التخطي إلى المحتوى الرئيسي

«حافة الغد» لدوغ ليمان: الحكاية التي ستبدو منطقية وأكثر!

نُشر فى جريدة القدس العربى
.................................................


«حافة الغد» لدوغ ليمان: الحكاية التي ستبدو منطقية وأكثر!

القاهرة ـ «القدس العربي» ـ من إسراء إمام: «سأقص عليك حكاية، في البداية ستبدو سخيفة، ولكن كلما أكملت حديثي ستكون منطقية أكثر» هذه هي الكلمات التي كان يرددها الضابط كايدج «توم كروز» كلما اضطرته الظروف أن يشرح حكايته لأحدهم، وهي أيضا الكلمات اللائقة للتعبير عن حالة فيلمه الجديد « The Edge of Tomorrow»، الفيلم الذي يتناول فكرة التحكم بالزمن، والتي سبق وخاض فيها قبله عدد من الأفلام، لدرجة كافية لصبغ الفكرة ذاتها بالرتابة والإذهاب بوهجها وأناقتها والإنبهار المترتب عنها، والذي يعمي أحيانا عن قصور خط سير معالجتها، وهشاشة بعض مواضعه.
في بداية مشاهد الفيلم قد يضربك سهم من الملل، تتسلل إليك بعض الانطباعات السلبية، تداهمك هذه الأجواء الخزعبلية غير المتناغمة (ملابس الحرب العادية أمام بذلات القتال المصفحة الإلكترونية، هذا العالم غير المألوف الذي يقحمك فيه الفيلم فجأة بدون سابق مقدمات) كل هذا يمثل سببا وجيها لكي تجزم أنك صوب حكاية تبدو من وهلتها الأولى سخيفة .
ولكن وللمصادفة الغريبة، يحدث ما قد وعد به الضابط كايدج فيما بعد، فكلما توغل بك الفيلم أكثر داخل حدوتته، لم تقف عند حد كونها منطقية وكفى بل يتبدى جمالها، وقدرة مخيلة صانعها على العناية بتفاصيلها، وتضمينها شيئا من الحميمية الإنسانية التي تدرأ عنها جحافة الطابع التكنولوجي، والذي يقف خاوي اليدين إن لم يدعمه مثل هذه الحبكة المنضبطة.
عصفوران في اليد
في العادة الأفلام التي تتناول فكرة مثل إعادة الزمن، تعتمد عليها للنهاية، بمعنى ألا توازيها بما يدعو لتشتيت الإنتباه عنها، أو بالأحرى سرقة الأضواء منها، ولكن صانعي فيلم The Edge of Tomorrow كانوا أذكى من أن ينغمسوا في هذا الوهم، ووصلوا من النضج إلى ما ينمي ملاحظتهم بأن هذه التيمة وحدها لم تعد بنفس الوجاهة التي تمكنها من صناعة فيلما ممتعا ناجحا، وكانوا من الجرأة والثقة في أن يدعموها بتيمة أخرى تحتاج من الجهد ما يدفعها لأن تكون مستأثرة بأحداث فيلم بأكمله وحدها، وهي المحاكاة البصرية المطعمة بحدوتة شيقة منمقة الإعداد.
وما حدث في سيناريو الفيلم مزج مرهق ومُعَد بحرفية بين التيمتين، مطوعا بين يديه الإمكانيات البصرية لتخدم حدوتة خيال علمي لا تخلو من ملمح انساني بسيط له أثره وفعاليته.
ففي وقت حرب متطورة يخوضها الجنس البشري مع كائن غريب محتل، يتورط الضابط كايدج في خوض ساحة الحرب جاهلا بتقنيات القتال، ولكن يحالفه الحظ بإرداء أحد أجهزة العدو العصبية، مما ينقل إليه قدراتها المذهلة في التحكم بالزمن، وحينها الموت يكون آخر مخاوفه، لأن من وقت موته يسعه أن يبدأ يوما جديدا، بينما يبقى التحدي الذي يخوضه هو مدى الإستفادة من قدراته في سبيل التخلص من العدو.
