نُشر فى جريدة الوادى
.................................................................
Tuesday, فبراير 11, 2014 - 12:48
أحدهم يُتهم زور بالتحرش بطفلة فى الحضانة التى يعمل بها، وبإهتمام الجميع يتحول الأمر لمساءلة قانونية، تتغير فيها حياة ذلك الرجل، وتتمسخ صورته أمام ابنه الوحيد الذى كان على مشارف الإنتقال للحياة معه بعد الإنفصال عن زوجته ..
قصة تقليدية على المستوى الفضولى، قوية فى إحداث الصخب المطلوب وإثارة غريزة الإنتباه، كحبات السكر التى تذيب مرارة الشاى وقد تكون الدافع الوحيد لإحتسائه، حدوتة تجارية من الرعيل الأول، قابلة للثرثرة، ومفسحة مجالا فضفاضا لإبتذال العواطف وإجترار الشفقة.
هذه هى المعالجة المتوقعة لحدوتة مثيلة، والتى تواقع هوى الكثيرين، وقد تحظى بتقييمات صحيحة اللهم إلا درجة أو درجتين على مواقع السينما، بينما يتعفف عنها نفس الأشخاص التى كانت تمقت لعبة الثلاث ورقات الشهيرة، وتعتبرها مدعاة لإهدار وقتهم وشىء من شتات أذهانهم.
ولكن المخرج "توماس فينتيربرج" قرر فى فيلمه الدنماركى "the hunt" أن يتملص من شبهة أى تناول يتشابه مع الوصف السابق، قبض على الجمر، وغزل دراما فيلمه على مهل، فأعد لكل مشهد العُدة، لكى يبقى عالقا فى الذهن لأمد غير معلوم، أسكن المعنى فى باطن الحكاية صابغا عليها شيئا من تبلد الواقع، الذى يبلغ بالمفترج ذروة الخوف والتردد والتوحد، من دون مصادفته لمشهد يبث فيه البطل أوجاعه علنا فى مشهدا بانوراميا يدافع فيه عن نفسه فى أحد غرف الإعتقال.
الشخصيات
البطل لوكاس "مادس ماكيلسن" شخصية حرص المخرج على أن يكون لها طلة رائقة هادئة، يلمس فيها المتفرج كثير من الحميمية بينه وبين الأطفال فى الحضانة التى يعمل بها، ففى أول لقطات الفيلم يترقبون فى براءة قدومه ومن ثم يتكاثرون فوقه ليمارسون لعبتهم المفضلة معه، فى إشارة إلى نفسه الشفافة التى يشعرون بها فيه، فهو الأقرب إليهم، والقادر على أن يدلف إلى عالمهم بإنسيابية تُناسب أناقة طباعه، إنها لقطات بسيطة وقليلة اختزلت للتعبير عن شخصيته، هى ذاتها التى رصدت نعومة تعامله مع كلارا، تلك الفتاة الصغيرة والتى تعتبر ابنة صديقه المقرب، حينما كان يستوعب هواجسها تجاه انتظام الخطوط المرسومة على الطريق وخوفها من أن تفقد أثرها، وتطوّعه اصطحابها من وإلى المنزل عندما يتأخر والديها فى فعل ذلك، تفاصيل كثيرة مماثلة أكسبت لوكاس حضورا أملس، رسم بدقة حدود شخصية، وعاد بقوة على إحساس كلارا واستبيان تكوينها النفسى، وهى التركيبة الأكثر إبهارا فى الفيلم بأكمله، والتى بدا من خلالها المخرج فى غاية ألقه الذهنى عندما أصر ألا يقتحم خصوصية عقلها وإحساسها، ويجعل تصرفاتها المضطربة مدفونة الدوافع داخلها إلى الأبد، مانحا حيزا شديد الجاذبية للمُشاهد لكى يتفاعل بقوة مع هذه البراءة المُتخمة بعدد من التفاصيل المؤرقة، التى تحملها فى ذاتها برباطة جأش وتُغلق عليها فى نضج لم يعهده عمرها، مما ينحو بها صوب منطقة مختلفة فيها من التميز _ كما وصفتها مديرة روضة الأطفال بصاحبة الخيال الخصب_ وفيها من الأرق النفسى، الذى ألمح إليه المخرج فى عبقرية تامة تدفع بالمتفرج لإختباره حتى فى لحظات الصمت بينما تقف الصغيرة أمام الكاميرا فى أكثر من مشهد، وكأن مئات الأفكار والضلالات تترائى له وهى تدور فى عقلها من دون أية صوت ..
