التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ارنست وسِلسِتين...أنيميشن فرنسى يعزف على وتر آخر


نُشر فى موقع روزاليوسف
...................................................



ارنست وسِلسِتين...أنيميشن فرنسى يعزف على وتر آخر
إسراء إمام
كل الأشياء _حتى التى تعد منبتا للفن_ تبهت تدريجيا إن التزمت فى شكل وجودها بالنمطية، فيذبل من فوره كل ما يغمرها من جمال، تتفسخ ألوانه، ويتشابه مع أمثاله ليفقد من حضوره وتأثيره، ويقف عند عتبة محدودة من الابداع، ينحسر بداخلها ويتلاشى على المدى البعيد، بخطوات متباطئة تزيد متعرضيه للنفور منه. هكذا بدت كثير من أفلام الأنيميشن مؤخرا، وإن كانت مازالت تحقق نجاحات مرموقة، تقدمه لها على طبق من فضة تقنية ال 3d، والإعتماد على الإبهار فى التكوين البصرى بما يُخّدم على التقنية ذاتها. هذه الأفلام _وإن بقيت تحمل شىء من الجدية والإتقان وقدر من الإبداع_ باتت تفتقر إلى روحا أخرى لا تشبه هذه التوليفة التى باتت تغمرها جماعا، بدئا من الأفكار وحتى تفصيلة الحبكة وصياغة النكتة والغنوة والفكرة، إن الإستمراء فى عزف ذات المقطوعة السحرية ينتزع منها صفتها المُشعوذة.
بينما إن تحدثنا عن فيلم الأنيميشن الفرنسى ernest &Celestine والمرشح لأوسكار هذا العام، يلزمنا بعض التمهل لكى نمحو الكثير من خيالات الصورة المضمنة فى السطور السابقة، والإستعاضة عنها ببعض الهدوء وشىء من الطمأنينة والتبصر والعزوف عن صخب العالم لوقت طويل، فهو فيلم يحمل فى مضمونه مفهوما آخر للعذوبة مُضفرا فى كل عناصره بداية من تلك الموسيقى الرقيقة التى تشمل جنباته من المشهد الأول للأخير، ومرورا بهذا النبوغ فى بناء عالم القصة المطروحة ما بين الشخصيات وتفاصيلها وبين العناية الدقيقة بمصير هذا الطرح، والعمل على سد هُوات فراغاته، وتحصينها أمام لحظات قد يشعر فيها المُتفرج ببعض من خيبة الأمل، إنه الفيلم الذى يُعظّم أكثر من قيمة هامة فى صمت وبدون أى إدعاء، متجنبا لهجة الوعظ، مائلا أكثر لأن يتناسى اللهث خلف الأغرض الفكرية، وهذه العفوية  ذاتها هى ما حملت معها الحقيقى والمميز جدا من الفكر .
القصة والسيناريو
يقوم الفيلم فى الأساس على المتاعب التى تواجهها علاقة صداقة غير مشروعة بين فأر (سلستين) ودُب (إرنست)، ولم تأتى العدمية فى مشروعية علاقة إرنست وسلستين لكونهما غير متناسبان فى الحجم، أو لإختلاف طبيعة كل منهما، وإنما خلق السيناريو فى الفيلم أسبابا أمتن وأكثر ثراءا على مستوى الدراما، أتت من افتراض وجود عالمى للدببة فوق الأرض والآخر للفئران تحت الأرض، عالمين متكاملين ينطويان على حياة كاملة لها قوانينها وضوابطها، مماثلة لحياة البشر فى كل شىء، يتعادى العالمين بينما يسود بينهما الإتفاق على مبدأ واحد " الفئران والدببة لا يجتمعان معا" ..
لم تقف تشعبات الموقف عند هذا الحد، بينما يبقى مزيد من التعقيد الذى يربط ما بين العالمين ويؤجج من حدة النفور بينهما، ففى عالم الفئران يسود إيمان طاغى صوب أهمية مايملكوه من اسنان، فهى ثروتهم التى تُعبر عنهم، وبالتالى ينتهجون مبدأ متفانى فى الحفاظ عليها، حتى وإن كان على حساب تسريح صغارهم ليلا ليسترقون أسنة الدببة الصغيرة، فهو سبيل مُقنع يُبرر لقاء سلستين بإرنيست، ويُمثل شىء من الحقيقية قد يضرب بها سيناريو آخر عرض الحائط، ويجعل من المتاعب والغربة التى يُلاقيها سلستين فى عالمه ذريعة تزك به لوطأة عالم الدببة، فمن الطبيعى وبالرغم من كل ما يُلاقيه سلستين من صعوبات فى التأقلم والتعايش إلا أن من حوله يظلوا ذويه وأهله، وهى السمة التى حافظ عليها السيناريو دوما، فحتى بعد تعارف ارنييست وسلستين، آثر سلستين أن يطلب من ارنست اعتمادا على حجمه المساعدة فى سرقة كمية مهولة من الأسنان، مُقدما اياها لأهله عاملا على إرضائهم، وحتى عندما تسوء الظروف ويضطر سلستين العيش مع ارنيست فى منزله، تغشى عينيه الدموع من حين لآخر ويقول " أنا منبوذ"، فبالرغم من كل هذه السعادة التى تغمره مازال جزء منه يشعر بالغيرة على هويته، وهذا بالأمر الطبيعى الذى فطن اليه السيناريو وجسده بصورة محكمة، تماما كما فعلها مع ارنيست فى بداية تقبله بصعوبة فكرة الحياة فى مكان واحد مع سلستين، والحلم الذى راوده حيال مخاوفه من وجود سلستين فى منزله لكونه قد يجلب عليه المزيد من الفئران. إن السيناريو شرّح طبيعة هذه التفاصيل التى نتجت عن حكايته الخيالية بكل جدية فأضفى عليها طابعا آخر يشبهها دون غيرها.
