نُشر فى جريدة القدس العربى
..............................................................
..............................................................
august: osaga county .. سينما الرماديات
إسراء إمام
"إن الأمر
ليس أبيض وأسود، إنه دوما رمادى"
جملة جاءت على لسان أحد شخصيات فيلم " august:
osaga county"، لتكون عنوان الخانة الأكبر
التى يتمركز عندها الفيلم بأكمله، فى جل عناصره، فالحبكة ذاتها تحمل من الرشاقة ما
يؤهلها لكى تدعو إلى البسمة وتثير الشجن، والشخصيات تنغلق على نفوس من فرط شقائها
أضمرت نوع من القسوة، وكذلت أتت أيضا العلاقات التى ينغمسون فيها معا، وسط هذا المحيط
المتوهج حرارة الذى يغمرهم ولكنه لا يفلح فى اذابة الثلجيات التى باتت تعوّق
تواصلهم، وانما تبقى لتوخز جنبات أى خيطا باقيا على جمعهم معا.
إنها تلك المعالجات الشائكة، التى تتحيد
وتطلق عنان النفس الإنسانية، فتتكفل بأقل تفاصيلها شأنا وتسلط الأضواء حوله، ليتجلى
موضع الداء الخبيث الذى يكمن دوما فى البساطة، فماضى عقيم لا قيمة له، بات يحكم
عائلة بأكملها، يقودها إلى الجنون على طريق ممهد لا يبدو فى مظهره موحشا لا يرغب
أحدهم فى أن يمنحه خطواته طواعية، لا تسوده الظُلمة كليا ولا يحتفظ بنهاريته إلى
النهاية بينما يتبدى رماديا شاحب اللون، تماما كوميض الستائر الكئيب الذى علقه رب
الأسرة على جدران المنزل ليحجب الضوء، ليتماهى الليل مع الصباح فى توقيت واحد شبيه
لعل الزمن يتوقف لبرهة ويدعه فى سلام .
الشخصيات
فيوليت "ميريل ستريب"هى قطعا
الشخصية الأهم، هى موطن الداء الذى أودى بهذه الأسرة إلى شفا حفرة الجحيم دون أن
يدعها حتى أن تصل إليه فى سلام، هى المرأة التى انغلقت على تشوهات ما فى ماضيها،
وتحديدا طفولتها، مما أدى لإختزالها الكثير من الأسى على الرغم من كونها شخص طيب
قادر على الحب، ومعادلة كهذه هى الأصعب والأكثر مدعاه للقلق، فهى فى أصعب مراحل
تطور هذيانها_توقيت أحداث الفيلم_ تظل محتفظة بلمسة رصانة وحنان وحب، فما بالك
وقتما كانت الأسرة مجتمعة فى شىء من النقاء القديم، بالتأكيد كانت تمثل ملاذا ما
لأطفالها وزوجها تزيد غوايته حينما تلتمع سماته الإيجابية، بينما يستفحل أثره وتُبَث
سمومه بعناية فى قلب الصغار ووالدهم عن غير وعى، بالتدريج فسدت علاقة الزوجين
وقبلها شىء فى نفوسهما بينما حرصا على أن يُكملا معا، ونمت الفتيات الثلاث كلا
منهن بوجع ما.
المشهد الأول كفيل بأن يٌعرفك إلى فيوليت،
طلتها المقبضة والارتباك الذى تُخلفه وراء حضورها، التوتر الذى أكل علاقة الزوجين
وأدماها. وفيه يمكن مراقبة الزوج أيضا، والشعور بما قد غلف ذاته من لامبالاة لم
تصل إلى ذورتها فى العدمية، فهو التجسيد الأجمل للشخصية الذى يدفعك إلى الإقتناع
بأن هذا الرجل بالفعل لابد له أن يُقدم على الإنتحار، كيف تمت المواجهة بينهما فى
لحظات تبدو تافهة، وأكم من احساس غامض ومؤذى بات متأصلا فى تعاملهما. إنه مشهد من
المشاهد الكُثر التى أجادت فى هذا الفيلم واستطاعت أن تجمع تاريخ سنواتى صاخب فى
نظرات وايماءات وجُمل بسيطة .