ثيو والد كلارا من الشخصيات التى برزت أيضا بإرتباكها، فهو لا يحمل من الحسم المطلق تجاه أى شىء، بينما يحتفظ بموقف نصفى إزاء اهتمامه بإبنته، و تحديد شعوره نحو لوكاس بعدما استشرت أخبار واقعة تحرشه بالفتاة، فنراه أحيانا يُشفق على صداقتهما وأخرى يملأه الغِل لمنتهاه، على عكس زوجته التى التزمت فى أن تصب جم حقدها على لوكاس وتتماهى فى تصديق كذبة ابنتها حتى بعد أن حاولت فى وقت من الأوقات التراجع عنها، والإعتراف بأنها من لفقتها. لذا كان من المتوقع أن يرق قلب ثيو فى النهاية، ويستميت محاولا استرجاع صديقه الذى سبق وأنهكه بإتهام لم يتروى فى التدقيق حياله. مع زرع شعور داخل المُشاهد بعدم الثقة فى مثل هذه الشخصية المتذبذبة فى موقفها، والتى على الرغم من عدم تسليط مزيد من الضوء عليها، إلا أن تيهها وموقفها الغير واعى تماما صوب ما يحدث حولها تم التعبير عنه فى ايجاز وافى.
أما ماركوس الإبن الوحيد لكارلوس، فهو العنيد القادر على المواجهة وعدم التشكك لحظة فى والده، على الرغم من كونه يلتصق بأما من الواضح أنها تكن كرها تلقائيا لهذا الوالد، ولا تتورع عن تسميم صورته فى موقف كهذا بما فيه الكفاية أمام ابنه. مشهد من أجمل المشاهد التى صاغت هذه الطبيعة الفولاذية التى توصم شخصية ماركوس فى العام، والتى لولاها لما استمات بالتشبث فى حقه بالإيمان بأبيه. هو المشهد الذى يذهب فيه ماركوس لمنزل عائلة ثيو، ويدخل داخل عقر دارهم، ليصرخ مُعلنا براءة والده، ويجاهر بحقده على صغيرتهم الكاذبة كلارا باصقا فى وجهها، مطاردا اياها فى جنبات المنزل مُتهما اياها " لماذا كذبتى بشأن والدى"، فى إلحاح وجموح يستحضره المُشاهد من فوره عندما يلمح شبيهه على تصرفات الأب فى المشهد الذى يصر فيه معاود الكرة فى الدخول إلى السوبر ماركت بعدما لقنّه العاملون هناك ضربا مبرحا وأنذروه بعدم العودة، بإعتباره مُتحرش طليق لم تنصفهم العدالة فى الإنتقام منه. إذا فإن الإبن يُشبه أباه كثيرا ومثل هذه اللفتات القوية فى الكتابة ساهمت فى أن تمنح الفيلم طابعا إنسانيا، يحمل من العمق ما ينأى به عن التورط فى ما قد تُفرضه الحدوتة من تناول رخيص.
طبيعة العقدة الدرامية
المأزق الدرامى هنا لم يكن مبتغاه التعاطف مع شخصية كارلوس، أو صرف الإهتمام نحو تفاصيل قضية اتهامه بالتحرش، ومداعبة فضول المشاهد صوب احتمالية نجاته القانونية من عدمها، بينما ارتكز على عرض بناء الشخصيات، ونقل ردات فعلها صوب هذا الحدث الذى اختلقوه بأنفسهم من مجرد كلمات بائسة من فم طفلة لا تعى ما تقوله.
