نُشر فى موقع مصر العربية
..................................................
..................................................
إسراء إمام تكتب: لامؤاخذة.. كوميديا إنسانية بدم جديد
فن وثقافة
من المتعذر حاليا صناعة فيلم كوميدي، فمع مرور الوقت وتعقد الظروف التى نعتاشها والتى وحدها باتت مادة قوية تُحرض على السخرية وتخلق فى داخل المرء نزعة انتقاد لاذعة لا ترحم، إضافة إلى صفحات الكوميكس المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعى، لم يعد الحصول على الضحكة الرائقة المُنتزعة بعيدا عن السياق السياسى والفجاجة فى استخدام الإفيه اللفظى بالأمر السهل.
والمقارنة تبدو جلية عندما تنعقد ما بين الطريقة التى يتلقى بها الجمهور فى الماضى كوميديا مسرح الأبيض والأسود على وجه الخصوص، وبين ردود فعله حيال مشاهدتها اليوم، ففى حينها الإفيه الذى لا يتحمل فى فحواه أكثر من نصف ابتسامة، قد يجتر موجات غريبة من الضحك، والمزحة المُثقلة إخفاقا يقابلها مزيد من الإطراء، فالتفاعل الإيجابى وقتها لم يكن إلا قرارا والأهم من هذا القرار هو القدرة على تنفيذه، وذلك بالضبط ما نفتقده اليوم، فإن قررنا لم يقتدر كل منا أن يمتلك ربع هذه السماحة التى تُمرر وتفخم أحيانا من تعبير كوميدي منقوص أو حتى تقليدي.
فى ظل كل هذا يأتى فيلم "لامؤاخذة" ليُقدم كوميديا مختلفة تماما، مقامها الأول إنسانى بحت، ونصابها سرد حدوتة تحمل جزئية ما قد يُنظر إليها طوال الوقت على كونها تابوها مكروها لا يُفضل أحدهم التطرق له، مؤطرة بمعالجة متحررة ومتمردة لا تُعبر إلا عن ذاتها، غايتها تقديم الحكاية فى أبهى حُلة ووسائلها كثيرة، من ضمنها الكوميديا والمسحة الإنسانية الرقيقة التى ميزت الفيلم، وانضبطت بالقدر الذى يظل عالقا بعضا من حالته وحضوره على المتفرج لوقت، إنه نموذج للأفلام المتصالحة مع نفسها والتى تخلق لحالها شرعا تؤمن به قبل وبعد أن يكفر به غيرها.
عالما حقيقيا
اجتهد مخرج ومؤلف الفيلم عمرو سلامة أن يخلق عالما حقيقا لحياة هانى، بداية من منزله، ونهاية بمدرسته الحكومية التى تضطره الظروف لأن ينتقل إليها بعد وفاة والده توفيرا للنفقات، فبداية استعراض حياته الأولى بين والديه، لم يتم التعامل معها باعتبارها مرحلة ممهدة للأحداث الرئيسية والتى يتمركز معظمها فى المدرسة، وإنما عنى بها السيناريو وتمّهل عليها، وضمّنها تفاصيل تبعث على الونس، وتقرب مسافة المتفرج من هذه الأسرة، ومن إحساس هانى ومشاعره الخاصة حيال كل شىء، وهو ما ساهم فى تغزية شعور التباين فى إحساسه بشكل حقيقى بعدما يواجه هانى حياة مغايرة تماما حينما ينتقل للمدرسة الحكومية، مما يدفع المُتفرج بأن يكون أكثر إلماما واستيعابا لمشاعر الطفل وأفكاره.
