نُشر فى جريدة القدس العربى
..................................................
http://81.144.208.20:9090/pdf/2014/03/03-10/qds11.pdf
..................................................
http://81.144.208.20:9090/pdf/2014/03/03-10/qds11.pdf
ثمّة اشكالية
مؤرقة فى الكتابة عن الأفلام المأخوذة من نوع بعينه من الكتب، والتى لا يمكن
تصنيفها تصنيف أدبى بحت، كتلك الكُتب التى يسرد فيها أحدهم، عن تجربة حقيقة مر
بها، مُعددا مواقفها ووقائعها تفصيلا، مما يدعو للتساؤل طوال مدة مشاهدة الأفلام
المأخوذة عنها، عن حقيقة انتماء تفاصيل الشخصيات، وطبيعة المواقف المسرودة، هل هى
ملكا لمُخيلة كاتب السيناريو، أم للسطور التى اِهتم صاحبها أن يُضمنها بإنطباعاته
عن كل ما يحدث.
وكتاب "مارتن
سكسميث" بعنوان " the lost child of Philomena lee" هو النموذج الأمثل لهذا النوع من الكتب، الذى
يحمل بين ثناياه قصة تجربة انسانية مكثفة ومختزلة فى رحلة بحث، قضاها مع سيدة
مُسنة تدعى فيلومينا أملا فى اقتفاء أثر إبنها، بعدما باعته الكنيسة لأحد عائلات
نيوورك عقابا لخطيئتها وهى صبية وانتهاكها حرمات دينها بممارسة الجنس مع غريبا
إلتقى بها فى أحد الملاهى الترفيهية.
الرحلة هنا موثقة
فى عدة مواقف ومقابلات أجراها كل من مارتن وفيلومينا مع عدد من الشخصيات التى
عايشت ابنها، بعد اكتشافها موته، بينما بقيت رغبتها فى المعرفة عنه، وعن سؤال
طالما أرقها بخصوص حنينه لها ولموطنه. كل شىء يبدو وكأنه مذكورا فى سطور الكتاب،
كل شىء عن شخصية فيلومنيا المتميزة، وعن الظروف التى كان يمر بها مارتن سكسميث
حينها وقت طرده من عمله فى الـ bbc.
ولأن الإستقصاء
حول جماليات السيناريو ولمساته التى أضافها بمعزل عن الكتاب صعب التطرق لها، لأنه
لم يتيسر لنا قراءة الكتاب، فإن الحديث هنا حول السناريو، سلبا أو ايجاب سيكون
شموليا قد يتلاقى مع ما ضُمّن فى الكتاب، أو ما ساهم الفيلم فى خلقه بسياق مستقل
وخاص به. كما سيظل الحديث حول بعض الملاحظات التى يخص الصورة عائدا لحقوق صناع
الفيلم أنفسهم.
الشخصيات
فيلومينا، سيدة
مُسنة تفوح منها رائحة طفولة، شطرمنها مُختمر بطابع شيخوخى، والآخر يرتبط بفطرة
نقية اكتسبتها من الحياة البدائية التى سبق وعاشتها فى الكنيسة، حياة منغلقة تكثر
فيها الأوامر بالإذعان، ومراجعة النفس عن خطاياها على الدوام، الجميل أن كل هذا
صبغ شخصية فيلومينا بصبغة سوية جدا، تعترف فيها بسيئات ذاتها ولكنها فى الوقت
ذاته، قادرة على أن تتسامح معها، فتمددت لديها طاقة القبول، وامتدت للآخر، فلم تعد
تندهش من غرائبهم، بل أضحى لديها القدرة
لكى تعيها وتهضمها جيدا، ومن ثم تسِع لها صدرها بدون أية امتعاضات.
فنراها تلحظ طاقة
الغضب التى تملأ مارتن، توتره وعذاباته الداخلية، وتعدو طوال الوقت للتعامل معها
بلامبالاة بنائة، تُسقط علي ثورته سلاما تدخره فى نفسها، فتؤثر فيه بقوة لدرجة لا
ينتبه هو إليها إلا فى نهاية الرحلة. ففى مشهد يلتقيان فيه بأحد زملاء مارتن فى
العمل الذى طُرد منه، تهتم فيلومينا وتلِح فى مساءلة مارتن عن هذا الرجل، بشكل
متحايل يقطر ذكاءا، يغلب عليه ابداء انطباع استشفته من ردة فعل مارتن أثناء حديثه
مع الرجل، وغلفته بصيغة تساءل مقتضب، خلقت به على مشارف رحلتهما شىء من الحميمية
والدعم.
