التخطي إلى المحتوى الرئيسي

Approve for adoption.. هوية مشوهة وطفل لا يقنع

نُشر فى موقع مصر العربية
.................................................

إسراء إمام تكتب:

Approve for adoption.. هوية مشوهة وطفل لا يقنع

يقبع فى المنتصف، يتناوب على وجبة الطعام الخاصة به فى نهم وتحفز له سمة.. يفرغ صاحبه المجاور يده من طبقه، ويقوم عن مجلسه مخلفا بعض البقايا، فيمد لها يده ليُنهيها كما أنهى خاصته، وبينما يفعل، يتحولقن الخادمات من خلفه، منتظرين الصحن الذى فى يده، بعدما نظفوا الطاولة من كل ما عليها من أدوات للطعام.. لا يأبه بوقفتهن المؤنبة، ويجور على البقية الباقية التى يملكها من فتات من سبقوه، مُبقيا على ذات الشهية التى لا تلائم مظهره النحيل.

هذه هى أفضل بداية يمكن أن يبدأها فيلم الأنيميشن الفرنسى approve for adoption، الفيلم المعروض ضمن عروض سينما زاوية لأفلام الأنيميشن.. والذى يخوض فى شحنة مضطربة من المشاعر، التى راودت طفلا كوريا فى عمر الخمس سنوات، تم تبنيه من قِبل عائلة فرنسية.
تلك المسيرة التى لن تقدم للمتفرج مفاجآت مهولة من عينة، قسوة الأم المتبنية، أو وقوع عدد من المشكلات التى ستودى بأى الأطراف لارتكاب جريمة.. هو طرح لا يحمل فى جعبته أية مفاجآت، ولا يحتفظ بين سطوره بتعقيد واضح يمكن للمشاهد المتعجل أن يركن إليه.
إنما هو فيلم يقوم على عملية تشريح شديدة الدقة لنفسية طفل، معاناته تأتى من داخله، وستظل حتى النهاية.. أما حول إمكانية بلوغ الفيلم نسبة نجاح يعول عليها من عدمها فى توصيل ذلك، فإن السطور القادمة ربما يمكنها أن تفيد فى توضيح هذا الأمر.
شخصية يونج
نفس العائلة التى تبنت يونج، تبنت طفلة أخرى من نفس جنسيته، صحيح أن سنها كان أصغر، وإدراكها بكل ما حولها لم يكن حان أوان تمامه بعد، إلا أن هذه الصغيرة تجاوزت كل الأزمات الرابضة فى نفس يونج، عاشت فى سلام مع أسرتها من دون مؤرقات.
ولهذا أسبابه بالطبع وأولها فارق السن كما ذكرنا، فيونج عانى الأمرين فى بلاده متشردا وقت طفولته، فمنبته الأصلى بات فى جزء من ذاكرته مشوها مسخا لا يطيق النظر إليه، حتى فى صورة أخته الصغيرة ولا فى أى من أبناء عِرقه من الجيران أو زملاء الدراسة.
ولكن وازع يونج الأقوى والذى كان يدفعه دفعا لهذه الحياة الكابوسية، هو طبيعته الشهوانية الآملة، والتى افتتح الفيلم مشاهده الأولى بما يدل عليها، لتُحسب كنقطة فَطِنة للسيناريو، وتعود على إلمامه بخبايا الشخصية التى يقدمها، ونجاحه فى جعل نفسيتها -بخُبث ييثير الإعجاب- هى حلبة الحدث الرئيسية.
يونج ينتهى من طعامه، فيشد صحن زميله المجاور فى الإصلاحية ويتناوله هو الآخر. علامة بارزة على عدمية اكتفائه الدائمة، وتركيبته الطموحة للأفضل، فهو أيضا بارع فى الرسم، يتطور يوم بعد يوم، ليدخل فى طور الفنان المحترف، الذى يرى الوجود بمعايير جمالية تُصعّب عليه عملية الرضا، وتدفع به لحافة أكثر نتوءا بخصوص عملية الإحساس، والتجاوب مع التفاصيل.
ولهذا نراه راكضا صوب الأفضل، الأكثر تنقيحا. ينشغل بصورة أمه التى لم يرها، لأن فى استطاعته أن يرسم لها صورة ملائكية تناسب مقاس راحته، فوالدته بالتبنى، تثور عليه أحيانا، تُعنفه عن غير قصد، وتُسلل إليه شعورا بالغربة، ولأنه حساس بتطرف، وهى غافلة بتطرف، انخلق فى داخله شرخ بخصوص هويته وانتمائه، وصدق حديثها الأبله عندما نعتته بـ"الطماطم العفنة، التى يجب أن تبتعد عن أولادها".