فهانى طفل يحمل من النضج العقلى والعاطفى الكثير، ليس فقط بسبب الحياة اليسيرة التى كان يحياها حينما كان والده على قيد الحياة، بل لأنه نشأ فى ظل أسرة متوائمة، سليمة صحيا إلى حد كبير فى علاقاتها، وهو الأمر الذى لا يتوفر بالضرورة فى كل العائلات المرفهة ماديا، حرص السيناريو أن يؤكد على تلك النقطة بينما كان يُعرف المتفرج على حياة هانى التى سبقت التحاقه بالمدرسة، فقد مثل هذا المتن القوى غير المباشر مبررا قويا للطريقة المختلفة التى قرر هانى أن يواجه بها مشكلة عدم تلائمه مع البيئة الغريبة التى وجد نفسه فيها فجأة.
تماما ككثير من التفاصيل الدقيقة التى حاكها السيناريو بمهارة، وأعدّها لكى تشد من أزر مسار الحدث فى الفيلم، مثل تلك العلاقة القوية التى حرص والد هانى على أن يبنيها بين طفله والكنيسة، وبين طبيعة الوقت الذى يقضيه هانى فى مدرسته القديمة، وعن شكل علاقته بأصدقائه وموقعه بينهم وطريقته فى التأثير عليهم، علاقته بأمين الشاب الذى كان يعمل لديهم، والتواصل المعافى بين والده ووالدته والذى أكسبه هذه المثابرة والجلد فى التعامل مع نقيض كل الأحاسيس السابقة، سواء أمام الشد العصبى الذى يقض من ظهر أمه بعد وفاة الوالد ويغير مناخ المنزل بدرجة كبيرة يخيم عليها التوتر والشجن إلى حد بعيد، أو إزاء هذا المجتمع الهزلى الفوضوى الذى يصبح مرغما على مواجهته بالمدرسة، ليصبح المتفرج مستعدا لاستيعاب إخفاقات هانى المستمرة فى محاولاته التواصل مع هؤلاء الأطفال بطرقه القديمة التى تُشبه منطق كوميديا مسرح الأبيض والأسود على جمهور كوميكس الفيس بوك. فتراه يُلقى بالإيفيهات غير المفهومة استماتة فى إبهارهم بروحه المرحة، ومن ثم يصنع طائرة ليؤثر عليهم فى تلك المرة بعقليته الفذة.
كلها تفاصيل أحرزت وقعا رائعا لأنها وطأت قدم على أرضية ثابتة، هضمها المتفرج فى أول الفيلم بعناية فائقة، فالمشهد الذى يتلهف فيه التلاميذ بوحشية على طعام هانى ويتقاتلون عليه فى ضراوة، بات له صدى أجمل بعدما تعرض السيناريو لطبيعة الطعام الذى يحمله هانى معه إلى المدرسة، ولذلك وعندما كان يُخرج هانى شطيرة "النوتلا" من حقيبته بصورة قصد سلامة فيها أن تكون تباطئية، بات المُشاهد فى حالة ترقب تؤهل لمزيد من التفاعل صوب ما سيحدث وقبوله فى منطقية، فهو يعلم قيمة الشطيرة ويعرف عنها جيدا كما يعرف ما لا يعرفه هانى عن ما يحيطون به.
كل هذا شملته الجزئية الأولى التى لا تأخذ أكثر من ربع أحداث الفيلم، والتى يمكن أن يعتبرها أى سيناريو آخر منطقة مرورية بحتة تحيله للمضمون الأكثر أهمية الذى يختزنه لما بعد فلا يعير ما يسبقه مثل هذا الإهتمام، بينما آثر سيناريو لامؤاخذة أن يختزن عدد من الملامح الإنسانية الملفتة، والتى يبقى منها الكثير الذى لم يُذكرمثل تلك السحلفاة التى كان يمتلكها هانى وثلّجتها له أمه بعدما ماتت ليُبقى نظره عليها ويتذكرها دوما، ومشاعر الفضول العاطفى غير الواضحة التى يكنها هانى لصديقته فى النادى، كلها تفاصيل عاد إليها السناريو فيما بعد مستخدما إياها فى دعم الحالة واستكمال الصورة لتبدو أكثر حقيقة.
