نُشر فى جريدة القاهرة
.............................................
السينما فن ثرى، قوامه البراح وعموده الفقرى الجموح الذى لا يتوجب بالضرورة
أن يتقولب فى شكل معين متعارف عليه، عهدته العين وصمّه العقل لدرجة خلقت بديهيات
بعينها فى عملية التلقى، بُنى على أساسها شروط الامتاع، فبات كل غريب غير ممتع وكل
متملص من القواعد المسبوقة جاف وممل.
وهذا ما قد يشعر به البعض حيال فيلم"فرش وغطا" الذى لا يُقدِم
إلى الساحة بخطوات تشبه غيرها، ولا يطلب منك كمشاهد طريقة التلقى العادية التى
خُطط لها منذ وقت وباتت القانون السائد، وإنما يخلق فى منظور أحكامك مناحى جديدة،
يعتلى بسقف رؤاك، يشذب حدة حواسك، ويجبرك
على تكثيف تركيزك، فيضيف إلى ذائقتك نكهة أخرى للفُرجة.
السيناريو
فى النظرة السريعة والمفهوم الخاطف، قد يترائى للمُشاهد أن الفيلم عبثى، مُنتَج
بصرى بحت يفتقر إلى سيناريو بالمُسمى الشائع، والمفارقة أن "فرش وغطا"
يحمل قدر من العمق فى التناول والمعالجة قادرة على أن تدفع به إلى مصاف الصفوف
الأولى مجتازا أفلام كثيرة قدمت سيناريو ثرثار بالمعنى الأجوف للكلمة، سيناريو فرش
وغطا محبوك ينطوى فيما بين أجزاءه على كثير من الثراء والفكر، لا يحِد ذاته بمعنى
بعينه وإنما يطلق سراح مخيلتك لعدد من الأسئلة وكثير من الاستنتاجات، وبالرغم من
أن الفيلم يدور حول فكرة محددة تتناول المهمشين، إلا أنه فى عناصر تكوين الحدث
وصياغة السيناريو طرح لك أفق غير مطوق، يظل فيه استيعاب المشاهد يعمل طوال عرض
الفيلم وبعده، لا يُسلم لخُلاصة واحدة، ولا يتملكه شعور محايد أو متطرف إنما يخلق
أكثر من مستوى للفِكر على نطاقات عدة شعوريا وانسانيا وسياسيا.
بداية من إختيار المخرج "أحمد عبد الله" ألا يسمى بطله "آسر
ياسين"، تكمن الدلالات، فهو واحد من كثيرين، فتحت عليهم السجون وقت الثورة،
فخرج يهيم على وجهه لا يعرف إلى أين يذهب ولماذا ؟ وماذا يسعه أن يفعل؟، هو وغيره
ما الذى تضيفه اليهم اساميهم، فمبدئيا ارتكان المخرج إلى هذا الطرح يُوضح مدى
الاختلاف والتعقيد الذى أراد أن يخوض فيه، فالأسهل أن يستثمر ظروف هذا السجين
ويضفره مع الظروف السياسية القائمة وقتها ليصنع لك فيلما انسانيا يجتر الأفكار
المعتادة ويناقش ماهية الوضع السياسى الإنسانى المجتمعى الذى نعلمه جيدا، ولكن عبد
الله اقتدر على أن يطوع كل هذا اللغط المتشابه ليتطرق إلى موضوعه الحساس، مواطنه
لا يحمل اسما لا يحمل هوية ولا وجهة، مواطنه يحمل فقط نفسه ..روحه التى باتت عنصر
مهترىء فى نظرة هذا المجتمع وما يدور فى كنفه من أحداث وظروف، فهذه هى الطريقة
التى فضل أن يقرأ انسانا بها، يدخل بك فى صمت وحرفية مذهلة إلى داخل نفس بطله، ومن
هنا جاء التوظيف البديع للإنشاد الصوفى، الذى يميل إليه البطل منذ بداية الفيلم،
فى لقطة ملحوظة يتناول فيها حافظة أحد الشرائط التى يستمع إليها فى الميكروباص
لأنها الوحيده التى تثير شغفه، فى واقع فقد فيه كل شىء ماعدا روحه .