المعالجة
وعلى نفس المنوال، ينتهج السيناريو ذلك الحرص في معالجته صوب التيمتين، فالتيمة الأولى يمنحها تفاصيلها المنتقاة والتي تنفي عنها صفة التساهل واللامنطقية، فيضبط ايقاع كل إعادة حدث، ويعطي مبرررات ويقدم الكثير من الشروح لما يمكن أن يتوه في غمار خيط السرد المعقد. فمثلا عند عودة الضابط كايدج كل يوم بعدما يهرب لملاقاة المقاتلة ريتا «ايميلي بلانت» والتي تساعد على تدريبه لمجابهة الموقف بأكمله، يُبين السيناريو ما يواجهه من متاعب مع زملائه بعدما غافلهم وترك موقعه بينهم في الصباح، إنها تفصيلة قد لا ينتبه إلى إغفالها المتفرج بينما وقف لها السيناريو متيقظا كما وقف لغيرها، فمثلا تفاصيل الألاعيب الحسابية التي يقوم بها كل من كايدج وريتا حينما يعاودون معايشة موقف سبق وأن عاشوه من قبل في وقت القتال (كعد خطوات القدم وغيرها)، والتي برزت بقوة في مشهد اقتحام ريتا وكايدج لمكتب رئيس القوات وهم يتلاشون بأعجوبة ما وقعوا فيه من أخطاء سابقة قبل وصولهم إلى باب المكتب بسلام.
أما التيمة الأخرى، وهي كيفية خلق أسطورة مبهرة عن تفاصيل هذا العدو الذي يقفون أمامه في هذه الحرب المنهكة، واعتباره مجرد دماغ عصبي لها عدة رؤوس منها العادية وتسمى «حكاء» وأخرى مميزة والتي حالف كايدج الحظ ليقتل واحدا منها وتسمى «ألفا»، أما الدماغ بأكمله فيسمى «أوميغا» وهي بمثابة طوق النجاة الوحيد لإنهاء هذه الحرب في صالح البشرية، وباتصال كايدج عصبيا بها، هو الوحيد القادر على معرفة مكان تواجدها رغما عنها، والعزم على قتلها حتى وإن تراكمت المعوقات، وهنا كان تحدي الفيلم الأكبر، مدى ذكائه في خلق هذه المعرقلات ودعمها، تجديد دمها، وبث الحيوية فيها بما لا يتهاون للملل بالتسرب إلى أوقات المتفرج.
بين كايدج وريتا
وعلى الرغم من أن الفيلم لا يملك سوى ملمح انساني واحد، إلا أنه أجاد صياغته وانتزاع اطلالته من بين براثن هذا الصخب المجاور، فرسم العلاقة بين كايدج وريتا قوية رغم قصرها، ملهمة رغم صمتها، قال فيها الكثير من خلال لقطات قليلة، مكثفة ومختزلة، لم يتعمد أن يفصح فيها أكثر مما ينبغي، ومنحها في انغلاقها طابعا فضوليا محببا. لقطات صغيرة عمد إلى تكرارها، أفضت بحديث طويل له مدلولاته وانفعالاته مثل اللقطة التي رأى فيها كايدج ريتا للمرة الأولى خارج أرض الحرب وهي تمارس تمريناتها، واللقطات التي كان يراقبها فيها أثناء عملهم على كسب المعركة. بخلاف مشهد النهاية والمشهد الذي اعترفت له فيه بإسمها الأوسط «روز». إنها العلاقة الأمثل، التي إن اقتطعتها من سياق الفيلم بأكمله ستبقى متماسكة باقية على وقعها وملمحها.
آخر كلمتين:
ـ edge of tomorrow من أفلام التقنيات المباشرة التي لا تعتمد على الجانب التقني متكاسلة عن أي فعل آخر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...