إرنيست وسلستين
الأبرز فى تقديمها كانت سلستين، فهى على الرغم من صغر سنها، مختلفة ذكية وجريئة، ثلاثة صفات اختار السيناريو أن يعنوّن بها شخصية تلك الفأرة الصغيرة، فمنذ المشهد الأول تخط بقلمها رسمة لفأر ودب، وبينما تأتى مشرفة العنبر وتمارس سلطتها فى تخويف الصغار بقصة الدُب المتوحش، مُثقلة على ظل لحظة التفاؤل التى بثتها سلستين مع رسمتها للمُتفرج فى أول لقطة، تعود الصغيرة لتُمحى جثامة حضور هذه السيدة الفظة، مُلقية بتخويفاتها عرض الحائط وهى تُضيف بسمة على شفتى الدب والفأر وبعدها ينتهى المشهد. نفس الجرأة نعهدها فيها وقتما شرع ارنيست أكلها فى أول لقاء بينهما، واجهته فى رباطة جأش بأنها فأر صغير لن يسد أبدا من جوعه، وبدأت تتفحص حالته الجسدية التى تبعث على الرثاء وتُنذر بالمرض فى ثقة طبيب خبير، ومن ثم ساعدته فى حصول على طعام. سلستين موهوبة أيضا تعشق الرسم، وهو ما كان بمثابة مشكلتها الحقيقة فى عدم مواكبة العيش بين فئران جل ما يؤمنون به فى انفسهم هو قوة أسنانهم، هى لا تريد أن تصبح طبيبة فى الكِبر بينما ترغب فى مزاولة الرسم، وقد صورت اللقطة التى جرت فيها سلستين نحو دفتر رسوماتها_ الذى قد منعه عنها الطبيب عقابا لها عن تشاغلها به بدلا من جمع الأسنان_مدى تعلقها بهذا الفن وكم هو جزء من نفسها لا يمكن التخلى عنه.
يأتى ارنيست فى مرتبة تبعد كل البعد عن العناية بتفاصيل شخصية سلستين، فبرغم التقديم المُنفرد له فى بداية الفيلم، إلا أن هذا التقديم لم يتمركز سوى حول خدمة الدراما لا الشخصية، فتراه فى أول مشهدين جائع وهمجى بعض الشىء لوقت طويل، حتى حينما استخدم آالته الموسيقية فى الشارع استخدمها بنفس الروح التى لم تُعبر عن تكوينه الحقيقى، الذى يتفاجىء به المُتفرج حينما يراه وهو يعزف فيما بعد على البيانو الخاص به، فجزء التقارب الذى جمع بينه وبين سلستين لم يتضح إلا بعد معايشتهما معا، ولكن على أية حال الفيلم أظهر من طيبته وطفوليته شىء ما خلق قدر من الود الذى وطتدته الظروف فيما بعد بينه وبين سلستين.
التنفيذ التقنى
تنفيذ الرسوم فى الفيلم  بدا أقرب للرسم اليدوى، الزاهد عن كثير من التكنولوجيات التى تُحمّل الصورة فوق طاقتها، ولذلك بزغت فى أوج بساطتها وأطلت فى رهافة تناسب تماما الفيلم بأكمله، حتى الألوان كانت هادئة ورائقة ومريحة للعين، والإعداد البصرى كله جاء مواكبا فى تعبيرية متوائمة جدا مع أى موقف وحدث طارىء، فمثلا حينما كان يستمع ارنيست وسلستين إلى الموسيقى، فى الوقت الذى حث فيه ارنيست سلستين على رسم لوحة للطبيعة، أبرزت الشاشة حينها نبض متوافق ما بين النغم والخطوط المبدأية للرسم، خالقة حالة من الشبق بالفن والجمال.
وبالرغم من هذه النعومة التى توافرت فى تصميم الرسم، إلا أنها استوعبت ملامح شكل عالمى الدببة والفئران،والتى يتطرف فيها التناقض من الضخم للصغير، فالعالم الفوقى للددبة يتعاظم فى كبره، بينما ينتحى عالم الفئران لمزيد من الضآلة فى كل شىء بداية من الطرقات، والمنازل، والبحيرات، وغيرها، وقد تجلى هذا التنباين الحاد فى الحجم وقت مطاردة ارنيست حينما ضبطه عدد من الفئران بالخطأ فى عالم السفلى.
آخر كلمتين:

_ارنيست وسلستين .. فيلم يعيد إليك بعض من بساطة قد افتقدتها منذ وقت، يكمن بها سر آخر من أسرار الحياة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...