يونج يعمل بكد لكى يكون نموذج للمواطن اليابانى، لأن هذا النموذج يُحقق لحلمه التخمة المناسبة، ويُبقيه هادئا مرتاحا من تلك الثورة المهتاجة فى صدره، يوسمه بالأفضلية على إخوته بالتبنى، ويمكنه من التملص من أصله المتربط دوما فى مخيلته بصناديق القمامة.
يونج أيضا، يتطلع إلى مدربة الرقص الفاتنة، ينظر فى نهم إلى عُريها ويحلم به، كما أنه يطلب تقبيل ومداعبة أخته بالتبنى، ويسترق طعام زميله هذه المرة فى المدرسة رغم عدم حاجته إليه. هى ذات الشخصية المتطلعة، الطامعة بإيجابية يحق لها الترويض، لا القمع كما فعل أبواه بالتبنى خوفا من تصرفاته الجامحة، فما كان منه سوى التحليق صوب الجموح بمسافة أعلى.
حِرص السيناريو على هضم هذه التفاصيل التى وردت فى كتاب السيرة الذاتية، جعلت من الفيلم نسخة مرئية صادقة لسطور الحدوتة. واعية بجل النزاعات التى يخوضها هذا الفتى فى كافة مراحله العمرية، ومدى تشابكها مع تركيبته الوعِرة.
السرد
الفلاش باك إمكانية مُبهرة، يستخدمها الكثيرون ببهرجة حينما يكونون بصدد صناعة فيلم، يعبثون بها ذهابا وإيابا كالأطفال وقد تمكنوا من عنق دمية جديدة. ولكن السرد هنا، قدم الفلاش بلاك فى صورة مقنعة وقوية ومختلفة الطلة تماما، فكلما نشعر بانتفاء ماضى يونج وانتهائنا منه، نراه يحتل مساحة أخرى من الحكى بطريقة صادمة وفجائية، تحقق ما ترمى إليه من وجع فى نجاح.
ولم يتوقف الانتقال بالزمن على هذا المنوال، إلى الخلف فقط، وإنما كان يصطحبنا ليونج الكبير وهو يجوب رحلة بحث هادئة عن هويته مرة أخرى، بحُلة أكثر رصانة وتشربا للحياة، وكأنه تخلى عن ثوب المتعجل الشرِه.
طريقة التنفيذ
الرسومات فى الفيلم لم تلتجئ إلى نزعة الإبهار، بينما تبدت ملائمة لطبيعة الحكاية. مائلة للكشف عن حركة متأنية للكاميرا وهى تقدم ايقاعا حركيا وئيدا للصورة، وكأنها تعاند كل هذا الشغف الذى يمكله يونج بداخله، تماما كالواقع من حوله، يمكننا أن نتبين من ألوانها إضاءة الأماكن المتماشية فى نعومة مع ايقاع الفيلم بأكمله، وظروف المواقف التى يمر السيناريو على سردها.
فمثلا فى اللقطات التى يتذكر فيها يونج أيامه الصعبة فى التشرد، تطل الرسومات بشحوب وتنغلق على لون بارد وإضاءة قاتمة مقبضة، وصلت لذورة جمالها فى الكادر الذى يقف فيه يونج حليق الرأس أمام كاميرا الإصلاحية ليتم تصويره بالرقم الذى يحمله، كالمجرمين، بينما حتى وهو يمر بلحظات حيرته فى سن مراهقته، تأتى به الرسومات وسط مساحة هائلة من اللون الأصفر (الحقول) وكأنها تؤكد لنا أن ثمة إشراقة قادمة رغم كل الأرق.
تجلت قدسية الرسومات أيضا فى تصويرها المفجع للكوابيس التى تراود نوم يونج، كم الفزع الذى أنتجته ومهدته ليتحرك أمام أعيننا كان كفيلا لجعلنا نتلمس فى سهولة، ما قد بلغ بيونج إلى حافة اليأس.
المزج بين الأنيميشن والصورة الحقيقية بكثرة، لم يكن مشجعا على الاندماج فى المشاهدة فى بداية الفيلم، وظل حتى نهاية الفيلم حائلا بين الشاشة والمتفرج، قاطعا لغة الحميمية التى يكنها للرسومات التى على الرغم من صنعها، تبدو أكثر إغداقا وسحرا.
آخر كلمة:
- طباع يونج غير القانعة يمكن أن تكون هى ذاتها قارب النجاة الذى انتشله من مصير أسود كان ينتظره، كأطفال كُثر تم تبنيهم فى أعمار مماثلة، ولم يقو أى منهم فى مواجهة هذا التفسخ فى الهوية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...