ومن بعدها، تستقبل
خبر مثلية ابنها بمنتهى الهدوء، بل وتُبدى اعترافا لمارتن بأنها كانت على علم بها،
بالطبع فهى السيدة القادرة على التماهى ذهنيا وروحانيا بكل ما يحيط بها، من أشخاص
وأماكن، بالتالى لابد لها أن تٌراقب صغيرها وقت لبوثه فى حضنها وقبلما الفراق،
وتفطن أنه قد يكون على هذه الحالة فى الكِبر، إنه ليس تأويلا هوائيا، بينما هى تلك
الموهبة التى تحملها نفس هذه المرأة، وتجعلها رهيفة الحس ممتلأة بكل حوادث مرت
بها، سواء كانت الصغيرة أو الكبيرة، ولهذا دوامت على استعادة لذة لقائها الجنسى
الأول، والتحدث عنه بمنتهى الإنطلاق، تماما كما تحدثت عن مثلية ابنها .
هى تحمل طاقة
تسامح مُلفتة، تبعث فيها قدرة على الاستمتاع بأتفه التفاصيل التى تبدو عادية من
حولها، جودة الطعام، استضافة الفندق. متغاضية عن ما يحاوطها من مخاوف حيال ما
سيتكشف لها عن حياة ابنها الذى تبحث عنه. بمثل هذه النورانية التى تملكها فى
داخلها، تجنح لمسامحة راهبات الكنيسة، ولا تطالبهم بأية تبريرات حينما يتضح لها
أنهم منعوها من مقابلة ابنها الذى جاء ليبحث هو الآخر عنها بداية من نفس المكان.
لقد حولت فِطرة
فيلومينا القوية، تعسفات وظلم أجواء الكنيسة التى نشبت فيها إلى مخزون عطاء وحب
وتسامح، أحالت قيوده إلى جناحين، وبددت ظلمه وقهره إلى رحيق قبول ينتمى أكثر إلى
مفاهيم الدين الصحيحة وليس المتعارف عليها.
أما "مارتن
سكسميث" فهو لم يكن إلا تلك الشخصية التى ساهمت على مستوى الدراما فى إنماء
قراءة المُشاهدة لتفاصيل فيلومينا بشكل أوضح، فلولا زمجرة مارتن طوال الوقت، لم
يكن ليتم سماع الاستقرار الداخلى الذى تحمله فيلومينا.
خطوط الدراما
قدم السيناريو
المعالجة الدرامية على مستوى خطين دراميين، أحدهما بديهى وملحوظ والآخر على مستوى
ابعد من الرؤية، فالأول يتمثل فى تفاصيل تلك الرحلة والحقائق التى تتمخض عنها، أما
الثانى هو ما يرصد التفاعل الخفى الذى يضرب علاقة فيلومينا بمارتن، وفيما بين
الخطين نبغ السيناريو فى خلق حالة متماسكة، رشيقة الايقاع، ومغزولة بحرفية، يُخدّم
فيها كل خط على الآخر.
فعلى مستوى الخط
الأول، نجده قدم التحفيز الللازم للمشاهد لكى يتحمس لمتابعة هذه الرحلة بشغف، لم
يُفضل أن يترك ما حدث فى الماضى للسرد الشفهى، بينما تطرق لمعايشته بمشاهد حية،
مما عمّق من وقع فقد هذه الأم المسالمة لإبنها عُنوة، وعبّر فى ايفاء عن التجبر
الذى كانت تمارسه الراهبات على تلك الفتيات، وبالتالى أصبحت أول زيارات فيلومينا
ومارتن للكنيسة، مُقبضة بعض الشىء، يطل على كل رُكن من المكان فيها آثار الواقعة
القديمة، فبدت مشاهد قوية موحية بأن هذا المكان هو بداية ونهاية الرحلة التى ستبدأ
لتوها. تلك النقطة بأكملها، تُحسب لسيناريو الفيلم بمعزل عن ما أورده مارتن فى
كتابه، فمشاهد الفلاش باك، واللقطات المريبة التى صاغها السيناريو، والتقطتها
الكاميرا بحذق لتفاصيل الكنيسة (مُعلقات الجدران_ اللقطات المشوشة للراهبة الأكبر
سنا من خلف الزجاج، والتى سيتضح فى النهاية أنها متورطة فى اخفاء الأمر..وغيرها)،
هى ما ساهمت فى تجسيد مشاعر مارتن بإبداء الشك تجاه هذا المكان برمته، والتى قد
يكون عبر عنها جيدا فى كتابه، ولكن التعامل معها جاء فى الفيلم مُعلنا عن استقلاله
بشكل بيّن .
