى اللون، والذى يبتلعها فى جوفه، وكأنها بكل وجوديتها لم يكن لها مكانا فى الأساس بين أحشاء هذا العالم .
وفى ماكبيث، نجد الكادر الفوقى الرائع، المُسلط فوق نومة ماكبيث والليدى، بإضاءة حمراء دامية إثر إرتكاب جريمتهم فى حق الملك. إضافة إلى كادرات ظهور الساحرات، وقد تفشى فيها اللون الذهبى اللامع والدخان القاتم فى مظهر كابوسى ملفت. ولابد أن نتوقف عند الكادر الغير مسبوق فى تعبيره عن تنبأ الساحرات بتحرك غابات برنام، فتتبدى عروش الأغصان على مبعدة ناحية الأفق والشمس فى دائرة محتقنة صغيرة من خلفها، مُغلفة بمحيط قاتم (له سمة اللون الرمادى الداكن بأفلام بولانسكى)، يُخيل لنا فيه أن الغابة تتحرك بالفعل، وبعدها يعود بولانسكى بالكاميرا على وجه ماكبيث وقد اكتسب بعض من حُمرة الشمس وإحتقانها وهو يراقب هواجسه تتحقق أمام عينيه، ومن ثم يعود لنفس الكادر السابق وقد اقتربت الأغصان أكثر وجسدت شكل الغابة المخيف. إنه حقا أكثر تعبير مرئى يفوق ما قد تمناه شيكسبير لموقفه الشهير، المحكى بمخيلة فضفاضة، تحتاج إلى مثل هذه القشعريرة البصرية لتُنال من هولها.
بولانسكى الكواليس
تعامل بولانسكى مع عدد من الممثلين المختلفين، فهو من المخرجين المفضلين للتنوع فى الإعتماد على الممثل، فنجده فى repulsion يتعامل مع الفرنسية الجميلة كاترين دى نوف، وفى china towen مع جاك نيكلسون، ومع هاريسون فورد فى frantic ، سيجورنى ويفر وبن كنجسلى فى death and maiden ، جونى ديب فى nineth gate، هيوجرانت فى bitter moon، أدريان برودى فى the pianist ، إيوان ماكجريجر وبيرس بروسنان فى the ghost writer ، كيت وينسلت وكرستوفر والتز وجودى فوستر فى carnage. أسماء كبيرة لا معة لم يكرر أبدا التعامل معها، إلا فى حالة واحدة مع بن كنجسلى فى oliver twist .
معظم أفلام بولانسكى قائمة على أصل أدبى، والفيلمين death and maiden و carnage تحديدا يقومان على أصل مسرحى.
أغلب مشاهد القتل عند بولانسكى تتعمد الكاميرا ألا تجرح حرمتها، بل تتركها عُرضة لجموح المخيلة، فيكن التأثير أقوى. مثلا فى repulsion حين عودة الأخت وإكتشافها الجثة المكومة فى حوض الإستحمام، تصرخ من دون أن تُفصح الكاميرا عن الصورة التى أضحت عليها هذه الجثة المركونة منذ أيام مضت. وفى tess تتعرف الخادمة على مقتل سيدها، حينما تتعجب من مغادرة سيدتها المنزل على عجل، وإذا بها تنظر إلى سقف فتجد بقعة حمراء تتسع هوتها. يتكرر الأمر فى oliver twist فحينما تُقتل الفتاة التى ساعدت تويست فى التخلص من خاطفيه المجرمين، لم ترصد الكاميرا منظرا واحدا لرأسها المهشم، حتى حينما أتى أحد الجيران وأكتشف الجثة ومضى يصرخ ويطلب النجدة، ظلت الرؤية محجوبة.
مشاهد لن تنساها
Frantic
يدخل الزوج حوض الإستحمام، يغلق الباب الزجاجى، وتأتى الكاميرا من خلفه لتُبينه فى وقفة جانبية يستمتع فيها بالمياه، وفى المقدمة يظهر جزء من الغرفة تجلس فيه الزوجة على مبعدة فوق الفراش وإلى جانبها الهاتف، يتضح من حركة الزوجة برفع سماعة الهاتف أن ثمة مكالمة حُولت على الغرفة، لم يُسمع صوت الهاتف، لأن الجلبة التى يُحدثها الزوج فى الصورة القريبة هى التى تتصدر وحدها شريط الصوت، تتحدث الزوجة فى الهاتف، ومن ثم تتبدى وهى تنادى على الزوج لتخبره بشىء ما، يُكرر لها أنه لا يقوى على سماعها، ويُكمل حمامه فى لامبالاة، تتوارى الزوجة خلف الجزء الذى لا يظهر من الغرفة فى الكادر، ويظل الكادر يقترب من الفراغ الذى أحدثته الزوجة بإختفائها من الشطر الواضح من الصورة، وبعدها تختفى الزوجة إلى الأبد، ويضطر الزوج للبحث عنها طوال أحداث الفيلم.