هى مجموعة من التعقيدات التى تناولها السيناريو، بداية من علاقة كارلوس بكلارا، ذلك التواصل الذى منح الفتاة شيئا من الأمان، مغذيا عاطفتها السابقة لسنها، دافعا اياها لترى فى هذا الرجل العطوف مُخلّصها، إنه يسكن داخلها بشكل أو بآخر ويحتل جزءا من نفسها مخلخلا عبأ كبيرا من أزمتها النفسية الداخلية، فنقرأ ذلك على قسماتها بينما تعدو نحوه وهو مطروح أرضا بعدما إدعى الموت فى إحدى مزحاته مع الأطفال، مُقّبلة إياه من فمه، ونترقبه أيضا فى شغفها وهى تضع قلبا رقيقا مكتوب عليه اسمها فى جيوب حُلته، بينما يأتى هو ويهد _حتى ولو برقة_ حُلمها تجاهه، معيدا القلب لها، ومخبرا اياها بأن القبلة من الفم للأبوين فقط، وهو لا يعلم مقدار أهمية كل هذا بالنسبه لها، الأمر الذى يدفعها فى غير وعى للإنتقام منه، لتبدأ الكارثة برمتها، والتى لم تمنعها من الذهاب إلى منزله طالبة فى براءة التنزه مع كلبته، ولم تنزعه من خيالاتها الليلية، ولم تحول بينها وبين احتضانه بكلتا ذراعيها فى المشهد القبل الأخير فى الفيلم، حينما وقفت مفزوعة حيال الخطوط المرسومة على الأرض وهى لا تقوى على اجتيازها، ومن ثم يجيىء هو ويحتوى جزعها حاملا اياها بين ذرعيه للضفة الأخرى، هل ثمّة إبداع أكثر من هذا فى التعبير عن هذا التواصل الشائك بكل دقائقه المتناهية؟.
نقطة أخرى يتطرق لها السيناريو، فى تبيان طبيعة هذيان المجتمعات بفكرة التسلط، وتنصييب كل فرد نفسه حاكما على غيره، قابلا معاقبة الآخرين على قدر خزى الجريمة التى تلتصق بصاحبها، من دون أية اعتبارات أخرى، فيُشّرح المخرج العواقب التى ألمت بحياة كارلوس وقلبتها رأسا على عقب، بعدما كانت دنياه على وشك التفتح حينما بدأ مواعدة إمرأة من مكان عمله وفى الوقت ذاته الإستعداد لإستقبال ابنه للحياة معه. إنه الطرح الذى يشابه مثيله الأجرأ فى فيلم little children للمخرج تود فيلد، والذى أبرز فيه الجانب الإنسانى لمُتحرش حقيقى للأطفال، دفع المُشاهد من خلاله لرؤية جانبا مظلما نختار التغاضى عنه.
دراما الفيلم، أفقية متشعبة إهتمت بأدق تفصيلها تكسبها إختلاف وتميز، مثلا لم يفتها فى مشهد شديد الرقة، أن تصور إحساس الأخ الأكبر لكلارا بالمعاناة التى يتصور أن أخته عاشتها، فنراه ينظر إليها بعطف وعينيه دامعتين، محتضنا إياها وكأنه يشعر بالذنب حيالها. لفتة قوية لم توقفها فكرة أهمية شخصية الأخ من عدمها فى الحدث الرئيسى، بينما إختارت أن تعبر بحرية عن اللحظة.
الصورة
فى المشهد الذى اختلقت فيه كلارا كذبتها حول تحرش كارلوس بها، كانت تجلس بعيدا فى الظلام، بحيث لا يتضح لنا رؤيتها، فى لقطة تحقق القدر المطلوب من الإنقباض والتوقع بقدوم الأسوأ. على هذا المنوال جاء عدد لا بأس به من اللقطات، التى تؤهل المتفرج لحدوث شىء ما، مثل اللقطة التى ركّزت لوهلة على شباك المطبخ قبلما يُهشمه مجهولون بحجر كبير كنوع من الإرهاب لكارلوس وولده، واللقطات الطوال التى سبقت المشهد الأخير والتى تُأهبنا بمزيد من التوتر إلى وقوع شىء غير مُرحب به، حينما كانت تبتعد الغزالة فى بطىء رتيب أثناء تجوال كارلوس وولده فى الغابة للصيد، بعدها تأتى كارلوس رصاصة يتفاداها بأعجوبة، وتنتقل اللقطة على شخص المُعتدى الذى يكتسيه بريق الشمس فيعمى الأعين عنه، فى رمزية بالغة بأن كارلوس مازال فريسة الحقد القديم، تحت أى ظرف وفى أى وقت ومن أى شخص، على الرغم من مرور عام على الواقعة.
آخر كلمتين:
_ إعجاز حقيقى أن تُعبر فتاة فى مثل هذا العمر عن كل هذه الأحاسيس الخانقة التى كانت تشع من بين عينيها، هذا إضافة لما قدمه العظيم "مادس ماكيلسين" فى أداء دوره، وكل هذا يُنبأ بوجود مخرج بلغ الذروة فى إدارة ممثليه، وتحقيق غاية فيلمه كما أرادها، اسمه "توماس فينتيربرج".