بربرا "جوليا روبرتس" هى أكبر
أختيها نصيبا من المعاناة، ولذلك هى أول من أقدم بينهن على محاولة الهرب، ولكن بعد
فوات الأوان، فشىء من طباع والدتها انصبغت عليها، وأفسدت حياتها العاطفية
والزوجية، فبربرا مع مرور الوقت باتت تُشبه فيوليت بشكل أو بآخر، وهذا ما قد يبرر
الكراهية المتبدية بوضوح فى عينيها كلما نظرت إلى أمها، وقد أعربت عنها روبرتس
بإحساس أكبر مما أحتمله أى توصيف جاء فى السيناريو، فهى أكثر من تورط مع فيوليت
بعد الأب، والجميل أن السيناريو ظل محتفظا بالمنطقة الغيبية التى لم تستطرد فى
تفصيل الحدث بعينه، فهو ليس ماديا ملموسا، بقدر ما كان تراكمات مشاعرية، أجاد
صياغة حجم صعوبتها مثلا فى جملة قالتها بربرا لإبنتها عندما كانت تحدثها عن مواعدتها قديما للشرطى الذى جاء يخبرهم بمقتل أبيها، سردت
لها مغامرتهم المراهقية ومن ثم قالت فى جملة " لو كنا نعلم المستقبل لما كنا
غاردنا الفراش" وتبعتها بجملة قاصدة بيها إبنتها " حاولى ألا تموتى قبلى،
لا أبالى بكم الحماقات التى ترتكبيها فى حياتك، او كيف تعمدين إلى افسادها، فقط
عيشى" ، إن هذه الكلمات يكمن فيها الوجه النقى الحقيقى لبربرا، حقيقة الشخص
الذى كانت تملكه قديما ومازالت تستبقى على جزء منه فى داخلها، بينما يستحوذ أثر
شبح أمها على الباقى منها، وتراها فى حُلة أخرى ومنهاج مغاير تماما، عندما توبخ
ابنتها طوال الوقت بسبب أشياء تافهة، فيها نزعة سيطرة وميل إلى التدخل فى أدق
تفاصيل حياتها. وعلى نفس الوتيرة تخلخلت علاقتها بزوجها على رغم الحب بينهما، إلا
إنها ستظل بالنسبة له فى آخر المطاف تلك المرأة المزعجة كما أخبرها فى أحد المشاهد
.
أما الإبنة الثانية كارين "جوليت
لويس"، فالأضرار التى ألّمت بها شكلية أكثر، فتجدها على إختيار بالتمسك
بطفولتها أملا فى أن تمدها نوعا ما بالأمان، تدعو للنفور عندما تبدو خارج الزمن،
تؤمن بما قد لا يحدث، وترى فى نفسها ماهو غير حقيقى، وتظل قابضة على ابتسامتها
ومرحها على الدوام، حتى بعد أشد أوقات ذعرها على العشاء بينما كانت تنهرهم فيوليت
جماعا لأسباب غير مفهومة، كارين أكثر من أصابه الهلع، وأكثر من غالبه وتملص منه فى
وقت قليل، فهى بالغت فى ابقاء نفسها دوما على مسافة من كل ما يحدث حولها لدرجة
أظهرتها كمختلة فى بعض الأحيان، بينما فى حقيقة الأمر، هى أكثر من نطق بالحقيقة،
فى المشهد الذى واجهت فيه بربرا قبل رحيلها، فهى على درجة وعى تسبق بها الآخرين
ولكنها لا تجنح إلى استخدامها، وتفضل أن تكون تلك السيدة الخرقاء التى تظن نفسها
جميلة وتأمل فى الزواج من رجل يناسبها على الإطلاق .
بينما تظل ايف، هى الأبعد عن تأثير والدتها،
اللهم بعض الإنعزالية والإرتباط بهذه الحياة العقيمة على اعتبار أنها أكثر الفتيات
قربا فى السكن، ولكن قربها بهذا الشكل مع قدرتها فى الحفاظ على ذاتها معافاة،
منحها قوة داخلية لم تتبدى عليها شكلا بقدر ما اختُزنتها فى نفسها، فتراها قادرة
على اتخاذ القرار بجرأة فى نهاية الفيلم، بداية من اللهجة التى كانت تتحدث بها إلى
بربرا فى مشهد مصارحة أختيها بأنها ذاهبة، وحتى المشهد الأخير قبل رحيلها، فهى على
الرغم من سكونها واذعانها إلا أنها فى حقيقة الأمر لم تتورط فى هذا العالم كما
المتوقع وانما هى قادرة على طرحه أرضا فى أي وقت.