Frantic
فى حلقات البحث عن الزوجة، يتوصل الزوج لعنوان أحد الشخصيات التى يشك فى تورطها بالأمر، يذهب إلى منزله، فيجد الباب مواربا، والشقة فى الداخل مظلمة بأكملها إلا ضوء ضعيف يأتى من غرفة بابها هى الأخرى مواربا على مبعدة، يدخل الزوج فيكتشف جثة رجل بالداخل. وهو فى حال خروجه من الشقة، يحاول إغلاق بابها بإحكام ومن ثم يخرج من الكادر، فيبقى الكادر ثابت وهو يلتقط باب الشقة الذى ينفتح فى بطىء رتيب ثانية، لتظهر قدم الجثة من على مبعدة تحت الإضاءة النصفية التى دخلت من باب الغرفة الذى فتحه البطل عندما دلف إلى الشقة.
The tragedy of Macbeth
يفتح عسكر ماكبيث باب قلعة ماكدوف على مصراعيه للجنود، تنتقل الصورة على زوجة ماكدوف وهى تُحمم ابنها فى الدور العلوى، تتحدث الأم بخفة ظل مع ابنها المجادل، ومن ثم تلِفه بملاءة بعدما تنتهى من تنظيفه، يقطع حوارهما صراخ آتيا من الأسفل، لا ينتبهان إليه ويمضيان فى الحديث، وبعد وقت يعود الصراخ بنبرة أفجع، فتصاب الأم بنوبة ذعر، وتجرى إلى الخارج، فتجد رجال ماكبيث قادمون على الدرج، تدخل الغرفة ثانية وتحاول حماية الصبى، ومع قدوم رجال ماكبيث إليها هى وابنها ومواجهتهم لها يسألونها عن مكان زوجها الخائن، يخرج الصغير من خلف أمه، ويجرى صوب الرجل الذى نعت أباه بالخائن، يضربه وينهيه عن إطلاق هذه الصفة على والده، ومع استدارة الصبى نحو أمه من جديد، تجده يأتى إليها بخطوات وئيدة، وقسمات محتقنة ومن ثم يقول " لقد قتلنى يا أماه"، تتغير الزاوية، وتأتى الكاميرا بظهر الصبى، وتبرز البقعة الصغيرة الحمراء فوقها، والتى ما إن تخبطها يد الأم وهى تحضن صغيرها، يسيل دم غزيرعلى كفها. فى هذا الوقت تماما تتتعالى الصرخات من الطابق السفلى مرة أخرى فى وحشية، ووفى محاولة هجوم أحد الرجال على الأم، تهرع إلى الرواق خارج الغرفة، فيهالها منظر الجنود وهى ملتفة حول أحد الخادمات، يتناوبون على إنتهاك جسدها. فتهرع إلى غرفة أخرى لتجد أولادها الصغار جميعا مذبوحين والدماء تغطيهم.
The pianist
حينما يهاجم الجنود الألمان المبنى الذى يختبأ فيه البطل، يضربون المنزل بقذيفة تهدم نصف الشقة تقريبا، ليصبح النصف الآخر فى العراء، يغزوه ضوء النهار القوى، فى نقلة بصرية قوية بعدما اعتادت العين على رؤية الشقة بأجوائها المعتمة. وقد تزامن مع صوت القذيفة المدوى، صوت صفير عالى يصدر عن أذن البطل مع صمت مكتوم مقبض. وكأن القذيفة صوتيا ومرئيا نقلته غلى عالم آخر.
The tenant
تقترب الكاميرا من وجه البطل بالتدريج، ومن ثم تنتقل الصورة _من وجهة نظر البطل من الشرفة_على الجيران، وقد فتح كل منهم نافذنه، وأطل منها بأبهى حلة للسهرة، الكل منهم يترقب، والفواصل ما بين نوافذهم زُينت بستائر رسمية إحتفالية، والموسيقى فى الخلفية أشبه بموسيقى السيرك. تعود الكاميرا على البطل، وقد وقف على حافة نافذته فى تحفز، ومن ثم تتحرك الكاميرا للأسفل لتُبرز السقيفة الزجاجية التى سبق وانتحرت فوقها الساكنة السابقة(سيمون). يقفز البطل على السقيفة لتتهشم، ومن ثم تلتقطه الكاميرا وجسده فى وضعية معكوسة، ساكنا بلا حراك ومن الواضح أن قدمه اليسرى تعانى من كسر مفجع. بعد عدة لحظات ليست هينة يأتى الجيران مفزوعين من نومهم ليتبينوا ماهية صوت السقطة، وعلى جلبتهم يستفيق البطل، فتعود له هواجسه تارة أخرى، ويراهم مسوخا تريد أن تنال منه، فيعود متراجعا صوب سلم المنزل، ويظل يتدرج فى الصعود بإعياء، ومن ثم تنتقل الصورة على قدوم رجال الشرطة ومحادثتهم مع الجيران، فتأتى صرخة مباغتة من الفناء لأحد السيدات "يا إلهى إنه سيفعلها مجددا".
آخر كلمتين:
_ رومان بولانسكى هو من قام ببطولة فيلمه the tanant.
اقرأ أيضًا:
تعليقات
إرسال تعليق