Tuesday, فبراير 11, 2014 - 12:48
أحدهم يُتهم زور بالتحرش بطفلة فى الحضانة التى يعمل بها، وبإهتمام الجميع يتحول الأمر لمساءلة قانونية، تتغير فيها حياة ذلك الرجل، وتتمسخ صورته أمام ابنه الوحيد الذى كان على مشارف الإنتقال للحياة معه بعد الإنفصال عن زوجته ..
قصة تقليدية على المستوى الفضولى، قوية فى إحداث الصخب المطلوب وإثارة غريزة الإنتباه، كحبات السكر التى تذيب مرارة الشاى وقد تكون الدافع الوحيد لإحتسائه، حدوتة تجارية من الرعيل الأول، قابلة للثرثرة، ومفسحة مجالا فضفاضا لإبتذال العواطف وإجترار الشفقة.
هذه هى المعالجة المتوقعة لحدوتة مثيلة، والتى تواقع هوى الكثيرين، وقد تحظى بتقييمات صحيحة اللهم إلا درجة أو درجتين على مواقع السينما، بينما يتعفف عنها نفس الأشخاص التى كانت تمقت لعبة الثلاث ورقات الشهيرة، وتعتبرها مدعاة لإهدار وقتهم وشىء من شتات أذهانهم.
ولكن المخرج "توماس فينتيربرج" قرر فى فيلمه الدنماركى "the hunt" أن يتملص من شبهة أى تناول يتشابه مع الوصف السابق، قبض على الجمر، وغزل دراما فيلمه على مهل، فأعد لكل مشهد العُدة، لكى يبقى عالقا فى الذهن لأمد غير معلوم، أسكن المعنى فى باطن الحكاية صابغا عليها شيئا من تبلد الواقع، الذى يبلغ بالمفترج ذروة الخوف والتردد والتوحد، من دون مصادفته لمشهد يبث فيه البطل أوجاعه علنا فى مشهدا بانوراميا يدافع فيه عن نفسه فى أحد غرف الإعتقال.
الشخصيات
البطل لوكاس "مادس ماكيلسن" شخصية حرص المخرج على أن يكون لها طلة رائقة هادئة، يلمس فيها المتفرج كثير من الحميمية بينه وبين الأطفال فى الحضانة التى يعمل بها، ففى أول لقطات الفيلم يترقبون فى براءة قدومه ومن ثم يتكاثرون فوقه ليمارسون لعبتهم المفضلة معه، فى إشارة إلى نفسه الشفافة التى يشعرون بها فيه، فهو الأقرب إليهم، والقادر على أن يدلف إلى عالمهم بإنسيابية تُناسب أناقة طباعه، إنها لقطات بسيطة وقليلة اختزلت للتعبير عن شخصيته، هى ذاتها التى رصدت نعومة تعامله مع كلارا، تلك الفتاة الصغيرة والتى تعتبر ابنة صديقه المقرب، حينما كان يستوعب هواجسها تجاه انتظام الخطوط المرسومة على الطريق وخوفها من أن تفقد أثرها، وتطوّعه اصطحابها من وإلى المنزل عندما يتأخر والديها فى فعل ذلك، تفاصيل كثيرة مماثلة أكسبت لوكاس حضورا أملس، رسم بدقة حدود شخصية، وعاد بقوة على إحساس كلارا واستبيان تكوينها النفسى، وهى التركيبة الأكثر إبهارا فى الفيلم بأكمله، والتى بدا من خلالها المخرج فى غاية ألقه الذهنى عندما أصر ألا يقتحم خصوصية عقلها وإحساسها، ويجعل تصرفاتها المضطربة مدفونة الدوافع داخلها إلى الأبد، مانحا حيزا شديد الجاذبية للمُشاهد لكى يتفاعل بقوة مع هذه البراءة المُتخمة بعدد من التفاصيل المؤرقة، التى تحملها فى ذاتها برباطة جأش وتُغلق عليها فى نضج لم يعهده عمرها، مما ينحو بها صوب منطقة مختلفة فيها من التميز _ كما وصفتها مديرة روضة الأطفال بصاحبة الخيال الخصب_ وفيها من الأرق النفسى، الذى ألمح إليه المخرج فى عبقرية تامة تدفع بالمتفرج لإختباره حتى فى لحظات الصمت بينما تقف الصغيرة أمام الكاميرا فى أكثر من مشهد، وكأن مئات الأفكار والضلالات تترائى له وهى تدور فى عقلها من دون أية صوت ..