شخصية العمة فاى وزوجها، حملا مسحة من
الارتباك أكثر من الغموض، والعمة فاى تحديدا وهى أخت فيوليت أتت دوما فى سياق مكمل
لها، لم تحمل سمات خاصة تجعلها على الأقل مسخ فيوليت المشوه، وانما تبدت كشخصية
درامية مبتورة، توهج وجودها أحيانا وفى أحيان أخرى بدا غير ضرورى على الإطلاق،
وبالتالى كان الزوج كذلك .
السيناريو
التحدى الأكبر فى هذا السيناريو، أنه من المفترض
فى زمن شديد القياسية أن يعبر بالمُشاهد فى بحر تلك العلاقات المعقدة، مُضّمِنا كل
شخصية القدر الكافى من العمق الذى يمكن استشفافه أثناء طرح هذه العلاقات التى
تنطوى فى مظهرها الحالى على بعض من قسمات زمن فات، يقرر المُشاهد تفاصيله كما يحلو
له، ولكنه يظل مغلفا بإنطباع شعورى ما، وهذا بالضبط ما أجاد فيه السيناريو، ففى
أول المشاهد التى تجمع بربرا بوالدتها، تجد الكثير من أساسات علاقتهما قد انتصب
يعلن عن نفسه، على الرغم من أن فيوليت تبدو الأقوى، إلا أنها الطرف الأضعف أمام
بربرا، لا تقوى إلا على التحرش بها من على مبعدة، وبينما تكشر الثانية عن أنيابها،
تعود فيوليت إلى حالة الإستكانة من جديد، بينما يظل حاجز آلام السنوات بينهما جليا
رغم الحب الذى مازال يجمعهما.
على نفس الوتيرة جاء مشهد العشاء وهو المشهد
الملحمى الأقوى، الذى جمع فى ايفاء الكثير عن الشخصيات والعلاقات فيما بينهما،
وساهم فى تعرية ذورة التأزم الذى وصل إليه اجتماعهم والذى من شأنه أن يفسد اية خطط
مستقبلية قد يطمحون فيها، بينما يمنحك بصيرة بعيدة لترى بها هذا المنزل مهجورا
بالشكل الذى تبدى عليه فى نهاية الفيلم. فقد تم الإعداد لهذه البنية الدرامية
الدقيقة، فاستُخدمت كل شخصية لكى تكون محركا لحدث يجر آخر معجلا بالنهاية، ومفسحا
المجال لرؤية الشخصيات وظروف الماضى من منظور أوضح.
مشهد مشاجرة بربرا وزوجها جاء مثاليا لتجسيد
صدع علاقتهما، على عكس مشهدين آخرين لا سياق لهما، المشهد الأول عندما أراد أن يضع
يده على يدها فى السيارة، والمشهد الأخير بينمها والذى تسأله فيه إن كان سيعود
إليها من جديد، حيث يضطرب فى مخيلة المشاهد شكل الإنفصال الذى قد اتفقا عليه، ولا
يعبر عن مشاعر متناقضة بقدر ما يشى بخطأ ما لا يتناسب مع طبيعة الشخصيتين
واحساسهم، تماما كما جاءت العلاقة بين العمة فاى وزوج فيوليت والتى يتم الإعلان
عنها قبالة انتهاء الفيلم، فبدت مفتعلة، أثقلت على الدراما البسيطة فى تعقيدها،
ومنحتها نكهة حريفة لم تليق بحُلتها الهادئة منذ بداية الفيلم.
آخر كلمتين:
_ وقد لبثت فيوليت، تتساءل قبل معرفتها
بإنتحار زوجها وبعدها، "لماذا وظف هذه الفتاة؟ لماذا وظف طاهية ونحن لم نأكل
كثيرا".. لتأتى فى نهاية الفيلم وترتمى فى أحضانها بعدما يهجرها الجميع،
فالبتأكيد تعرف فى قرارة نفسها، وفى تلك اللحظة بالذات لماذا وظف زوجها هذه
الفتاة.
_جوليا روبرتس، خُلقت دوما لتكون ساحرة.
تعليقات
إرسال تعليق