أما بخصوص المستوى
الثانى، وهو علاقة مارتن بفيلومينا، فهو وبلا شك ما ساهم فى ضبط موضوع وحالة
الفيلم، ومنحها هالة حضور مميزة وبصمة مختلفة، فلم تعد الحدوتة مقتصرة على موقف
انسانى سطحى، مصدر التجدد فيه هو المعلومة الجديدة التى يصلان إليها، بينما
علاقتهما فى ذاتها، كانت عامل ثراء للحبكة، لم تدع فرصة للحظة ركود واحدة فى متن
السيناريو، وضمّنت شعورا بالتوهج حتى فى أقل المواقف أهمية، مثلا مشاهد الزيارة
السياحية التى قاما بها لتمثال لينكولين، وفى المشهد الذى كانت تخبر فيه فيلومينا
مارتن عن الفيلم الكوميدى الأمريكى الذى سبق وشاهدته، إنها لحظات هامشية ولكنها
شديدة الفاعلية، بنى لها السيناريو جيدا، بحيث تبدو جزءا لا يتجزأ من الدراما،
التى تحوى بين سطورها انطباعات عِدة عن
هذه الشخصيات وطبيعة احساسها مما ينعكس على قرارتهم حيال خط سير الرحلة التى
تجمعمها. هنا يتلاقى الخطين الدراميين ويؤثر الواحد منهم على الآخر ويتحكم بمصيره.
فلولا الوقع الذى خلفته شخصية فيلومينا على مارتن، لم يكن ليستميت فى أن يُدبر لها
مقابلة الصديق الحميمى لإبنها انطونى، بالطبع كان شعوره وهو يسعى لكى تتم هذه
المقابلة، يختلف تماما عن ما سبقها، هذه المرة كانت فيلومينا هى دافعه الوحيد
بعيدا عن حسابات عمله، وتحقيقه سبقا ما فى التحقيق الصحفى المكلف بكتابته، وعلى
نفس المنوال لم تكن فيلومنيا لتُكمل المسير بجرأة للمعرفة عن ابنها، لولا الدعم
الذى قدمه لها مارتن. فما نتج عن علاقتهما هو ما منح هذه الرحلة عمرا اضافيا .
مناطق مشوشة
لم يكن ثمّة مبرر
لظهور أجزاء من الشريط الفيلمى الذى يتناول مقتطفات من حياة انطونى ابن فيلومينا،
فيما بين مشاهد رحلتها هى ومارتن، وقبل اللقطة التى يعرضه أمامها حبيب انطونى
السابق فى مقابلتهما معه. فاللقطات التى تم اقحامها منه داخل هذا السايق، لم تكن
موفقة لكى تبعث على أى تغيير، التزمت بالحياد فى وقعها الدرامى وبالتالى لم يكن
لوجودها أية معنى.
المشاهد التى عبرت
عن طاقة الغضب التى يحملها مارتن بداخله، مثل المشهد الذى ينفصل فيه عن مشاهدة عرض
أوبرالى ليستدعى فيه تفاصيل الأزمة التىى أطاحت بعمله، والمشهد الذى ينصحه فيه
طبيبه بالركض لكى يخفف من توتره واكتئابه، وكذلك المشهد الطويل الذى يتحدث فيه مع
أحدهم بالحفلة بنبرة متوترة مشتتة، كلها اضافات تدور داخل نفس الحلقة التى تقدم
المعلومة بشكل عارى ومباشر، افقد شخصية مارتن العمق الكافى، واختزلها بالكامل فى
هذه التفصيلة. فبدت حتى اللقطات التى ترصده وهو يركض ضيقة التأثير مفضوحة المعنى،
وكذلك مصارحة فيلومينا له فى النهاية عندما قالت " انظر إلى نفسك، إنك غاضب
ولابد أن يكون هذا مُرهِق جدا".
جودى دينش
منطقة التميز فى
فيلم فيلومينا، هى شخصية فيلومينا التى حركت كل عناصر السيناريو بأكملها، والجميل
أن من أدت هذه الشخصية هى العظيمة "جودى دينش"، والتى خلقت فيلومينا
أخرى خاصة بها، أكثر جاذبية من ورق السيناريو أو ورق كتاب مارتن ذاته، حضورها غمر
الفيلم بأكمله، وأدائها الشيطانى المُعبر عن التناقضات الخفية فى هذه الشخصية كان
مفتاح المتعة الحقيقة، فبعينيها كانت تُملى على المُشاهد ما يجب أن يشعر به، دون
أن يخذلها فى أى لحظة تجلت فيها كقديسة تمثيل، هى طفلة الآن فتمنحه لحظة انطلاق
ومرح، هى أم الآن فتغمسه بمخزون وداعة وحنو، هى إمرأة ذكية وقوية الآن فتزرع فيه
قُدرة على المثابرة والجلد، وتودع فى نفسه قدرة على التمّهل .
هى بحق جسدت جُملة
كتبها تشارلى شابلن عن أمه فى مذكراته " لم تكن لتميل لفعلة الخطئية، ولكنها
دوما كانت نتحاز إلى الآثمين" .
آخر كلمتين:
_ المشهد الذى كانت تتحدث فيه فيلومينا عن
تجربتها الجنسية بإنطلاق، إختار المخرج Stephen frears أن يتم تصويره فى مكان مفتوح له صفة البراح، وفى
الجملة التى نطقت بها فيلومينا " لقد كِدت أن أطير فى السماء" تحرك
بالكاميرا حركة حٌرة نصف دورانية عظمت من القيمة الروحانية التى تقصدها فيلومينا.
تعليقات
إرسال تعليق