ثيو والد كلارا من الشخصيات التى برزت أيضا بإرتباكها، فهو لا يحمل من الحسم المطلق تجاه أى شىء، بينما يحتفظ بموقف نصفى إزاء اهتمامه بإبنته، و تحديد شعوره نحو لوكاس بعدما استشرت أخبار واقعة تحرشه بالفتاة، فنراه أحيانا يُشفق على صداقتهما وأخرى يملأه الغِل لمنتهاه، على عكس زوجته التى التزمت فى أن تصب جم حقدها على لوكاس وتتماهى فى تصديق كذبة ابنتها حتى بعد أن حاولت فى وقت من الأوقات التراجع عنها، والإعتراف بأنها من لفقتها. لذا كان من المتوقع أن يرق قلب ثيو فى النهاية، ويستميت محاولا استرجاع صديقه الذى سبق وأنهكه بإتهام لم يتروى فى التدقيق حياله. مع زرع شعور داخل المُشاهد بعدم الثقة فى مثل هذه الشخصية المتذبذبة فى موقفها، والتى على الرغم من عدم تسليط مزيد من الضوء عليها، إلا أن تيهها وموقفها الغير واعى تماما صوب ما يحدث حولها تم التعبير عنه فى ايجاز وافى.
أما ماركوس الإبن الوحيد لكارلوس، فهو العنيد القادر على المواجهة وعدم التشكك لحظة فى والده، على الرغم من كونه يلتصق بأما من الواضح أنها تكن كرها تلقائيا لهذا الوالد، ولا تتورع عن تسميم صورته فى موقف كهذا بما فيه الكفاية أمام ابنه. مشهد من أجمل المشاهد التى صاغت هذه الطبيعة الفولاذية التى توصم شخصية ماركوس فى العام، والتى لولاها لما استمات بالتشبث فى حقه بالإيمان بأبيه. هو المشهد الذى يذهب فيه ماركوس لمنزل عائلة ثيو، ويدخل داخل عقر دارهم، ليصرخ مُعلنا براءة والده، ويجاهر بحقده على صغيرتهم الكاذبة كلارا باصقا فى وجهها، مطاردا اياها فى جنبات المنزل مُتهما اياها " لماذا كذبتى بشأن والدى"، فى إلحاح وجموح يستحضره المُشاهد من فوره عندما يلمح شبيهه على تصرفات الأب فى المشهد الذى يصر فيه معاود الكرة فى الدخول إلى السوبر ماركت بعدما لقنّه العاملون هناك ضربا مبرحا وأنذروه بعدم العودة، بإعتباره مُتحرش طليق لم تنصفهم العدالة فى الإنتقام منه. إذا فإن الإبن يُشبه أباه كثيرا ومثل هذه اللفتات القوية فى الكتابة ساهمت فى أن تمنح الفيلم طابعا إنسانيا، يحمل من العمق ما ينأى به عن التورط فى ما قد تُفرضه الحدوتة من تناول رخيص.
طبيعة العقدة الدرامية
المأزق الدرامى هنا لم يكن مبتغاه التعاطف مع شخصية كارلوس، أو صرف الإهتمام نحو تفاصيل قضية اتهامه بالتحرش، ومداعبة فضول المشاهد صوب احتمالية نجاته القانونية من عدمها، بينما ارتكز على عرض بناء الشخصيات، ونقل ردات فعلها صوب هذا الحدث الذى اختلقوه بأنفسهم من مجرد كلمات بائسة من فم طفلة لا تعى ما تقوله.