أما عن مجتمع المدرسة الحكومية، فهو الشطر الأكثر إبهارا، والذى تم التعامل معه بنفس الروح القتالية فى الإجتهاد التى سبق وأظهرها السيناريو من قبل، فـ اليوم الأول لهانى بالمدرسة، جمع ما بين التعريف الدقيق بالجو العام لهذه البيئة، وبين سمة كل شخصية سواء من التلاميذ أو الأساتذة، مما أضفى على كل منهم روح معينة تصاحب حضوره، فلم يتوه المُشاهد بين المُدرسين ولكنه ألفهم جيدا بطلاتهم المعينة، من مدرس الإنجليزى وطريقة نطقه المزرية، ومدرس اللغة العربية والدين وتهديده الدائم للطلبة، ومدرس الألعاب ذو الملابس الرثة المهملة والتى لابد وأن تتلاقى مع ذكريات أى مُتفرج عاصر فترة طفولته بمدرسة شبيهة يتجلى فيها مُدرس الألعاب بهذا المظهر الذى يفتقر إلى التفسير، إلى جانب شخصيات الطلاب أنفسهم، ومنهم على ومؤمن النموذجين النقيضين الذى لا يخلو منهم أى فصل دراسى، المتطرف فى شره والآخر المسالم الذى يؤثر أن يكون جزءا مما يحدث دون رغبة فعلية، فضلا عن ذلك الطالب الواعظ الذى يراقب الحدث من على مبعده ويتمادى فى تنظيره، أنها تفاصيل تحمل من الواقعية وهجها الذى يُخط أسفله مليون خط، ينطلق فى حُلة غير معهودة عن شريط السينما، ويُفصح حتى فى مغالاته وسخريته بل يكسبه ذلك مزيد من التألق والقبول، ومن هنا تأتى حرفية السناريو فى العمل على مثل هذه المُكسِبات المتفردة فى استقلالها لتبدو على هيئة مزيج حريف الإتقان منسجم مع حالة إلى حد منح متعة غير مسبوقة.
لمسات لامؤاخذية
جاءت هذه اللمسات التى تحمل اسم الفيلم، على مستويين، أولهما المستوى الذى ميز طريقة السرد بالفيلم، والتى اختارت أن تتعامل بمنطق تعليق الراوى المجهول الذى مثّله صوت "أحمد حلمى"، فجاء موفقا شكلا ومضمونا، لاحقا بالإيقاع ومعبرا عنه، ومكملا بالتوازى مع ما يقدمه السيناريو والصورة لدعم هذه الحالة الإنسانية الكوميدية الرشيقة، ومتضامنا مع التقديم المبدئى لعائلة هانى والحديث عنه بشكل شبيه بالإعلانات التجارية، لترى هانى يقف مع والده ووالدته وتغشى الابتسامة وجوه ثلاثتهم بينما يتم التعريف بهم والحكى عنهم بشكل دعائى مبالغ، محدثا أثرا فى تكوين مظهر حالم يجمع بين الحديث المقصودين به بخلفية صوت أحمد حلمى والصورة المعبرة عن مضمونه فى هزلية موحية بواقعهم المترامى بعيدا عن حقائق نقيضة تعتاشها نفس البلد التى يحيون فيها.