وهكذا كل الشخصيات من حوله، بداية من النماذج الحقيقية التى استعان بها
المخرج للحديث عن حالها ومهنتها مثل الزبال والمواطن البسيط العائش تحت خط الفقر
ورجل المراجيح، ونهاية بالشخصيات التى صاحبت البطل فى صمت مثل فتى المسجد والرجل
الذى اقتطع له العنوان الإليكترونى لينشر عليه الفيلم المصور الذى يوضح بعض من
حقائق فتح السجون، إنهم جماعا غارقين فى الوحل لم يعد شىء يفرق معهم سوى أنفسهم،
كل منهم يساعد الآخر على محيط ضيق يفتقد إلى معنى العموم ومفهوم الجمع، فالبؤس أكل
منهم ما يكفى ليخلق داخلهم لا مبالاة واضحة تجاه ما يحدث حولهم على محيط أوسع،
ولهذا يظل صراخ الشاب البسيط المجروح القادم من ميدان التحرير وهو يزعق فيهم
ويتعجب من ركودهم محجوبا متلاشى خلف عنّات الموتوسيكل العالية، فلا تسمع منه شيئا
ولا تستخلص منه أثرا عليهم. فى مشهد رائع يحمل عدد من الانعاكاسات ويضع بقعة ضوء
كبيرة على شىء من معاناة هؤلاء الناس فى تناول سينمائى مختلف جدا.
تماما كما حضر التشبيه المصوَر البديع، الذى أجلس فيه عبد الله بطله يُصلح
سماعه كبيرة، وعلى قدر حجمها ومهارة البطل فى التعامل مع مثل هذا الأشياء بنجاح فى
الخلفيات السابقة التى مهدها لك المخرج لكى تثق أن ولابد يصدر من هذه االسماعة
صوتا مجسما عاليا، فإنه يقترب باللقطة من الصنبور الذى يجانب جلسة البطل، يظل يدنو
بالكادر منه وهو يُسقط نقاطا هزيلة مرتعشة الصوت، فكل هذه الشخصيات تماما كنقاط
الصنبور التى لن يُسمع لها صوت حتى وإن قامت الثورات على مقربة منها، فهو أدنى من
أن يُرى ويُسمع هو الروح الهائمة التى ستظل منغلقة على ذاتها التى لا تملك غيرها.
الصورة
منذ أول مشاهد بالفيلم وعبد الله يعمل على صورته بإطلالة متفردة، على كلا
المستويين الجمالى والخادم للاتساق مع النص، فترى لقطات الهروب الأولى فى اضاءة
معتمة وحركة كاميرا متوترة تتماشى مع الأجواء المقبضة وتمنحك من الرؤية ما يسمح
لأن تشعر بغيمية الموقف بأكمله، فهى مبدأ الرحلة وموضع اول قدم فى هذا الطريق
الموحش الذى يتخبط به البطل طوال الفيلم، ومن بعدها تأتى اللقطة التى يفطن فيها
البطل إلى وجود سيارة نقل ضخمة فيهرول للحاق بها بعدما قرر أن يجلب لصاحبه الجريح
المساعدة، نفس الإطار الخانق القلق يظهر لك فى الصورة متمثلا فى الوقت الذى يسبق
الشروق وتنحسر فيه الشمس بين عتمة السحاب فتثير لون قاتم على السماء يُهيأك نفسيا
تماما للقطة التالية التى يقع فيها فجأة الشخص الذى يجاور البطل صريعا اثر اصابته
بطلقة عشوائية .
الكاميرا طوال الفيلم لم تتحدث بلغة عادية، وتلتقط الكادرات بمبدأ كما يجب
أن يكون، وإنما تحررت وبشدة من مبدأ "يجب"، وخلقت مبدأها الخاص فى
التناول، فجاءت تكوينات الصورة مغايرة غير مألوفه، منها المُبهر مثل كادر سقوط
البطل مغشيا عليه اثر الاعتداء الذى تعرض له من قبل بعض الرجال، حيث تغيمت الصورة
بأكملها من أمامه عدا رأسه التى تصدرت اللقطة، وقبلها الطريقة التى تناول بها أحمد
عبد الله العراك ذاته على لقطتين، الأولى يجرى فيها البطل منهم، والثانية تُظهر
كادرا خاليا يتأخر فيه ظهور البطل المهرول فى محاولة تبوء بالفشل ليحتجزه مطارديه
فى مكان مخبوء عن عين الكاميرا ولا تسمع انت سوى صوت ركلاتهم وأناته المكتومة، ومن
بعدها اللقطة الفوقية التى يبحث فيها البطل عن أشيائه القديمة فى حقيبته، والكادر
الرائع لجنازة صديقه فى مزج بين العتمة والنور يسير فيه التابوت على أيدى عدد من
الأشخاص كما لو يبدو سابحا فى فضاء مهيب، ومنها الكادرات التى ستظل عالقة دوما فى
مخيلتك البصرية مثل اللقطات التى تكثفت فيها نظرات الفتاة _التى تبدى اعجابا واضحا
بالبطل_ فى مرآة السيارة التى تنقله هو وأصحابه، أو تلك الحركة الدورانية الموحية
فى اللقطات التى كان يستمع فيها البطل للإنشاد الصوفى فى المسجد والتى عبرت عن معنى
واضح بشىء من الإنتشاء الذى مس روحه، وكأن الدنيا لم تتحرك بالنسبة له إلا فى هذا
الوقت على وجه الخصوص.