هى مجموعة من التعقيدات التى تناولها السيناريو، بداية من علاقة كارلوس بكلارا، ذلك التواصل الذى منح الفتاة شيئا من الأمان، مغذيا عاطفتها السابقة لسنها، دافعا اياها لترى فى هذا الرجل العطوف مُخلّصها، إنه يسكن داخلها بشكل أو بآخر ويحتل جزءا من نفسها مخلخلا عبأ كبيرا من أزمتها النفسية الداخلية، فنقرأ ذلك على قسماتها بينما تعدو نحوه وهو مطروح أرضا بعدما إدعى الموت فى إحدى مزحاته مع الأطفال، مُقّبلة إياه من فمه، ونترقبه أيضا فى شغفها وهى تضع قلبا رقيقا مكتوب عليه اسمها فى جيوب حُلته، بينما يأتى هو ويهد _حتى ولو برقة_ حُلمها تجاهه، معيدا القلب لها، ومخبرا اياها بأن القبلة من الفم للأبوين فقط، وهو لا يعلم مقدار أهمية كل هذا بالنسبه لها، الأمر الذى يدفعها فى غير وعى للإنتقام منه، لتبدأ الكارثة برمتها، والتى لم تمنعها من الذهاب إلى منزله طالبة فى براءة التنزه مع كلبته، ولم تنزعه من خيالاتها الليلية، ولم تحول بينها وبين احتضانه بكلتا ذراعيها فى المشهد القبل الأخير فى الفيلم، حينما وقفت مفزوعة حيال الخطوط المرسومة على الأرض وهى لا تقوى على اجتيازها، ومن ثم يجيىء هو ويحتوى جزعها حاملا اياها بين ذرعيه للضفة الأخرى، هل ثمّة إبداع أكثر من هذا فى التعبير عن هذا التواصل الشائك بكل دقائقه المتناهية؟.
نقطة أخرى يتطرق لها السيناريو، فى تبيان طبيعة هذيان المجتمعات بفكرة التسلط، وتنصييب كل فرد نفسه حاكما على غيره، قابلا معاقبة الآخرين على قدر خزى الجريمة التى تلتصق بصاحبها، من دون أية اعتبارات أخرى، فيُشّرح المخرج العواقب التى ألمت بحياة كارلوس وقلبتها رأسا على عقب، بعدما كانت دنياه على وشك التفتح حينما بدأ مواعدة إمرأة من مكان عمله وفى الوقت ذاته الإستعداد لإستقبال ابنه للحياة معه. إنه الطرح الذى يشابه مثيله الأجرأ فى فيلم little children للمخرج تود فيلد، والذى أبرز فيه الجانب الإنسانى لمُتحرش حقيقى للأطفال، دفع المُشاهد من خلاله لرؤية جانبا مظلما نختار التغاضى عنه.
دراما الفيلم، أفقية متشعبة إهتمت بأدق تفصيلها تكسبها إختلاف وتميز، مثلا لم يفتها فى مشهد شديد الرقة، أن تصور إحساس الأخ الأكبر لكلارا بالمعاناة التى يتصور أن أخته عاشتها، فنراه ينظر إليها بعطف وعينيه دامعتين، محتضنا إياها وكأنه يشعر بالذنب حيالها. لفتة قوية لم توقفها فكرة أهمية شخصية الأخ من عدمها فى الحدث الرئيسى، بينما إختارت أن تعبر بحرية عن اللحظة.
الصورة
فى المشهد الذى اختلقت فيه كلارا كذبتها حول تحرش كارلوس بها، كانت تجلس بعيدا فى الظلام، بحيث لا يتضح لنا رؤيتها، فى لقطة تحقق القدر المطلوب من الإنقباض والتوقع بقدوم الأسوأ. على هذا المنوال جاء عدد لا بأس به من اللقطات، التى تؤهل المتفرج لحدوث شىء ما، مثل اللقطة التى ركّزت لوهلة على شباك المطبخ قبلما يُهشمه مجهولون بحجر كبير كنوع من الإرهاب لكارلوس وولده، واللقطات الطوال التى سبقت المشهد الأخير والتى تُأهبنا بمزيد من التوتر إلى وقوع شىء غير مُرحب به، حينما كانت تبتعد الغزالة فى بطىء رتيب أثناء تجوال كارلوس وولده فى الغابة للصيد، بعدها تأتى كارلوس رصاصة يتفاداها بأعجوبة، وتنتقل اللقطة على شخص المُعتدى الذى يكتسيه بريق الشمس فيعمى الأعين عنه، فى رمزية بالغة بأن كارلوس مازال فريسة الحقد القديم، تحت أى ظرف وفى أى وقت ومن أى شخص، على الرغم من مرور عام على الواقعة.
آخر كلمتين:
_ إعجاز حقيقى أن تُعبر فتاة فى مثل هذا العمر عن كل هذه الأحاسيس الخانقة التى كانت تشع من بين عينيها، هذا إضافة لما قدمه العظيم "مادس ماكيلسين" فى أداء دوره، وكل هذا يُنبأ بوجود مخرج بلغ الذروة فى إدارة ممثليه، وتحقيق غاية فيلمه كما أرادها، اسمه "توماس فينتيربرج".
تعليقات
إرسال تعليق