بينما جاء المستوى الآخر والأكثر تميزا فى طريقة التعامل مع الايفيه الكوميدي، المرتبط بالموقف أو القائم على الأداء والألفاظ، وفى هذه النقطة تحديدا أتذكر مقولة للمخرج شريف عرفة_ هو ذاته لم يطبقها إلا فى عدد محدود من أفلامه_ تفيد بأن الكوميديا طريقة تنفيذ شاملة يتم الفرش فيها جيدا للإفيه يتفانى المخرج من خلاله فى استخدام كل أدوات يملكها من ممثل وصورة وورق جيد، وهذا بالضبط ما قام به سلامة فى فيلم لامؤاخذة، خالقا لنفسه أسلوبا يعد نسخة مُحسنة عن كلام شريف عرفة، تتشابه مع فطنة رامى إمام فى التعامل مع نص مسلسل "عايزة اتجوز"، فلم تهزمه طزاجة الورق وتفرض سُلطتها على ظهوره كمخرج، بل ظهرت رؤيته جلية تٌعبر عنه وتعمل بشكل موازى مع تميز السيناريو فكانت النتيجة مذهلة حتى وإن شابها بعض المآخذ، وهنا أيضا كان سلامة متفوقا على نفسه أمام السيناريو الخاص به، فلم ينحاز لتفوقه على الورق بل تعامل مع الكاميرا والتنفيذ بذكاء محافظا على تطويع كل أدوات يمكلها مثلما قال عرفة.
فترى ذلك فى اختياره الممثلين، والأطفال على وجه الخصوص. وقدرته على استشعار الطريقة المثلى لطبخ الافيه، مثلا التعامل مع الصورة بإيقاع متباطئ فى مشاهد مثل دخول التلاميذ أول مرة إلى الفصول، ومشهدىّ اصطحاب والدة هانى إلى مكتب الناظر مع الحرص على ابراز رد فعل التلاميذ وهم يرون الصليب على صدرها، ومشهد الظهور الأول لمِس نيللى، وغيرها. إلى جانب اللجوء من حين لآخر لتقديم الحوار بشكل متقطع مثلما حدث فى المشهد الذى كان يتحدث فيه الناظر عن الوحدة الوطنية فى ايفيه موحى بالثرثرة. والطريقة التى لجأ إليها فى التصوير الساخر لشكل الطالب الواعظ والشنب يعتلى شفتيه بينما ينبس بصوت فخيم بعبارات حكيمة شديدة التقليدية من عينة "فى الدنيا لازم تعيش ذئب عشان مش هاتعرف تعيش حمل"، والعديد من الأساليب الأخرى التى حرصت على أن التعامل مع إدارة الافيه واعتباره موقفا له أهمية الحدث.
آخر كلمتين:
_ثمة بعض المبالغة التى لم تكن على مستوى المقبول ولم تؤت ثمارها فى مشاهد الكوميديا، كالمشهد الذى يشرح فيه الواعظ لهانى عن الطلاب المنفيين، والآخر عندما كان التلاميذ يتطايرون من أمام الكانتين.
_ من الغموض أن يشدد السيناريو على عدم رغبة والدة هانى الذهاب إلى الكنيسة دون سبب، وتخليها عن الصلبان بهذه البساطة بعدما مات والد هانى والتى توحى بتاريخ ما غير مفهوم بينها وبين ديانتها، بينما تعود فجأة لإيمانها حينما تشاهد مع ابنها مسرحية عن المسيح، قرب ذهابها إلى المدرسة مع هانى، فتعود وتعلق الصلبان ومنهم الصليب الأصغر على صدرها، فلم يكن ذلك إلا ذريعة لكى يعرف التلاميذ حقيقة هانى، فهذا الخط لم يكن موفقا فى كتابته منذ البداية.
_المثير فى عمرو سلامة قدرته الشديدة على التنوع بشكل مُتقن، فتراه يغير جلده كمخرج من فيلم لآخر، ومن موضوع لآخر بشكل على الرغم من تطرفه يثير مزيدا من الإعجاب ويضعه فى خانة خاصة، لم تتكرر كثيرا.
_موضوع الفيلم لا يمت للطائفية بصلة، ولا يتضمن الدوران المعهود حول فلك قضية بعينها، بينما يناقش وضع إنسانى اجتماعى شامل لهذا الطفل الذى داهمته الظروف فجأة لكى يخوض مواجهة تفوق سنة.
تعليقات
إرسال تعليق