بعض المآخذ
أهم ما يميز فيلم فرش وغطا هى الحالة العفوية المطلقة التى تشمل جوانبه،
والتى يعد الصمت جزءا لا يتجزأ منها، الصمت فى حد ذاته لا يمثل أى عرقلة لما يود
الفيلم أن يجود به على المشاهد بل كان أداة ذات فعالية مؤثرة، بينما جاء تعمد
المخرج بأن يُخرس شخصياته فى المواضع التى قرر لهم أن يتحدثوا فيها ملفقا بعض الشىء، اتضح ذلك فى مشاهد مثل ذاك
المشهد الذى يتقابل فيه البطل مع زوج اخته، فيتحدث زوج الأخت بنبرة واطئة للغاية
تشعر فيها بقصدية حدوث ذلك، على الرغم من أن تفوهه ببعض الكلمات وبطريقة عادية
وعفوية لن يخل أبدا بالايقاع الذى رسمه المخرج للمشهد وسيظل الصمت هو سيد الموقف
وصاحب الوقع البالغ فيما يراد توصيله، وغيرها من المشاهد التى ينطق فيها الأشخاص
بنبرة واهنة بالكلمات القليلة المكتوبة فى صورة لا تدعم أبدا الحالة الجيدة التى
صنعها عبد الله للفيلم وانما تقلل منها وتأخذ من مصداقيتها.
على الصعيد الآخر جاء المشهد الذى يتحدث فيه أحد راكبى الميكروباص فى أول
الفيلم عن شعور المسجونين ليدعم نفس الاحساس بالاصطناع، فلا نبرة الصوت كانت
مناسبة ولا صيغة الكلمات ذاتها،هو ذاته الشعور الذى يفيد بأنك بصدد مشهد من فيلم،
ولن يتسرب لك فى هذا المشهد أى عزاء جيد إلا من خلال الصورة التى ترتكز لك فى جولة
على البيوت القديمة وساكنيها وحالة التيه التى تسيطر على كل ذاك.
النهاية
لن تأتى أجمل من تلك نهاية لتتمم حلقة العشوائية التى مر بها البطل منذ
خروجه من السجن، إنها الفوضى التى تأخذ روحه فى أقل من ثوانى، وتحوله إلى جثة
ملقاه مهملة كغيرها، والفرق ليس كبير، فهو يصطف إلى جانب أجساد ساكنة أيضا تتشابه
مع غيرها فى اللاقيمة، ولكنها الروح وحدها هى ما بقيت، الروح التى تشاهد فى
اطمئنان بعيون الكاميرا _على الرغم من قسوة المشهد _ هذا العالم الصاخب الأجوف
الذى لم تنتمى إليه لا قبل الرصاصة الغاشمة التى أودت بالجسد الذى تسكنه أو بعدها،
الروح التى دفعته قبل موته إلى أن يصر بالذهاب إلى أحد الجرائد لينشر فيديو اقتحام
السجن، هل ثمة أمل ؟؟ أم أن الموت المباغت والتالى مباشرة بعد انتهائه من هذا
الفعل يُشبه فى رمزيته اللقطة الكبيرة على قطرات الصنبور ؟؟!!
آخر كلمتين:
فرش وغطا من الأفلام الجميلة والمهمة التى عبرت عن سينما جديدة.. سينما
تنتمى إلى مدرسة صاحبها، لا يتوقف مدى امتاعها على طريقتك فى التعاطى معها، وإنما
على قدر رغبتك فى فعل ذلك .
تعليقات
إرسال تعليق